"صبي في ليل البحر"-محمد مباركي / وجدة / المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

"صبي في ليل البحر"

  محمد مباركي    

أعياني المشيُ على الرصيف الطويل في ليل السعيدية الصيفي ، بعد نهار قضّيته سابحا  بين صفحات
" مئة سنة من العزلة " . اسهوتني رواية " غابرييل كارسيا ماركيز " . تمنيت أن تطول الرواية إلى ما لا نهاية ، بأحداثها و أبطالها . تموقعت قرية " ماكوندو " في داخلي ، تغلي كالمرجل.
أعياني المشيُ ، فجلست على الكورنيش موليا ظهري جحافل المارة تمشي الهوينى . نصف عراة كانوا يمشون و كأن نهار العري على الرمال الملتهبة لم يكفيهم . كنت أنظر إلى البحر تحت الأضواء الكاشفة العالية مشبكا يدي على ركبتي اليمنى ، أتأمل سحر البحر و قد لبس ظلام الليل . صعدت منه سحابة بطيئة من البخار ، و اندفعت منه أمواج متلاطمة وقت المد بيضاء كالحليب المخثر ، تتكسر بجنون على الشاطئ برائحة الصدف البحري . و قوارب صغار الصيادين هناك ، بعيدة تتلألأ قناديلها البترولية الصغيرة وسط  صمت العتمة و أعماق البحر .
أحسست بقلمي يرتعش ، في الجيب الأيسر لقميصي ، ثلاث رعشات ، و سكن . لم أأبه لرعشاته ، لكنه عاود الارتعاش بعنف أكبر من السابق  . قلت : " ربما حان  وقت الكتابة " . لاح لي موضوعان في أفق البحر الأسود أمامي . الأول حول السعيدية كيف انشقت على نفسها إلى نصفين . النصف الأول بكرنيشه و شوارعه الطويلة العريضة و فيلاته و ملاعبه و مخيماته ، وبدا لي  النصف الثاني ، كقرية " ماكوندو " ، امتد حتى حي طنجة ، بطرقه المتربة الغارقة في مستنقعات المياه العادمة الآسنة و سحب البعوض .
صرفت  قلمي عن الموضوع الأول  إلى الموضوع الثاني : متسولة شابة جالسة على قارعة الطريق بين يديها صبي يئن و يغالب النعاس .ظهرت على وجهه الضامر دمامل لسعات بعوض المدينة الحاقد . بصدره المكشوف عمدا و على خرقة كان يتوسد فخذ أمه . برزت أضلاعه من تحت جلده البرونزي ، تعدها ضلعا ضلعا . سمعته يستجدي أمه مادا يده إلى وجهها قائلا :
- لنذهب !!
و هي ترد عليه شاردة و قد مزقها قلبها السؤال :
- إلى أين ؟
مكانه هناك ، في البيت و ليس على رصيف تبولت عليه كلاب البيتبول و الكوانيش و المارة .
 يا لتعاسته !!. وددت أن أقف و أسأل أمه المتسولة  :
- أهذا آدمي أم بضاعة تبيعين وجهه بالتسول  ؟
ستغضب ، و يتحول وجهها الضامر المثير للشفقة إلى وجه حديدي و ستقول لي :
- هذا ليس من شأنك .. ابتعد يا ولد ...
سأواصل إمطارها بأسئلتي :
- من يكون أبوه ؟ إن كان له أبا . سكير؟ عربيد ؟ قاطع طريق ؟ أين هو ؟ في السجن ؟ .
قطع نهوض  الصبي من مكانه  حبل أسئلتي . كان يتعثر في النعاس و الساعة أعلنت منتصف الليل و بَرَُدَ حال الدنيا . تبول قرب أمه على الحائط ، مسّها رذاذ بوله. كان لونه بُنيا عطنا. صادف تبوله مرور ثلاثة شبان. قال له أولهم صارخا :
- ابتعد و تبوّل!!
قال الثاني :
- اتركه ! فهو صبي  .
قال الثالث : إنه يتبول على كل الذين تركوه بلا نوم على الرصيف حتى هذا الوقت .
مدت أمه يدها إلى ثلاثتهم مستجدية . أكرموها بثلاث نظرات فقط . سلقت مؤخراتهم الممسوحة  بنظرة حاقدة ، و قالت بصوت منخفض :
-  " تفو " .
تطلع إليها  الصبي  و قال : " تـْفويَيْنْ ".



 
  محمد مباركي / وجدة / المغرب (2010-08-19)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia