الخطان المتوازيان-الأستاذ محمد بقوح
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

الخطان المتوازيان

تمايل جسده على السرير .يزداد مذاق النوم حلاوة في أيام البرد القارس .هكذا فكر،قبل أن يرن جرس المنبه على يسار وسادته، للمرة الخامسة. وقف فجأة متعصبا . مفعول سهرة البارحة الخمرية في أفخم صالونات المدينة ما يزال ساريا في دواليب دمه. سار حافيا تجاه المرحاض. وجد هناك ماء دافئا جاهزا. غسل بسرعة فائقة، فعاد إلى المطبخ. تناول وجبة الفطور. بعدها أفرغ كأس "بيرة" في جوفه الغائر. نظر إلى وجهه في المرآة، وجده وجه خفاش أشقر كما كان منذ زمان بعيد. وبعد لحظات، أراد له أن يكون وجه طائر وديع، يوزع البسمات على شجيرات هذه الغابة، فكان له ذلك.الجو جدا بارد. أفرغ كأسا ثانية في جوفه العطشان، تحولت أنيابه في رمشة عين إلى منقار بهي ، وقرناه الحادان انهارا انهيار جبل ثلجي في بياض إشراقة شمس . من عادته أن يعاملنا بكل احترام وتقدير، في وطن الورود والأشجار المغـتـالة ، والقـطيع المدجج بسلاح الخوف والصمت القاتل، والنار المحاصرة في زنزانة النار ، تأكل ذاتها،عند عتبات الحرف والغضب الوهاج ... إن هذا الخفاش الأنيق ليس غريبا أن يعيش أكثر غربة وغرابة في مغارتنا ..مغارة جسد حي كله حيوية ونشاط، ينتج كل طاقة البلد ..بما فيها طاقة الخفافيش الذين يحكموننا .. في غابة ،يكاد يشلها الصراع غير المجدي ،صراع يشبه دورة العجلة المملة .

هو خفاش من هيئة الخفافيش الوازنة.. مدمن على امتصاص دم الشجر والبحر .. بحرنا الذي يعترف التاريخ بقوته وعزة نفسه ،والذي يبحث لنفسه عن جهة أخرى غير جهة الصراع ضد العواصف الحديثة..تائها ضائعا بين دهاليز الليل العاتي .لا ،هو ليس ضائع بل يؤجل فقط سعادته إلى اليوم المناسب .

أحكم ربطة عنقه حول عنقه المنكمش والمزغب. أعاد أذني قميصه الأسود إلى وضعهما الأصلي. عاد له وجهه المزيف كرئيس غابة، أو حارس زنزانة الأشراف .. هيئة الخفافيش . ارتدى معطفه الصوفي المفضل لديه. وضع أحسن عطر يملكه في مكتبة قنينات الخمر/ الدم الفارغة. غادر جحره الليلي متجهما إلى باب الإدارة. تذكر وهو في ساحة المعمل الواسعة سعة الفراغ ، ذنبه الطويل الذي يلازمه كثيرا هذه الأيام الباردة والقاسية ربما أكثر من ظله. يبدو الخفاش المقنع بربطة عنق نشيطا هذا الصباح أكثر من اللازم . طرق بابا من قصب . خرج ذنبه المعكر الوجه.. والذي حياه. ألصقه الخفاش في مؤخرته بسهولة تامة، ودون أن ينبس الذنب الرفيق بكلمة واحدة .... وبطريقة إيقاعية توحي بإحدى نغمات رقصة الراي ، تابع سيره الجميل إلى مخدعه الدموي، حيث تجرى عمليات سفك رحيق الورد دون ذبحه ...لتصل روائح زبالة تاريخ ،هذا الشيخ الأحمق البليد ،إلى أعشاشه الوصية في قمم أشجار الشمس الصديقة..

جفف دمعك المصقول بنجمات جرأة من قصب، أيها الخفاش المجرور بجسر أقمار خائنة.. ينبذها التاريخ ... تختفي داخل سلال كلام مغربل الوجه، كصورة وجهك المخصي في مرآة ندية ... أنت مغدور فاكهة فخاخك الجبانة ...

دخل عليه فجأة العامل الهادي. وجده في قمة سعادته . كان الهادي ممثلنا في معمل صناعة السكر .لكن في الآونة الأخيرة ،اكتشفنا أمرا خطيرا.إن صاحب المعمل يجرنا دون أن ندري إلى ارتكاب جريمة في حق المواطنين والوطن وكل البشر .ذلك أن السكر، الذي نعتقد أننا نصنعه بكفاءة عالية، يصدر إلى الكثير من دول الخارج. لكن بوجه آخر غير وجه السكر.. إن الذي كنا نجهله هو أن يعمل الخفاش ،بمعية أعوانه وأمثاله ،على شحن الصناديق السكرية بالمخدرات ليقوم بعد ذلك بتصديرها إلى جهات أخرى ،في المواسم الباردة والليالي الكالحة المعدة مسبقا لإنجاح العملية. وصلتنا هذه المعلومات من مصدر جد مؤكد ،لأنه جد قريب منها.

دق الباب ثم دخل .. يبدو الهادي كما نعرفه منذ زمان، واثقا من نفسه، رغم جسمه الهزيل ومرضه المستمر. حقيبته الجلدية على ظهره ككومة رمل في كيس ثقيل. أشار له المدير بالجلوس على أقرب كرسي. لم يستجب له العامل. ظل هادئا دون أن يظهر أي شيء مما ينوي القيام به.. في هذه الأثناء ازدادت ملامح وجهه وضوحا وصلابة. عدل الخفاش من جلسته على كرسيه الجلدي والمتحرك، حاول أن يوقظ في دواخله منقاره الدموي. يبدو عليه نوع من التوتر وعدم الارتياح، لوجود العامل الهادي غير المتوقع .. والواقف هكذا أمامه كالنخلة السامقة .
ـ سمعت أنك تحرض العمال ضدي .كن جميلا يا بني لأكون معك أجمل.
ـ صحيح سيدي.. لكن ليس ضدك .. بل ضد قهر الإدارة .. ثم أنني لا أريد أن أكون جميلا .. بل أقبح من القبح ذاته مع أمثالك.. إنهم كلهم في المعمل باتوا يعرفون حقيقتك .. إنك تحتقرنا وتستصغر حجمنا نحن الذين صنعنا أمجادك بسواعدنا وعلى ظهورنا.. إنك ومن معك تتلاعبون في السكر ..وتصدرون بدلا عنه مادة المخدر ..
ـ اصمت يا كلب ..أنت تهذي بلا شك..سأكلم طبيب المعمل ليكشف عن حالتك.. الصحية..
-الكلب هو من أنجبك ولم يربيك يا مجرم ..أنا في كامل قواي العقلية.
بعد أن صرخ الخفاش، وكشر أنيابه وكل ما يملك من مخالبه وأسلحته الظاهرة.. وبقيت الخفية .. لم يلحظ أي تأثير لكل ذلك على ممثل العمال الهادي .آنذاك رفع سماعة الهاتف، وأجرى مكالمة قصيرة، ليحضر بعد قليل الكثير من عمال المعمل في رمشة عين ..
وجدوا صديقهم وزميلهم العامل الهادي واقفا أمام مكتب المدير العام للمعمل ، دون حراك ، كما لو كان نخلة سامقة ..
-يقول زميلكم كلاما غريبا في حقي ..
-ماذا يقول يا سيدي ..؟
-نظر الهادي إلى زميله المتحدث، دون أن يفهم ..
-يقول بأنني أصنع مادة أخرى غير السكر..
-أفصح سيدي ..نحن لا نصنع في هذا المعمل غير السكر ..
-إن هذا الكلب يزعم أنني أصنع المخدر ..هل صحيح..
وقبل أن ينهي كلامه، رد جميع العمال الحاضرين بصوت واحد، وكأنهم اتفقوا ..
-هذا غير صحيح ياحاج ..أعوذ بالله...
لم يتحمل الهادي صدمة ما رأى وما سمعت أذناه.. ولم يستطع أن ينبس ولو بحرف واحد، بل ابتلع ريقه وتركهم دون أن يُعلم إلى حد الساعة أين ذهب.. وإلى أي منحى اتجه..
قال أحدهم للمدير ،الذي تحول إلى خفاش في غاية سعادته:
-سيدي .. الهادي مريض كل هذه الأيام، وقبل أن يأتيك بتلك "الخزعبلات"، كان ينطق بيننا بكلام كله غريب...


محمد بقوح
akssidi@voila.fr
(المغرب)



 
  الأستاذ محمد بقوح (2007-11-09)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

الخطان المتوازيان-الأستاذ محمد بقوح

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia