لحظة قرار-عزيز الشدادي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

لحظة قرار

طرد نفسه من مكتبه بكل غضب. كل قضايا موكليه جاهزة للمرافعة. انسل حائرا من أمام السكرتيرة الحسناء وهي ترقن بحماس على الحاسوب مذكرات المساء التي سترسل إلى المحكمة. عرف أن خطواته تقودانه إلى المقهى لشرب فنجان يساعد على تذويب حيرته. عرج على الكشك وخطف جريدة الصباح.
جلس شاردا في تحلل قطعتي السكر. فتح الجريدة. وجد في صفحة الاقتصاد مقالا فيه تحليل ورأي وإحصاء. في الإحصاء رقم الأطر التي هاجرت وولت ظهرها للبلد. الرقم في تزايد مطرد. يكبر الرقم ويتعاظم الإحساس فيه بالتردد والعجز على اتخاذ القرار. هجرة الكفاءات نوع آخر من الهجرة المنظمة. يختم صاحب المقال. بمعنى بسيط هو نوع من تهريب البشر. هذا ما استخلصه وهو جالس أمام وكيل مكتب الهجرة. ما زال يتذكره وهو يرسم له أحلاما وردية هناك ويبشره بالمستقبل الزاهر. يصنع له واقعا افتراضيا، يريده أن يصنع حياة مفصلة على مقاس واحد للجميع في مكان يجهله وزمان لا يملكه. يبيعه الوهم، فهل يشتري؟
لم يقدر على الإجابة، فطوى الصفحة ثم لمﱠ فكرته المشتتة. تجميعها يعني التنفيذ والتنفيذ يبغي الإرادة وإرادته عاجزة ومترددة. يتذكر كلمة المتردد. هذا ما نعتته به قبل أن يتزوجها. فهل يثبت لها العكس ويأخذها بين ذراعيه في هجرته لكي يختصر الزمن المتبقي؟ "الغربة هي خيانة مقصودة للذات"، يتذكر حواره معها حول الإنسان والتغيير ومن الذي بصنع الآخر. تتناسل الأسئلة ويعدَم الجواب، وتحضر الحيرة ويغيب القرار. يستجمع بقايا قواه ويجمع الجريدة. النادل تمنى له نهارا طيبا. بدت له هذه الأمنية مستحيلة وهو عائد أدراجه إلى المكتب لينهي ما تبقى من ملفات الصباح ويستقبل زبناء جدد. ليس في رأسه المنهك بالحيرة والقلق مجال لسماع قضايا الآخرين. المطلوب منه إيجاد الحل. لكن قضيته لا تحتاج إلى حل، محتاجة فقط لنفس شرهة وجسد نهم يريد أن يقتص من الحياة بأي شكل ولو لم يكن في موقع المعتدى عليه. انتفض من كرسيه الجلدي وكأنه يرفض أن يكون في موقع المظلومين.
الإحساس بالضعف شيء رهيب وشلل الإرادة تزيده مرارة. هكذا صرح لها وهما يتناولان طعام الغذاء بفتور بارد. "لست مستعدة للتضحية بمستقبل ابنتنا". مجرد جملة سقطت عليه كمقصلة أخرست الجزء الباقي القادر على التفكير وأعطبت مسار اللقمة في فمه. حول نظره إلى التلفاز هاربا من مواجهة فكرية محتملة لم يعد مستعدا له. انغرس بصره في المشهد: "ستذهب إلى هناك كزائر منتصف الليل، ثقيل ومزعج. اذهب إلى حيث تتوقف حياتك، إلى حيث يجمد فيك الإحساس بالانتماء. لن تنعم بالدفء هناك، في ذلك البلد البارد. تغرﱠب لكي يشهد البحر الذي ستقطعه على فشلك الواضح في صنع مجد خاص بك في مكانك وزمنك". استفزه المشهد واستلقى بكسل على ظهر الكنبة قبل أن ينثر سترته ويسحب الباب بعنف القلق الذي يغلي بداخله، تاركا الحرية لهواجسه للتعبير عن نفسها.
لم يجد نفسه التائهة بالمكتب. جسد حاضر وذهن غائب، يصنع القصور ويهدمها، يخلق المشاكل ويقترح الحلول، يقيم التكهنات ويرجح الاحتمالات على حياة لا يملكها ويريد أن يصنعها في أرض لا يعرفها إلا على الخريطة. قلقه مرتبط بالخوف: الخوف من الفشل ومن الإخفاق في أن يثبت لنفسه على الأقل أنه نجح في مكان ما واستطاع أن يحفر الصخر ويجابه الصعاب لكي يفرض نفسه على الآخر في بلده. يتساءل بسخرية: "وهل الآخر في حاجة لأن تبرهن له عن جدارتك؟"
تراوده الأحلام وتتقاذفه الأوهام وتحمله رجليه إلى خارج المكتب باحثا عن هواء يوسع قفصه الصدري الذي ضاق بالحيرة. يهرب وحيدا إلى حيث لا يعرف، يهرب من أصدقائه لعدم قدرتهم على اتخاذ القرار مكانه، يتحاشى نقاشه معهم بخصوص موضوع هجرته وترك البلد مادام ليس سيد القرار وما داموا غير مستعدين لمناقشة عقد سعادة مع الحياة لعدم وضوح شروط المستقبل كوضوح هذا الشارع الذي حفظه عن ظهر قلب، ألف الناس وآلفوه وسيفقد الحي بهجته كما فقدها بغياب صديق طفولته الذي حسم الأمر وسافر. ترى، كما يلزمه إذا ما هاجر من الوقت لكي يخلق الأنس وينعم بالألفة؟ سيذهب ليختصر الوقت ويلخص الزمن. فما قيمة ما سيتبقى؟ لم يبق منه سوى جسد منهوك وأنف يزفر الغضب والحسرة.
دلف الباب وألقى تحية المساء عليها بالمطبخ دون كبير اهتمام. رمى بالسترة واتجه إلى الحاسوب بإهمال يتفحص بعينين ناعستين رسالة وصلت البارحة من صديق الطفولة: "ابق هناك. الغربة انتحار هادئ. فرق بين الوهم وما نريد أن نقنع أنفسنا به. تحياتي". قام منتفضا من الكرسي وأطفأ الحاسوب بغضب بارد مصحوب بتنهد اليائس من شيء ما. أدرك بأنه يتخبط في الحيرة ولا يقدر على الحسم. استلقى على ظهره وأغمض عينيه باحثا عن راحة يعرف مسبقا أنه ليس ببالغها. تتناسل الأسئلة في صمت، يتساءل ويتساءل ولا يجد جوابا على سؤاله المؤرق: هل يطرد نفسه طواعية من البلد ويراهن على هوية أسرته؟



  aziz.cheddadi@yahoo.fr
  عزيز الشدادي (المغرب) (2008-05-03)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

لحظة قرار-عزيز الشدادي (المغرب)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia