هذا أنا .. وهذه مدينتي-ميــــمـــون حــرش- الناظور
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

هذا أنا .. وهذه مدينتي

” لكنني بشوارعٍ خضراءَ كنتُ أحلمْ
وأطفالٍ يتراكضونَ فيها
ووجوهٍ كالشموسِ الضاحكات
كوجوهِ العاشقينَ بللها هَمْيُ المطرْ
وإذا أنا الذي لا أبكي إلا للجميلْ
أبكي للطرقات التائهات الآن
لا طفلَ يركض فيها
شعاعُ الشمسِ جافاها
والشفاه لا تنطقُ فيها … ”

أيتها المدينةُ تبكي
في زواياها النساء
ويبصقُ الرِّجالُ حقداً على الأرصفة ،
والتحيةُ يلفظونها كالشتيمة . ”
[ المدار المغلق، جبرا إبراهيم جبرا، يوميات من عام الوباء، ص 21. 22. 23 ] .
                 
   بعض الأسئلة،مثل اللباس، تحمل نية التضليل حسب منطق كل شخص.. نفس الشيء ينسحب على بعض الحكم والأمثال التي حملنا الكبار على حفظها ونحن صغار لتتقرر في رؤوسنا الصغيرة كبدهيات لا يأتيها الباطل لا من أمام ولا من خلف ،ثم رددناها عن ظهر قلب دون أن يكلف معلمونا ، في المدرسة،لفتنا إلى مافيها من بهتان،أو شرحها حتى يتم إدراكها بشكل جيد .. الكثير من هذه الأمثال يضمر حمولة ايدولوجية تخدم مصالح بعض المجموعات التي تعمل جاهدة على تكريسها ،نحو:"السكوت حكمة " ، فكيف بالله يسكت من تُهضَم حقوقه؟ وأي طاقة من الصبر قد يحتاجها من يبيت ليله بلا عشاء ، محاطا في بيته بعدة أفواه تنتظر في انكسار لقمة واحدة ولا تجدها وغبرها يبيت في فراش وثير شبعان ريان.. أين العدل هنا؟؟؟
       يقول الشاعر: أفي الحق أن البعض يشبع  بطنه وبطون الآخرين تجوع..
وهل هو مستساغ أن نقول لهؤلاء المعذبين في مدينتي : " تحـــملـــوا"..
 ..يـــاه.. ما أخف الكلمة في اللسان، وما أثقلها في الميزان.
هل أحتاج لهذه الديباجة حتى أعترف لقلوبكم الطيبة بأن مدينتي الناظور غنية جدا ، لكن ما أكثرا لفقراء فيها..هم فقراء لكن لطفاء وظرفاء، وحين يقال لهم تحملوا يتحملون، ويقنعون بل ويؤمنون بأنهم يعيشون في المستنقع عرضا في الدنيا فقط ، أما في الآخرة فلهم الجنة جزاء سكوتهم ، وصبرهم الجميل .
 وهل أحتاج إلى هذا الكلام لأعترف لقلوبكم بأن الناظور مدينة تسكنني حتى النخاع، رغم كل شيءهي مدينة تسكنني،ولست أنا من يسكنها..آمنت دائما بأن المدن مثل الأعمار،فليس كل من عمر طويلا يكون قد عاش عمره..وإذا سئل فليكن السؤال كالتالي: كم عشت من عمرك لا كم عمرك.. الكثير منا يسكنون أمكنة ولا تسكنهم وهنا الفرق لأن المدن تترك أثرها على أهلها، وبهذا الأثر تتعرفهم .. طيب من منا يستطيع أن يدخل حريقا فيخرج أبيض ناصعا؟!.. الأشياء تترك أثرها.. و كذلك بالنسبة للمدن..لكل مدينة رائحتها، هي آخرمايتركه الراحلون عنها كأمانة لديها، وهي ذات الرائحة التي تطالبهم بها حين يعودون ، تفعل ذلك وبإلحاح.
     إنها الناظور/ مدينتي ياسيدي، وأنا رائحتها فهل تعرف مدينتي المنسية؟.
   سأهب نفسي أنك لا تعرف الناظور ياسيدي، لذا دعني آخذ بيدك لنتجول معا، ونتعرف أولا زواياها ،لأن في الزوايا خفايا  كما يقولون، ولن أبدأ الجولة معك إلا إذا أقسمت لي بأنك ستعود لزيارة مدينتي رغم ما قد يصدمك منها من صد أولا مبالاة ، وحتى رعونة بعض أهلها وصلفهم.
      وإذا أقسمت نبدأ جولتنا.

الجولة الأولى :


 في شوارع مدام ريف


     مدينتي غنية جدا لذلك ستلحظ ،سيدي، أن السيارات الكثيرة التي تمر بنا من الطراز الرفيع، وأنا شخصيا أرى أشكالها ، ولا أعرف أسماءها ,وإن كنت أعرف بعضها بحكم كثرتها مثل كات كات ، وغيرها رباعية الدفع،ونوع ثالث كBmw،وأخرى عجيبة الأشكال والألوان.. أما سيارة المرسيدس فتؤثث شوارع مدينتي بشكل لافت كما ترى ،وأتذكر أستاذا فرنسيا درسنا في ثانوية عبد الكريم الخطابي في الثمانينات كان يقول بأن الناظور مدينة المرسيدس بامتياز..أما اليوم فلعلك ترى سيدي كيف اكتسحت السيارات الفارهة مدينتي متجاوزة المرسيدس.. إنها فارهة  لكنها للأسف ، تبدو نشازا وسط شوارع نتنة، الحفر فيها عميقة ومسننة،  وطرقها،في وسط المدينة، غير مزفتة،والبنايات فيها تبدو كأعمدة قصب فارغة من الداخل ،و هندستها تشي بأن مهندسيها كان آخر شيء يشغلهم هو جمال مدينتي..هم أداروا لها ظهورهم بعد أن امتلأت جيوبهم ،ونـتأت بطونهم واكتنزت مؤخراتهم، أماالناظورغدت،بسببهم ، كعصفورة، مهيضة الجناح ،و أصبحت من الداخل خاوية الوفاض ، ومن الخارج نادية الإنفاض..
     تبدو الدور فيها عبارة عن كومة من الأحجار وضعت كعلامة فارقة في شوارع ضيقة جدا، وبشكل عشوائي، تتبدى لك مثل كٌوى في ديكورات أفلام قديمة صورت بالأبيض والأسود ، ومع ذلك يبدو أن سماسرة العقار،حين يمرون بها في زحمة لا يكترثون لها، يعضون على النواجد ندما..ربما كان أحسن لو تُــــركت الناضور بدون شوارع أصلا، مثلهم كمثل الجلادين في كل السجون العربية، يكرهون السعة، والنبتة الخضراء، والشارع الفسيح ، والكلمة الطيبة..ما للجيب للجيب و ما للمدينة يأتي تاليا،وقد لا يأتي أبدا ؛السعة للجيب ، والسعة أيضا في القلب كما في النكتة المشهورة ، وليس في فضاء المدينة أوردهاتها..الجيوب وحدها تسع حمولة النهب ويظل أصحابها فاتحين أفواههم الكريهة كسعالي متربصين الصرة الثقيلة اليوم أوغدا.. لايحلمون سوى بالجيوب ، يملأونها بعد أن يفرغوا ما في جيوب غيرهم.وبها ينامون غير آمنين مسكونين بهواجس تقض مضاجعهم..لذلك هم مثل حفار القبور لا ينظرون سوى تحت، ولا يتطلعون إلى السماء أبدا ..أجل سيدي هكذا هم لصوص مدينتي، هم مثل الحلاق الذي يتمنى لو يفرع لزبونه رأس آخر، حتى يحلق بدل الواحد رأسين.. هم كموسى هذا الحلاق لا يدعونه يسقط من اليد إلا إذا نبا.. السعة للجيوب.. والمجد لها ، ولتذهب مدام "ريف" إلى الجحيم هي وأولادها وبناتها ..  أما الشارع  والفضاء وزرع الأشجار والبستنة هي أمور- بالنسبة لهم - ليست وراء الموقد فقط بل خارج المطبخ أصلا.
هكذا يفكر سماسرتنا للأسف يا سيدي، فلا تتهكم رجاء، وإذا لقيتَ سيدي »  بنعيسى  «  فــلْــتنادي: " شاي الله آلا لا الأفعى" .. نعم هكذا و ليس العكس.

الجولة الثانية


الضوء الأحمر والأخضر في شوارع لا لون لها


    تمربنا- صاحبي وأنا- سيارات منطلقة مثل القذائف ، وإذا وقفت إحداها - مضطرة -عند الإشارة الحمراء فلأن غالبا السيارة الأولى في الطابور فعلت ذلك  وليس احتراما للقانون، لذلك أنت تسمع ،سيدي، أصوات المنبه تستعجل الانطلاق، والسرعان منهم وقليلو الصبر يخترقون الطابور وينطلقون كالسهم لاعنين الذين يتروون بشتيمة بذيئة وخليعة.. بعضهم،ياسيدي ، كما ترى وأرى يدلق عنقه من  نافذة سيارته الجميلة و يتنخم ، وعلى الهواء مباشرة، و يرسل بصقة يتطاير رذاذها في كل الاتجاهات.. الراجلون أيضا يتنخمون أمام الملأ غير مكترثين بعباد الله، يبدو أنهم يفعلون ذلك نكاية ربما بزمن لم ينصفهم .. لذلك اعذرهم يا سيدي رجاء؛لقد كان مفهوما لو أنهم يكتفون بمجرد التنخيم، أما وهم يرمونك وغيرك شزراوهم يبصقون قبالتك، فمن حقك أن تستغرب ما دام ذلك يستعصى على الفهم،عليك خاصة.
  صحيح أن الأمر له صلة بالسلوك والخلق الكريم والتمدن كما تقول ، ولكن يبدو أن القانون في مدينتي يقبع تحت لا فوق،لذلك يا سيدي دع عنك ممر الراجلين، وسر حيث شئت ، فالمجالات متساوية عندنا لا فرق في مدينتي بين ممر الراجلين ، ومجال السيارات أو بين الضوء الأحمر ، والأخضر..أكثرنا لا يفرق بينها..لذلك خذ راحتك ولا تهتم حتى لا تعتبر شاذا. ولم يقتنع صاحبي إلا بعد أن رأى بأم عينيه كيف يختلط الحابل بالنابل في مدينتي.
   في أماكن أخرى من مدينتي، قبالة واجهات المحلات التجارية،ووسط أهم الشوارع، تتوزع عربات يجرها حمير لا تحمل أسفارا،بل خضرا من كل الأنواع ..تسير في مجالات السيارات ولا يأبه أصحابها بقانون السير،معتبرين طرق السيارات هو مجال تحركهم..همهم الوحيد هو عرض البضاعة ، والمناداة
عليها ككل الدلالين في الأزمنة الغابرة ، وتكتمل الصورة حين يُـسمع صوت الدلال،مع نهيق الحمار في تناغم عجيب.
الحمير يكتسحون الشوارع، ولا يعرف أحد من يقود الآخر، الحمار أم صاحبه..و نحن مأخوذون بهذه المشاهد تناهى إلى سمعنا- صاحبي وأنا- صوت سائق سيارة يحتج بشدة على صاحب العربة التي صدت الطريق عليه:
    - افسح المجال.. دعني أمـــر..
يجيبه صاحب العربة:
 - الأسبقية لحماري ، وأنت التالي.
يرد صاحب السيارة بغضب:
- مَــمَـــاشْ..( كيف)؟
- أيهما كان السباقَ للوجود، سيارتك أم حماري؟
ودون أن ينتظر الجواب، أضاف:
- حماري هو السباق إلى الوجود ، إذاً الأسبقية له أولا.
ضحكنا بهستيرية،والمارة من حولنا غرقوا في ضحك لا لون له،كجمهور يُغصَــب على التصفيق عنوة بإشارة من الكواليس.. الحمير ، وحدها في الشارع،كانت تنقاد لأصحابها دون حرن.
كنا والحق يقال مواطنين نَــفِّـــــر،بضحكنا، من زماننا الحاضر للإبحار في محيط أزمان غيرنا، نتوق إليها كطيور أطلقت من أقفاصها.

الجولة الثالثة


في مسجد الحاج مصطفى


   نسمع صوت المؤذن يعلن قرب صلاة المغرب، نقترب من مسجد الحــاج مصطــفى،نتحسس طريقنا، ولا نكاد نجد مجالا للمرور.. الباعة المتجولون انتشروا في كل مكان،كل منهم أخذ موقعه ، عارضا بضاعته..أمام المسجد تختلط الأصوات بين ذاكر يروم تجارة مع الله وبين أصوات تشبه الزعيق تُــجَــمِّـل البضاعة لحمل المشتري على الشراء..هنا المشتري لن يعدم طلبه أوحاجته ، كل شيء موجود ، من أصغر شيء إلى ما لا يخطر لك على بال.. إنه مرجان والسلام( بِِِـسِـــمَـنْــــتِـــهِ)، وحين يأخذ المصلون أماكنهم في صفوف متراصة، وفي خشوع يتوحدون وراء الإمام ، الباعة لا يغادرون أماكنهم، ولا يلتحقون بنا..يقبعون حيث هم.. إنهم مسلمون بطريقتهم، لا يذرون البيع إثر المناداة على الصلاة، تجارتهم في الدنيا ، ومن أجل الدنيا، وليس مع الله..يؤمنون ب: " إلى ماكان عدودو ماكان عبودو" أما ما عند الله خير وأبقى فتلك بالنسبة لهم مجرد خرافة ربما.
وإذا انتهت الصلاة تعالت الأصوات من كل صوب وحدب،و تزيد حدتها، وحين يخرج المصلون ، ويختلطون بالباعة، تخال الأمرَ يتعلق بيوم الحشر.
والغريب أن هذا المنظر لا يثير المسؤولين أبدا،لا يحركون ساكنا إلا في المناسبات الدينية والوطنية، وفي ما عداها يتركون الحبل على الغارب معتبرين أن الأمر له صلة بماركة مغربية محضة إذ لا يمكن تغييرها البتة،ناهيك عمن يسترزق من هناك على حساب أمن المواطن.إنها مدينتي يا سيدي.



الجولة الرابعة


"الناظور مدينة جميلة،الناظور مدينة غير جميلة"



    قـــد نختلف في جمال  الناظورأو قبحها،ولكننا لن نختلف  أبدا في أنها مدينة ثرية جدا، الأغنياء فيها كثر يتناسلون كما الإشاعات ، وتترهل بطونهم، و تفرع مؤخراتهم بشكل لافت كما قلت لك.. ولعلها المدينة الوحيدة في مملكتنا السعيدة التي لا يمكن فيها للموظف ، مهما كان راتبه سمينا،أن يساير طبيعة العيش في مواجهة أخطبوط الغلاء ،و في جميع التصعد،وحين يكون على رب الأسرة أن يتبضع لأفواه جائعة تنتظره في البيت يكون مجبرا على دفع ما يؤديه الأغنياء، إذ لا مجال في الناظور للاختيار، ففي كل الأمكنة الثمن واحد وقار، و لا فرق بين فقير وغني كما هي الحال في بقية المدن ،أجل في الناظور، هنا كما هناك ،الأمر سيان (أَمْ حَـمـّو أم رَمّــو). ببساطة لأن الدرهم، في صرة الأغنياء، يمر عليها وهو منطلق،لذلك ترى أعناقهم تكبر أن تُـطالا، و الفقراء لا يطيقون لهم عنادا.
   وعملية التبضع عند أغنياء الناظور لا تتم جزء جزء، إنما هم لا يرضون إلا بالكل/ الكثرة، أما الجزء فهو بمعنى الفتات، هو لغيرهم وليس لهم ..يفعلون ذلك ليس عن جوع إنما عن أمر يصدره جهزاهم "الجيبي" لإبطال الألم الناشئ عن توهم مرضي من أن تُفقد البضاعة غدا ربما ..لذلك يصبح التبضع بكثرة نوعا من الوسواس القهري الخبزي إن صح تعبيري.
   داخل مجزرة حديثة أخذ (ض) مكانه بين الناس ينتظر دوره، هاله حال الجزار وهو يشحذ سكينا بينما عينه على ساطور موضوع على سندان خشبي.. المكان تزكم الأنوفَ فيه روائحُ اللحم والشحم، الطلبات تنطلق من أفواه عديدة بين طالب أربعة كيلوغرامات لحم بقر، ومثلها لحم مفروم،وبين من يطلب أكثر من ذلك... أحس عرقا خفيفا يسيل على قفاه بدل وجهه، وحين جاء دوره، قال له الجزار بحدة:
    -  اُأمرني  ..
قال بحزم :
     - نصف كيلو غرام لحم بقر رجاءً.
نظر إليه الجزار شزرا وهو يشحذ سكينا علق برأسه بعض لُحَيْمات صغيرة، وحين أدار ظهره هامّا بجز اللحم المطلوب جاءه صوت من أحد الحاضرين حرص صاحبه أن يكون مسموعا:
    -  لـك أن تجعل طلب السيد كيلوغراما بدل نصفه.. وعلى حسابي..
 (الرجل رغب فيما يرضيه، والنصف لا يترجم بالضرورة بخلا أو عوزا، على اعتبار أنه هو ابن مدينة أو هكذا يعتبر نفسه، وطلب اليوم، بالنسبة إليه، سينسخه الغد حتما ، دائما حسب الطلب أوالرغبة.. لكن الرجل الآخر، بما أوتي من حكمة ربما، ظن أن الطلب قليل والرجل محتاج، ولا بأس من صدقة جارية بجعل نصف اللحم كيلوغراما). وبسبب هذا التصرف الأرعن عرت صاحـبَنا قشعريرةٌ من طراز ريفي رفيع جعلته ينتفض كما الثور يلمح ملاءة حمراء، صرخ في وجه"الكريم":
   -  إلى الجحيم كرمك..من تظن نفسك أيها الجاهل النكرة..أنا رغبت في النصف ليس بخلا، لي من المال ما يكفي لشراء ذمتك حتى،..تفكرون بجيوبكم...اللعنة.
   "اللعنة" كانت آخر كلمة ينطق بها وهو يخرج دون طلبه كله، أونصفه.. والحق أنه قال ما قال كله باللغة الريفية مما أضفى على المشهد مسحة دهشة، أعقبها صمت طويل..كم دام؟ لا يهم، ولكن التنهد الذي صدر من الصدور كسره و قال كل شيء.
أما "الكريم"، فمن حسن حظ الحاضرين أنه لم يعقب كما لو بلع لسانه، وإن اكتفى بالنظر إلى محدثه دهشا دون أن ينبس ببنت شفة..من يدري ، لو تكلم، أوردّ قد تكون العواقب وخيمة، والمجزرة هي أسوأ مكان للخصام، بالأيدي خاصة، هي حتما لن تُترك عزلاء في وجود السكاكين، والسواطير، بل وحتى العظام.

الجولة الخامسة


في مقهى النخيل


  بعد صلاة المغرب تحلو الجلسة في مقاهي الناضور.. إنها كثيرة، وتنبت كالطفيليات يوما بعد يوم،بعضُها ثــمــنُ كوب القهوة فيها مع إكرامية النادل هو مصروف اليوم لبعض الأسر في مدينتي..لا تستغرب إنها مدينتي الغنية جدا وأنا لم أغير رأيي ،لذا لا تتحسس،سيدي، جيبك، ولا تمد يدك فيه، احذر العقرب هناك..سأتولى الدفع عنك.
ونحن نرتشف قهوتنا المسائية في مقهى النخيل الأنيقة،غارقين في دردشة حول هموم الدنيا،وليس هموم الآخرة، هذه لا مكان لها في المقاهي،انتبه جليسي إلى أن المقهى لا تتوفر على تلفزة كغيرها من المقاهي التي تستقطب مشجعين مهووسين بكرة القدم مشاهدةً لا ممارسة .. هؤلاء فريقان : الأول يشجع ريال مدريد ،والثاني بارشلوني الهوى.. ويوم تنقل شاشات التلفزة هذه المباراة في بث مباشر تعيش الناظور كرنفالا حقيقيا ، ويسهر الشباب الليل كله على إيقاع ضربات كرة القدم تحولهم إلى حيوانات تلفزيونية بامتياز يصرخون، ويصفقون ، ويتندر بعضهم على بعض كلما سجل الفريق المحضي لأحدهم هدفا في شباك الخصم، خصمٍ ليس وراء البحار إنما يجلس قبالة أحدهم.. مساكين، هم مثل من يشرع مظلته هنا ليقي مطرا يسقط في شبه الجزيرة الأيبيرية.
 لا أثر، هنا كذلك كما في بقية المقاهي الأخرى،لمن يقتحم عليك المكان، وينتشلك من عالمك الخاص ليسألك ما إذا كنت ترغب في سيجارة؛و ليس وحده بائع السجائر بالتقسيط من يصبح جزءً من ديكور المقهى في أماكن أخرى من مدينتي، معه نساء يحملن أطفالا رُضَّعا يَجُــلـن بين الطاولات متسولات بطرق حديثة، سحنات أكثرهن تشي ببقايا نساء منكسرات، ومخذولات غدربهن الرجل أو الزمن أوكلاهما معا.. في زوايا أخرى يجلس أطفال في عمر الورد على الأرض وينشغلون بمسح أحذية رواد المقهى متطلعين إلى الأرجل الكثيرة المتدلية تحت طاولات مهترئة ، فوقها كؤوس الشاي المنعنع، متوجة كملكات النحل، ومحتلة عرش ما يطلبه المستمعون، عفوا الرواد.. وبين هؤلاء وبائعي السجائر بالتقسيط، وماسحي الأحذية ينتقل النُّــدُل بنشاط عجيب، وينطون كقرود من طاولة لأخرى.
 لا شيء من ذلك كله في مقهى "النخيل" ، قلت لصاحبي : "المقاهي، في مدينتي كالناس،معادن".

الجولة السادسة


في " باصو"


  هل تعرف بأن أهل مدينتي أجواد، يقرون الضيف ويكرمونه، إنهم كرماء بالفطرة يا سيدي أبا عن جد..مثلا في تمسمان تُمنح الخبز ومعه الأمان.. اليوم تغيرت بعض الذهنيات،والسلوكيات، هذا صحيح ومفهوم أيضا بالنظر إلى صعوبة الحياة، وتعقد مناحيها، ولهذا صلة ربما بالتطور التكنولوجي الذي بات يشكل ذهنيات إنسان اليوم ،لقد تحول  معها إلى ما يشبه الآلة، صار أجوف من الداخل، ومجردا من العاطفة والإحساس..ومع ذلك لا زالت بعض الأسر في الناظور تعتبر إكرام الضيف من المقدسات ، وهي ليست مستعدة لتحيد عن هذا الطبع قيد أنملة..
ومع هذا أيضا، اعذرني ، سيدي، لأني لن أستضيفك في بيتي لا اليوم ولا غدا، ليس بخلا مني وشرفك، إنما خوفا عليك من أن تُــــصدم حين تكتشف بأني أسكن في " باصو" أحد الأحياء المعروفة في المدينة.. بيتي هناك يا سيدي، محاط بسوق للخضر والسمك..هي سوق مركونة وسط طريق رئيسية، ومزهوة بما تلفظه من نفايات وأزبال..حياتنا بسبب هذه السوق غدت قطعة من العذاب والله،نتحمل الضجيج والعجيج ليل نهار، ونساكن ذبابا أزرق منذ ما يقرب عشرين سنة..تخيل..نتعايش مع روائح كريهة تنخرنا من الداخل كما الأرضة مع الخشب.. ما أكثر المرات التي احتج فيها الأهالي والجيران، لكن لا حياة لمن تنادي.. جيراني المهاجرون أضربوا عن العودة لوطنهم الصغير منذ زمان، بيتهم الجميل صار مرتعا لبيع السمك.. رب البيت تأبط مرة ملفا ملأه بصور فيلمية حية بواسطة كاميرا رقمية عن فظائع هذه السوق ، ثم أخذ يجوب به المقرات بدء من زيارة  السيد العامل لصاحب الجلالة على الإقليم، انتهاء بديوان المظالم .. لكن دون جدوى ، وحين تعب المسكين تأبط ملفه وعاد إلى فرنسا مخذولا،ومكسورا.. هو يعود أحيانا، لكن دون أولاده.. هذه السوق وصمة عار في جبين المجلس البلدي.و على جبين كل المجالس التي تعاقبت على مدينتي..هم يقولون إنها سوق مؤقتة، ومثلها كثير في الناظور، لكن صدقني،سيدي، أن سوق باصو قائمة وثابتة، وستطفئ شمعتها العشرين قريبا، وهي مزودة بالكهرباء ليلا، أما من أين لها بالكهرباء فتلك حكاية أخرى. قل لي سيدي : أي مدينة يقبع فيها سوق وسط طريق رئيسية كوحش طيبة الذي كان يقطع الطريق على المارة كما في الأسطورة..تعرف .. حبذا لوتسجل  هذه السوق  في كتاب "غنيس" للأرقام القاسية على الأقل نعوض أهل باصو السنوات العجاف من قصور الرؤية لدى القائمين على أمورنا في الناظور.
في أوقات الذروة يصبح "باصو" يعوي ويعوي ككلب مسعور،عربات الخضر بحميرها تصد الطريق على السيارات، والسائقون يطلقون العنان لصوت المنبه دون جدوى،أما صناديق السمك فتتموقع قبالة الطريق، يدير باعتها ظهورهم لما يقع كأن الأمر لا يعنيهم..وفلذات أكبادنا ، صحبة مرافقاتهم من مدارس الروض،يتحسسون طريقهم وسط زحمة لا يقوون على تحملها، هم يقطعون مسافة مشيا على الأقدام من أجل الوصول للسيارة التي تركن هناك بعيدا عن منازل أطفالنا ،هناك تنتظرهم لتعذر مرورها في مجال تحركها.. الطريق اغتصبها الباعة، والمسؤولون إذا قيل لهم :" اُنظروا .. غيروا هذا المنكر" لووا رؤوسهم، ورأيناهم يربتون على أكتاف الباعة،وينظرون إلينا نحن ـ أصحاب الحق- شزرا وهم مستكبرون.
ابنتي يا سيدي،بت أخشى على مستقبلها بسبب هذه السوق الكارثة، تبدأصباحات أيام الآحاد بتقليد أصوات الباعة في السوق، وهي بدلا من أن تسمعنا في البيت ما تعلمته في الروض من سورا لقرآن الكريم، أو من أناشيد..بدلا من ذلك نسمعها تردد: " وا باطاطا،.. وا بوقر ونيس نْ بويافر..وا...."
سوق باصو نموذج واحد من نماذج الكوارث التي تعاني منها مدينة الناظور، وغيرها كثيركثير.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مدينتي!
"أضاعوك،  ،وأي ناظور أضاعوا
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر"

   مدينتي ، أه يا مدينتي،أضاعوك مرتين: الأولى حين أهملوك بعد أن نهبوا كنز الربيع لديك،والثانية حين باعوك بثمن بخس لعرسان أنذال خذلوك ونهـَبوا مالديك وغَنموا ومرحوا ثم راحوا .نعم راحوا بعد أن قصوا جناحيك حتى إذا فرع ريشهما من جديد يهيئ أوغاد جدد، كفنيق تماما،محرقتك،  لا يفكرون سوى في شوائك.. لكن من رمادها ستبعثين صبية جميلة، أما هم فلن يتذكرهم أحد، ولن يكون مصيرهم سوى مزبلة التاريخ، وهل إلا لمثلهم وجدت أصلا.
أنت في عيوننا، فلا دَرَّ دَرُّ من يخذلك.
  جراحك حتما ستندمل غدا،جراحك مثل "عود لقماري" لا يزيده الاحتراق سوى طيبا وعرفا،كذلك جراحك، ستتعرش في قلوب الأمناء ورودا ورياحين، وفي صدور الخونة سرطانات خبيثة حتى لا ينعموا بما نهبوا طويلا.
 ستأتي أيام ، ويصبح أهلك رحماء بك، عشاقك كثر والله، أنت في عيونهم مشاعل، وفي صدورهم ضفاف جداول، وفي أيديهم قرنفلات ومعاول، القرنفل لكل من يهبك كنز الربيع ، والمعول لكل الرعاع من خفافيش الظلام.



 
  ميــــمـــون حــرش- الناظور (2010-09-01)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

هذا أنا .. وهذه مدينتي-ميــــمـــون حــرش-  الناظور

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia