انتقال-محمد مباركي /المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

انتقال

  محمد مباركي    

أعياه الجلوس في المقهى وحيدا قبالة شاطئ البحر ، فنهض يمشي متثاقلا بجسم متهالك على رصيف  كورنيش الشاطئ الطويل ، و الأسئلة كالجرادات الهائمة تتقافز أمامه مسافة متر أو مترين . شدت ناظريه صورة الأمواج، تُلاحِق الواحدة منها  الأخرى في دعابة الأطفال  لتتكسر على الرمال في هدوء،
 و الشمس مائلة للمغيب تعانق الأفق في شوق ، مودعة نهار هذه المدينة الصغيرة  بازدراء واضح . انتفخ قرصها و مال إلى الحُمرة   القانية . و كانت في وسط النهار قريبة من رؤوس العباد، لفحتهم  في الدور
 و الطرقات بلهيب حاقد . و تنفس البحر نسمات خرجت من الجنة ، دغدغت الأجسام و رممت ما حطمه القيظ  .توقف عن المشي و ملأ رئتيه بهواء رطب أنعشه ،فأحس بروحه تخرج من بين جوانبه و تحلق مع النوارس البيضاء ، و ندم على طول تلك  الجلسة في المقهى وسط  عربدة المصطافين .
 و بدأ يكيل لنفسه التوبيخات و الأسئلة :
-  كيف استكنت لهم  بسرعة؟.. لماذا لم تصرخ في وجوههم ؟ .. لماذا لم تعريهم كما ولدتهم أمهاتهم ؟.
 أحس  بوجوده المفاجئ في هذه المدينة كطير جريح   خرّ من السماء ، تلاحقه لعنة انتقال تأديبي . طبخه بمكر أعضاء مجلس إدارة المؤسسة البنكية التي كان يعمل بها  .  تمنى لو أنهم أصدروا أي قرار إلا هذا ، صحيح أنه أخف العقوبات ، لكن كان عليهم أن يُوَبخوه مثلا أو يتخذوا أي إجراء إلا هذا الانتقال التأديبي الذي سبقه كالبرق إلى مكتب رئيسه الجديد ، و استحضر صورة الاستقبال البارد الممزوج بنظرات الريبة للرئيس و المستخدمين . كتم غيضه من كلمات تطايرت كالشظايا و ابتسامات ساخرة على طرفي الشفاه وسط الوكالة  التي بدت له كالزنزانة . هو الذي ألف البناية الضخمة للبنك و مكتبه الواسع يكاد يقارب مساحة نصف هذه الوكالة ، كان يعتز بجلوسه إلى مكتبه المكيّف ، يأتيه نادل المقهى المجاور بوجبة فطوره المفضل ، و يستقبل الزبناء بروح الدعابة و البِشر تتجدد مع مطلع كل يوم . و تحركت أسافين الغيرة في نفوس مريضة لبعض زملائه ، لم يكترث إلى درجة اللامبالاة ،فثقته الزائدة بنفسه إلى درجة الغرور و كفاءته العالية أعمته عن الحذر من كل ما يمكن أن يحاك ضده من  دسائس من صنع نوع وضيع من البشر، ينفقون الشر بسخاء . لم يستسيغوا تفوقه الباهر رغم حداثة عهده بالبنك ، و ترشيحه لمنصب رئيس وكالة جديدة يعتزم البنك فتحها في الضواحي . أحس بذكائه الاجتماعي الثاقب أن شيئا يحاك ضده ، و استهتر بنصيحة رئيسه المباشر الذي كان يقدره كثيرا ، و لم يكن يتوقع كيف تم استثمار خطئه البسيط للتشهير بشخصه والإيقاع به . و جاء الانتقال التأديبي ليعصف بالمنصب الذي كان منه قاب قوسين ، و أحس بالتنكر لكل مجهوداته . تملكته ثورة  داخلية عارمة حتى فكر في الاستقالة ، إلا أن مواساة رئيسه نزلت عليه كالبلسم و أعادت إليه بصيص أمل كان قد انهار تماما .
و عاد ينظر إلى الموج الذي استوقفه و خلب لُبَه .



 
  محمد مباركي /المغرب (2010-06-24)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

انتقال-محمد مباركي /المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia