من أجل لقمة العيش-سمية يومة (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

من أجل لقمة العيش

  سمية يومة    

وقف للمرة العشرة أمام باب المعمل الذي كان يرده خائبا دائما، ويطلب منه أن يسجل اسمه حتى يفتح المعمل أبوابه، فيطلبون منه العودة بعد أسبوع وتحول الأسبوع إلى شهر وشهور، حتى ذهب يوما فأخبره المسؤول عن العمال أنه نزولا عند رغبة صاحب المعمل، فقد قرر تشغيل الفتيات فقط، فما كان من الشاب المسكين إلا أن أخذ سكينه وقام بقطع رجولته.... لا أحد كان يصدق تصرفه ولا الأسباب التي دفعته لفعل ذلك، ولكنه ربما هو نفس المنطق الذي يفكر به جميع عمال وأصحاب العمل، تشييء المرأة والنظر إليها نظرة مشترِ من خلف الزجاج، وكأن لا رصيد لديها سوى نهود وشفاه وقد, ربما لو كان هذا الرجل فكر بمنطق آخر وهو المنطق الذي يفكر به أرباب العمل الذين يشغلون النساء فقط، لو سأل نفسه ولم النساء؟ لو سأل نفسه هذا السؤال لوجد أنه كان حريا به أن يتخلى عن كرامته، عن طموحه، أن يرضى بالقليل ولا يطالب بحقه، ويعمل كثور طاحونة دون توقف، فهذا هو العامل المثالي عند رب العمل، بغض النظر عن كون العامل رجلا أو أنثى، فنساء عدة عندما يخرجن عن هذه القاعدة لا يجدن العمل. ولو عرف هذا الرجل ما تعانيه النساء في هذه المدينة الغالية، لو رأى كيف ينظر الشاب إلى بنات المعامل التي لا يرى فيها سوى فضلات رئيس العمال والمدراء وأرباب العمل وباقي العمال، ومن المستحيل أن يربط حياته بها، وحتى إن فعل تظل نظرة ذويه إليها ناقصة، ما كان أقدم على قطع ذكورته وحرم نفسه من نعم أخرى وهبها الخالق إليه.

ذكرني الحادث بأول عمل لي، كنت في الحادية والعشرين وما أزال بسنتي الأولى بالكلية، كان في معمل برتغالي يعنى بقطع غيار السيارات، حط رحيله بمدينتي تلك السنة وكنت من الدفعة الأولى التي عملت به، لا أنسى ذاك اليوم حين استقبلتنا مديرة المعمل وهي مغربية الجنسية، وصاحب المعمل البرتغالي في فندق سولا زور المطل على البحر الأبيض المتوسط... كان يتطلع إلى الرجال والنساء بعين متفحصة وكأننا عارضو أزياء مرشحون للمرور فوق البساط الأحمر أمام الكاميرات والعدسات، وليس للعمل خلف الماكينات، وكان يجاهد في إيجاد العبارات المناسبة باللغة الفرنسية للتعليق على كل مرشح، وعندما حان دوري قال لي بفرنسية ركيكة: "اعلم أن العمل بهذا المعمل لا يتطلب شهادات جامعية ولكن ستبدؤون كعمال، وإن أعجبنا عملكم ستترقون وتصبحون ذوي شأن". وأعادت هي الترجمة بالعامية فرسمت ابتسامة على شفتي، شكرتهم وخرجت.

مرت شهور وشهور من العمل المضني، وقد نلت رضا المديرين خلال هذه الفترة وأنا أتطلع إلى
ما وعدني به صاحب العمل، مركز أفضل في الشركة. وترقت زميلات وزميلات لم أعرف كفاءتهن حتى رأيت أيادي المدراء تتنزه بحرية فوق تنانيرهن القصيرة... ثم الدعوات إلى العشاء والغذاء من طرف العمال للمدراء بمنازلهم العائلية، ليصرفوا أجرتهم في تحضير ما لذ وطاب من الطعام وجلب هدايا لهم أو صرفها في المطاعم الفاخرة والمراقص. ولم أكن استوعب كيف أن عاملات عدة كنا نتقاضى نفس المرتب، تجدني أنا والعديدات ما يكاد الشهر ينقضي حتى نبدأ في طلب القرض، في حين أن شرائح أخرى تسهر.. تسافر.. ترسل الأموال وكل وسائل
الراحة إلى ذويهن. تلبس الملابس الفاخرة وتدفع فواتير الإيجار والكهرباء واشتراك الهاتف، ولهن رصيد في البنك أيضا من نفس الأجر الذي نتقاضاه جميعا، فتجد أمهات عدة تقارن بناتها بهؤلاء الفتيات المحظوظات، وعندما توضح لهن ما يفعلنه هؤلاء لنيل ذلك، يصفنهن بالغباء وتضييع أموالهن فيما لا نفع فيه.

لم يكن هذا أسلوبي في الحياة بطبيعتي، حتى لو لم تكن أسرتي محافظة، لا أحب السهر والاختلاط، وليس من مبدئي أن أضع جسدي ضمن كفاءاتي في العمل، فكان علي التغير حتى أحظى بالسفر إلى المعمل الأم بالبرتغال والعودة بعدها إلى وطني للعمل بمركز أكبر داخل الشركة. ولكني فضلت تغيير مجال العمل بصفة نهائية، وابتعدت عن العمل بالشركات إلى مجال آخر، فاخترت التعليم، لأنه على الأقل براءة الأطفال لا تتطلب منك سوى الصرامة والجدية التي
حاولت لعب دورها سبع سنوات من حياتي ولم أستطع، فأنا بطبعي مرحة ولا أريد لعمل كيف ما
كان أن يؤثر على طبيعة شخصيتي.

بكل مجال تجد رب العمل يحدد السمات التي يريدها في عماله، وكأن العمال صفقة يستلمها بالجملة، جسد.. روح.. فكر.. إنسانية.. شخصية.. تجد رب العمل أحيانا يتدخل حتى في طريقة لباسك، فطالما انتقدت في مجال التعليم للبس الجينز، وهناك مدارس كانت لا توظف سوى المحجبات، وهناك من لا تكتفي بالحجاب وتطلب جلبابا غير زاهي الألوان مع رداء كبير يغطي الرأس، وهناك من يطلبون مراهقات ودون خبرة حتى يدفعون لهن الأجر الذي يريدونه دون الرجوع إلى بنود قانون الشغل، ودون أن يخافوا منهن من تقديم شكاية لدى متفشية الشغل، إذا هم أخلو ببند من البنود. وهناك وكالات أسفار ومكاتب وشركات اتصالات و... و... من ضمن شروط العمل لديهم عدم تشغيل المحجبات وإلزام إبراز النهدين والكتفين والرجلين والماكياج وتصفيف الشعر.
ماذا يضيف إبراز جزء من الجسد أو تغطيته لنجاح عمل معين؟ لقد تعلقنا بالقشور وأهملنا الجوهر، وبدأنا نتنازل ونتنازل من أجل لقمة العيش، من أجل دفع الإيجار وفاتورة الكهرباء والماء والهاتف والإنترنيت و....و... كماليات أخرى. تنازلنا عن كرامتنا.. عن إنسانيتنا.. عن مبادئنا لنيل رضا المدراء وأرباب العمل، فهذا يتخلى عن ذكورته، وهذه تتخلى عن شرفها، وذاك يتخلى عن إنسانيته، وهذا عن مبادئه، وهذه عن شخصيتها، والأنكى من ذلك أن الأغلبية الساحقة يفعلون ذلك من أجل الجيران، الناس، الآخرين، من أجل أن يقولوا ابن فلان ناجح في حياته، فتجده يسرق، يأخذ الرشوة، يستصغر لرب العمل يجعل من نفسه أضحوكة بين يديه يفعل أي شيء ولو على حساب إنسانيته وكرامته وشخصيته، حتى لو وقف كل صباح أمام المرآة وبصق في هذا الوجه المسخ الذي ما عاد يطيق النظر إليه. أما رب العمل فهو لا يبالي مهما خسر العامل حتى لو تلاشى وأصبح ذرة غبار في الفضاء، ما زلت أذكر حينما كنت ما أزال أعمل في الشركة، كيف فقدت عاملة إحدى أصابعها خلف الآلة، وأقنعها المدير بعدم التبليغ عن الحادث، ووفر لها كل تكاليف العلاج، ثم طلب منها أن تأخذ الوقت الكافي للنقاهة. أما المسكينة فعادت إلى العمل قبل أن يندمل جرحها، فوجدت مكانها وقد ملأته أخرى.

هكذا في الشركات لا تصير سوى رقما، إذا رحلت يبدلونك برقم آخر، فالعمال ليسوا أفضل من هذه الآلات التي يعملون عليها. عندما يتعبون وتصيبهم الشيخوخة ويهرمون، يبدلونهم بمن هم أصبى منهم، ولا أنسى أيضا كيف شكر مدير معهد للغات كنت أعمل به أستاذة بعد 10 سنوات من العمل. كان يزيد أجرتها كل سنة وعندما لم يعد قادرا على دفع راتبها المستحق لها أحضر أخرى مبتدئة وأصبح ما سيدفعه لأستاذة واحدة بإمكانه أن يوفر بأجرتها سلسلة متنوعة من الأساتذة. فعندما دخلت الأستاذة المبتدئة وبعد أول درس توجه التلاميذ إلى الإدارة وطالبوا بعودة أستاذتهم فما كان منه إلا أن وجه الكلام لهم: أستاذتكم أصبحت عصبية، سأبدلها بشخص أهدأ، وكأننا جوارب ممزقة أو أحذية قديمة انتهت مدة صلاحيتها. وعندما رفض التلاميذ منطقه قال لهم إنها مؤسستي وأشغل فيها من أشاء... وخسر تلك المجموعة من التلاميذ عوضها بتلاميذ آخرون.

مهما اختلفت مجالات العمل وتنوعت سواء تحت سقف الشركات أو المؤسسات التربوية لا تجد سوى قانون العرض والطلب، تشيء الإنسان حسب متطلبات السوق. "زوق تبيع" السوق يطلب الأشياء الطرية الجميلة الزاهية لذلك على الإنسان أن يكون كالآلة يخضع لمنطق رب العمل ولمنطق الزبائن، أما شخصيته وإنسانيته فليطويها مع الأشياء الجميلة في حياته التي يطويها دائما دون شعور.



 
  سمية يومة (المغرب) (2008-06-03)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

من أجل لقمة العيش-سمية يومة (المغرب)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia