كنت حديثَ العهد بمدينةٍ صغيرةٍ قابعةٍ عند إلتواءات جبلية جرداء ، لا زالت تلبس أسْمال عهد منجمي ، كان زاهرا . نضب معين المنجم ، إلا من بقاياه الموغلة في أنفاق أرضية عميقة ، يغور فيها بعض المغامرين من المنجميين السابقين يوميا ، لعّلهم يعثرون على بقايا المعدن بين الطبقات الصخرية . يستخرجونه بمشقة كبيرة لبيعه إلى الصناع التقليديين .
و المدينة بسكانها و منجمييها و سكان القرى المجاورة ، كانت هذا اليوم تودع أحد رموزها إلى مثواه الأخير . رجل عمّر طويلا . قالوا إنه أول من بنا أول بيت في المدينة . بناه بالطابية و القصب . ولد فيه كل أبنائه من زوجته الأولى . و احتضن المنزل اجتماعات خلايا الوطنيين أيام الحجر و الحماية، بل كان مركزا لتجميع السلاح القادم من جبل طارق . يحتفظ الوطنيون بالثلث و يُمَررون الثلثين عبر الحدود إلى " الخاوة " في الوطن المجاور الشقيق . لكن وبعد الاستقلال المغشوش قيل لي أن من تولوا أمر البلاد و العباد تنكروا للمنزل و صاحبه " دايدي ". تألم الفقيد كثيرا لذلك التَنكر ذي الوجهين لعملة زائفة ، وجهها وطني وظهرها أجنبي . و ما حزّ في نفسية دايدي هو ظلم ذوي القربى، إذ كان أشد مرارة عليه من تنكر الآخرين ، الذين يَعْرَفُ جِبِلتهم على اللؤم ، بحكم الجوار الفاسد.
و لم تقف الحكاية عند هذا الحد ، فقد نال دايدي نصيبه من وليمة أيام الرصاص الملعونة . باعتقاله
و تغييبه في غيابات المعتقلات السرية ، جثم الرعب على المدينة . و حاصر البوليس منزله و شدد الخناق عليه ليل نهار . انفض الناس من حول المنزل . و لما كانوا يمرون قربه يحوّلون أنظارهم عنه
و يهرولون كهرولة الحجيج بين الصفا و المروة ، متصنعين الخوف . و قد مثلوا أدوارا ممتازة بصنيعهم ذاك .
سألت البعض كيف عاش أبناء دايدي و هو في المعتقل . فكانت إجابتهم في غاية الغرابة . إذ امتزجت شهامة و مروءة القوم في تحدٍ كبيرٍ لإرهاب الدولة المنظم . حفر الجيران نفقين من منزلين مجاورين ، عبرهما تم تمرير المئونة و الدواء و حتى أضحية العيد . فنعم أبناء دايدي بالخير الوفير .
و لم يكن انفضاض الناس عن المنزل إلا تمثيلية انطلت على البلداء صانعي الإجرام ، كانوا في تماس مع الحمير ( و إن كنت أستسمح هذا الحيوان الصبور).
ولما أفرج عن دايدي من المعتقل السري ، خرج صائما عن الكلام ، و لم يكلم إنسيا أبدا . يرد على تحايا الناس بإيماءة من رأسه و لا يزيد عليها . رآه الناس في شرود و تأمل دائمين . قالوا أنه لم يصدق ما وقع .
عاد إنسانا آخر . ليس دايدي السابق . كان حضوره السابق كبيرا في المدينة المنجمية ، في أفراحها
و مآتمها ..هو الذي قال ما قال لقائد مخنث من مواليد السبعينات حين تجاسر عليه ، و قال له كلاما فاحشا لعدم حضوره حفلا رسميا بالقيادة . كان رَدّ دايدي عنيفا لم يتوقعه المسئول الغر الذي احتمى برجال القوات المساعدة ، و أمرهم بالقبض عليه . لكن دايدي ذاد عن نفسه بعصاه و كان ما كان .
حكا الناس هذه الحكاية و حكوا الكثير من مواقفه الشجاعة و لم يملوا تكرارها على الغرباء من أمثالي ، حتى حولوها نياشين علقوها على صدره ، لا يراها سواهم .
كَبُرَ الرجل في عيني ، و خلت نفسي كأني جئت المدينة خصيصا للكتابة عنه ، لكن أحد الصحفيين المتمرسين في مثل هذه الشخوص سبقني إلى فك الشفرة المعقدة للرجل . و استطاع نسف خرسه في مقابلة بثتها قناة فضائية في عدة حلقات . تكلم فيها دايدي بلا خوف ولا عقدة ، و سمى الأشياء بمسمياتها .
و كشف عن أسماء لائحة طويلة للمسئولين عن أيام الرصاص . و تكلم بلغة قريبة من اللغة الفصحى ، حتى تساءل الناس من أين لدايدي بتلك اللغة .. صحيح أنه كان يحفظ أزجال شيوخ الأغنية البدوية في المنطقة الشرقية للمملكة و غرب الجزائر. و كان يجالسهم في الأفراح . الأفراح التي كانت فيها المدينة تغتسل من سواد الأنفاق المنجمية و تتحول إلى نَوََْرَس ٍ أبيض، أعدمتها أيام الرصاص.
كل الناس في المقبرة ، رفعوا أكف الضراعة للعلي القدير أن يتغمد الفقيد برحمته الواسعة و يُسكنه فسيح جنانه .