المــــــــوت قــــدر الكائــــن-عزيز باكوش-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

المــــــــوت قــــدر الكائــــن

ع أنه ذكي جدا فيما يتصور،  فأن ذلك أصبح غير مقنع البتة  بمجرد التأمل في صيغة للتفاوض من أجل حياة يسيجها الاستقرار ويطوقها اتزان مشوب بالحذر. لقد توقف فجأة عداد حياته عن الحركة ، وبذلك توقف عن إعداد رسالته الجامعية . وفيما أصبح سلوكه شاذا وغير منسجم ،  غدت قدراته الفكرية والجسدية عاجزة تماما عن مواصلة وظائفها  ، متطلبات البيت.. إكراهات الجامعة...لقد بات أكثر يأسا وعلى مرمى حجر من الفاجعة . لكن،  للحقيقة والتاريخ ،  فهو لم يستهتر لحظة بذلك ،  على العكس ، كان يردد دائما " أن أقصى درجات البؤس أن ترغب في أي شيئ حد الهوس،  ولن تناله رغم عزوف معظم الناس عنه.
  هو الآن داخل العيادة  سيما بعد أن تفاقمت حالته الصحية  وبشكل مهول ، هذا التفاقم الذي سيدشن علاجا ماراتونيا سيمتد على مدى  ثلاثة آلاف وخمسون يوما ، ..تعليمات طبية صارمة  تنغصها أربع جلسات في الأسبوع ، أما عدد الساعات التي استلقى خلالها فوق  أريكة التحليل  فقد ناهزت  ألفا ومائتين وخمسين ساعة ،  ذاكرة سحيقة من الأفكار والوقائع  والأحداث  ،  ثورة هذيانية  تتكيف مع أدق التفاصيل لقصة حياة ناشزة عرفت فصولا متقلبة مثيرة ورهيبة . يحكي صاحبنا عنها في فصل من مذكراته فيقول "  لم أكن بمثل الجسارة  والقوة للنبش في مدافنها ،  كان ذلك بالنسبة لي الجرح ،  كان علي أن أفعل ذلك من غير صنعة بل بمنتهى التركيز والحساسية" . ومع ذلك،  فقد ظل  على الدوام  مقتنعا في بداية الأمر بفاعلية هذا العلاج النفسي وبمصداقية الكثير من حدوسه وتنبؤاته التي غالبا ما كان يكرس المعطى العلمي أحد أهم مرتكزاتها،   بل كان لفترة من أبرز الدعاة الى تطوير أساليبه وطرق علاجه  ، ويمكن العثور على ذلك  في الفصل الثالث من رسالته الدكتوراه التي يحضرها  في علم الاجتماع واللغات القديمة،   وتحديدا " مبحث  تطور بيولوجيا الجهاز العصبي  وتأثيره على التحليل النفسي"  فهو يقول"  صحيح أن التحليل النفسي قد بدأ يفقد مواقعه أمام الزحف الكبير لعلوم البيولوجية للجهاز العصبي،  لكنه ،  وفي اعتقادي لا خوف على التحليل النفسي من تطور المعارف العلمية بشكل عام  ، وعلى هذا الأساس ،  لازال يذكر أنه  كان يرشق بالسذاجة والغفل كل أولئك الذين يرجحون فكرة إن المحلل النفسي قد يلعب دورا خطيرا وحاسما في دفع الكثير من مرضاه الى الانتحار والمعارك الكلامية ذات الطابع المذهبي من أجل تكريس ذاك الاعتقاد ، ولكن ، هل يسمح بالقول إن المرضى النفسانيين هم حتما مجرد حفنة زبائن سفلة يعيشون حياة سيئة.؟ .أجل،  سيئة.. لكنه،  فيما بعد صار يعلم تفاصيل مروعة ،  فقد جاء اليوم الذي أصبح فيه المحلل النفسي سلطة معرفية لا تقاوم ،  قوة  تخضعه بانتظام  لسلطة بوليسية دائمة ، "وهذا ما نغص حياتي وعيشي وشجعني أكثر من مرة على النبش في المدافن من أجل العثور على لوح الخلاص الأبدي  "
 وغداة الشهور التي أعقبت ذلك ، أي مع مطلع السنة الحادية عشر من ارتباطه بالجامعة ،  لم تكن النتائج التي توصل إليها الطبيب النفسي تدعو لأي أمل. أما النتيجة  فكانت عبارة عن كيلوغرامات من المواد المنبهة والمهدئة ازدادت معها صحته اعتلالا  شهرا بعد آخر ، لقد أصبح  أشبه بحطام آدمي ،  بقايا إنسان ، لحظتئذ وبجرأة نادرة انصاع من غير تردد لنصائح الطبيب التي كانت تتوالى سافرة جائرة ، " أنصحك أيها السيد المحترم ، أن تكف عن تعذيب زوجتك وطفلتك ، لقد ضاقتا ذرعا بتصرفاتك ، عليك أن تبتعد أجل،  وأن تعمل على تحقيق الأقصى من ذلك ،"  أن يفشل الجامعي في تحضير رسالة جامعية ، أن يبتعد المرء عن زوجته وطفلته الجميلة آية التي كانت مثل قارورة عسل أو أمها التي كانت تفوح شهوة تمطر البيت بهجة وسعادة ، يمكن أن يحصل ذلك،  لكن بناء على نصيحة الطبيب ،ولشخص مريض فار من سلطة القانون والمجتمع ليصطدم بنوع آخر من السلط،  سلطة الطبيب  التي بدت لفترة أشد وأقسى،  فتلك حدود الكارثة .  لقد تسرب إليه  ساعتئد أن ثمة شيئ بدا واضحا ،  ذلك أن هذا الإنسان المنعزل الوحيد الفار لا يمكن أن يظلم أحدا أو يرتكب جريمة إلا في حق نفسه .  من فيكم يتعارض مع هذا الطرح ؟ هكذا يسال نفسه وبصوت مسموع " المحلل النفسي رجل سلطوي،  وسلطته رغم فضاعتها معترف بها اجتماعيا وقانونيا ، إذ تتجاوز في معظم الأحيان سلطة المرض أو الجنون ذاته ، أليس العنف ضروريا لمواجهة الحالات والاضطرابات النفسية الناجمة عن إفرازات مختلفة تشكل خطرا على حياة الآخرين؟  لنؤمن مؤقتا بالعنف وسيلة ضد الذات ،هكذا يبرر بعض الأطباء طبيعة علاقتهم بمرضاهم .وفي اعتقادي إن السبب في ذلك أنهم يواجهون صعوبة مرة في فهم حدود سلطتهم،  ولكن،  أليست مهمتهم تنحصر في إعادة التوازن السوي للسلوك المنحرف لا الى تدمير ممنهج للجسد ؟ لقد كان على اقتناع أن قصور هذا المحلل أو ذاك ، ليس قصورا في التحليل النفسي نظريا أو ميدانيا،  إذ كثيرا ما يفهم المحلل مريضه ويدخلان معا منطقة اللاوعي،  فيقبلان بالجنون ويتعاملان معه .  لكنه بالمقابل ، كان على علم بكثير من الأبحاث المنشورة التي أكدت على فشل الكثيرين،  بل أكثر من ذلك نسبة منهم أقدموا على الانتحار من جراء فشلهم . لكن الذي سيحدث خلال الأسابيع القادمة  وبالضبط في مصحة نفسية يؤسف له حقا.  إذ أقدم المحلل النفيس الفيلسوف " أجاب أميري " على الانتحار .؟؟؟؟؟؟  حدث هذا يا للغرابة في المكان الذي أقدم فيه أحد المرضى على قتل طبيبه . لقد برر هذا المريض ذلك قائلا " لقد عجز عن إنقادي،  فبعثت به فورا  الى الجحيم". هل ترجحون الطرح القائل إن علماء النفس ليسوا في الحقيقة سوى دجالين ومشعوذين مهرة ؟ أجل،  إن فكرة الانتحار حاضرة في معظم حضارات البشر،  لكن من غير المؤكد حتى الآن،  ما إذا كانت فئات اجتماعية معينة وفي مجتمع محدد هي التي ترغب في ذلك؟ لقد قرأ في إحدى المجلات المتخصصة أن في بلد كأمريكا سجلت نسبة المنتحرين من فئات المثقفين رقما قياسيا ، ويبدو له الآن  أن النقاش الدائر في تلك الأوساط قد تعدى مقولة إن الانتحار هو الحل الوحيد من أجل الخلاص ، بل لقد تجاوز ذلك الى اختيار نوع الموت المرغوب فيه .   الانتحار ليس انتحارا إذا كان سببه إحساس المنتحر بأنه مضطهد ،  وان كرامته قد امتهنت،  ويمكن أن يكون الإقدام على فعل ذلك يدفعه نوع من الحماس الذاتي والرغبة في تبليغ الرفض العنيف.  والآن فقط ، أليس من الممكن القول إن وظيفة التحليل النفسي لا تعدو كونها تدريبا على التكيف مع الواقع الذي أراده نظام سياسي واجتماعي ما ؟ لنتأمل ذلك جيدا ،  فالسبب الأساسي هو عدم كفاءة بعض المحللين النفسيين،  أن عدم براعتهم تجعل المريض الخاضع لسلطتهم مجنونا ،  فيلتجئون الى معاقبته أحيانا .  إذا لم تحرز صحته تقدما ملموسا وهو الأمر الذي يعزز شعور المريض بالنقص والدونية  ويدفعه بالتالي إلى اليأس  ثم إلى التفكير في الانتحار .



  الانتحار بين الوعي واللاوعي " أيسمون باينستون"
  عزيز باكوش-المغرب (2010-06-07)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

المــــــــوت قــــدر الكائــــن-عزيز باكوش-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia