أرض المبادئ : المختفــــي...-بوشمــــا حميــــد-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

أرض المبادئ :

المختفــــي...


 "لا يمكننا أن نفهم سوى عالما اصطنعناه بأنفسنا"
نيتشـه

  
   كم مرة أبلغتك فيها – عبر رسائلي – أنك كنت دائما تكذب عنا. تكذب عن الصغار والكبار. لكن كن على يقين أنه من اليوم فصاعدا لن تجد من يصدقك حتى ولو قلت الصراحة. ومهما بذلت من مجهود لتلميع صورتك في أذهاننا.
   لست أنا الوحيد الذي اكتشف أكاذيبك، خياناتك، نقضك لعهودك... بل إن الكل في هذه المدينة يتحدث عنك. فقد كذبت حتى على صاحب المتجر المجاور. حيث قلت له إن مدة صلاحية بطاقتك البنكية قد انتهت. صاحب المتجر لم يكن بليدا بالدرجة التي كنت تعتقد أنه عليها. لذلك فقد استرهن منك هاتفك المحمول مقابل منحك بعض الأوراق المالية.
   تركت عليك ديونا كثيرة. حيث ظل يبحث عنك النجار والحداد وبائع النعناع و"البيبوش". تخون كل من يستأمنك... ألم تخجل من نفسك؟!. حتى بائع جافيل كنت تبتزه. حيث كنت تطلب منه كل يوم سيجارة أو ثمنها، مع العلم أنه لا يدخن، عندما ضقت به ذرعا وامتنع عن أداء تلك الدمغة الجبائية التي ألزمته بها. في اليوم الموالي لذلك اليوم، دبرت له ذريعة، أطللت عليه من النافذة ووجهت له وابلا من الشتائم. لقد كانت شتائمك تلك موجهة بدقة حيث كانت تؤدي كل من يسمعها. الذريعة التي اتهمته بها هو أنه يزعجك بمنبهه الصوتي ويفسد عليك نومك !.
   لست أعرف هل وصلتك بعض رسائلي!... فأنت لا تستأجر مسكنا حتى تتركه من جديد!. أحيانا تعاد إلي الرسائل التي أبعثها إليك، مرفقة بعبارة : "إن الشخص الذي تراسلونه لا يوجد بهذا العنوان". أول رسالة ردت إلي قرأتها بكاملها. ولم أكتشف أنها بضاعتي ردت إلي حتى وصلت الإمضاء. وكل ذلك بسبب إصرار أمك.
   ليست لدي إليك أخبار جديدة. سوى أن ثمن البصل - هذه الأيام - قد فاق ثمن الموز. وأنه إذا كان هذا الأخير لا يعنيني في شيء حيث كلما مررت بالقرب من باعته إلا واعتقدت أنهم يعرضونه لأشخاص آخرين غيري. فالبصل يشكل لي مادة أساسية. حتى أنني أفضل كتابا عنوانه "تاريخ البصل". على محاضرة حول واقع الأحزاب السياسية بالبلاد.
    إن ظلال الأزمة قد أرخت سذولها هذه الأيام في كل مكان. حتى بدأ البعض يعتقد أن مستوى عيش مواطن أمريكي بولاية كاليفورنيا قد نزل إلى الحضيض، ليماثل مستوى عيش مواطن مغربي يعيش بجبال الأطلس أو ببوادي الراشيدية. بعض الناس في صالحهم الترويج لهذا الاعتقاد، تحت شعار مصائب قوم عند قوم فوائد. والبعض الآخر يعتقد أن الأصح هو أزبال قوم عند قوم موائد. ليس لدي ما أخفيه عنك فالناس هنا أصبحوا يكرهونك. حتى تلك العجوز المسكينة التي كانت تتحدث عنك في كل مكان، بحديثها الممزوج بالشفقة والرحمة أصبحت توجه إليك ضربات تحت الحزام، بين الفينة والأخرى.

أما في أخبار الحب والغراميات. فرغم أني قرأت هذه الأيام الكثير من القصص. التي تتعلق بنفس الموضوع. فإنني لم أر أحسن من مشهد ذلك الشخص الذي كان يقول لمعشوقته : بأنه يحبها، يرى العالم بعينيها. يحب رموشها، أنفاسها، لهاتها... وفيما بعد اكتشفت شخصيا أن السيد متزوج وله أطفال!. السيدة المغفلة كانت تصغي وتنصت إليه. لكن في يوم من الأيام سمعتها تقول له: "هل تظن أنني لم أكن على علم بذلك. إنني فقط كنت أضيع معك الوقت وفوق ذلك فقد كنت أنت الطرف الخاسر في هذه الصفقة. إن زوجتك بدورها على علم بعلاقتي بك. وأنا أعرف أنها تعرف أنني أعرف أنها تعرف ذلك. لكن المسكينة ربما تعتقد أنه من الصعب عليها تطليقك وإعادة بناء حياة زوجية أخرى. لذلك فقد تركت الأمور تسير على ما تسير عليه. إنك أنت الوحيد الذي تعتقد أن لا أحد يشعر بسلوكياتك.
   أما عن موضوع حالة أمك الصحية فطبيب الحارة قد طمأنها قائلا إنه في حالة عدم تعرضها لعوارض فجائية. فقد يمكنها أن تعمر بضع سنين أخرى. لكنه أضاف مؤكدا أنه في كل يوم تموت فيها مائة ألف خلية. وربما تتجدد فقط تسعون ألف خلية (أي أنها تفقد عشرة ألف خلية كل يوم). ما خفي عن الطبيب كان أعظم. فالخلايا الجديدة رغم قلتها تكون خير من الخلايا الميتة القديمة. فتلك الخلايا الجديدة قد صممت بطريقة انتقائية لتتلاءم وحالة أمك الراهنة. حتى أمست أمك تعتقد أن لعبة حياة / موت الخلايا. هي لعبة في صالحها. وأنه لو تأخرت بعض الخلايا في موتها. لعرقلت النظام التطوري في جسم أمك!.
    أمك المسكينة. بيضت السنون شعيرات رموشها. وصار شعرها الذي تركته أسودا شبيها بشعيرات نباتات الذرة الشقراء. لا تتحرك البئيسة دون عكاز بيدها. ولا تقف أو تجلس دون الاستنجاد بالصُّلَحَاء المحليين والنائيين. والأولياء المغمورين والمشهورين. ورغم غيابك الطويل فلازالت ترتاد محطة الحافلات على رأس كل أسبوع. تسأل عنك المسافرين والسائقين. حتى وحيث أصبحوا يعرفونها ويعرفون قصتك. أحدهم يشفق لحالها، ويقول لها إنه التقى بك. وأنك تقرؤها السلام معه. قد تصدقه أولا تصدقه لكنها تسوق شهادته. كدليل ضد أولئك الذين يلومونها عن تمسكها بالبحث عنك طيلة هذه المدة. ويعنفونها عن تكلفها كل هذا العناء.
تتعايش وتتساكن في ذهن أمك جميع الاحتمالات، التي يمكن أن يكون قد آل إليها مصيرك. فأحيانا تعتقد أنه قد ابتلعتك الدار البيضاء بين عماراتها وتبنتك أسرة ميسورة، وزوجتك ابنتها العانس. وصرت لتلك العائلة ابنا وصهرا وعبدا!. وأحيانا تعتقد أنه ربما حاولت عبور مضيق جبل طارق. فغضب عنك البحر واصطادتك أمواجه. وغدوت قوتا للحيتان. وربما لفظك بعد ذلك ونقلت إلى بيت الموتى. ولم يتم التعرف عن جثتك فدفنت بقبر منسي أو حفرة جماعية. وتعتقد أحيانا أنك وطأت أوربا وتعاطيت تجارة المحظورات. وألقي عليك القبض. وصرت في سجنين سجن الغربة وسجن المؤسسة. وأنه مع تطاول الأيام والأحقاب لم تستطع تحمل العيش في غياهب الظلمتين. وبدأت تجرح جوارحك بشفرة الحلاقة. وتنهش فخديك كالكلب المسعور. فأصبحت تشكل خطرا على نفسك وعلى النزلاء الآخرين. ونقلت إلى زنزانة خاصة بك وصرت في ظلمة ثالثة!... وربما حقنت بمهدئات عصبية، فأتلفت ذاكرتك. وانهارت أعصابك ودخلت حلقة الظلام الرابعة. فنسيت مدينتك وقريتك. نسيت بلدتك ووطنك. وأضحيت ذكرى في خبر الذكرى.
    في كل مناسبة تنظر أمك إلى واحدة من بنات عمك. تراها وردة قد أزهرت. وفتاة قد أينعت. تقول في نفسها وللحاضرين : - يا ليت ابني المختفي يعود وأزوجه هذه العذراء. تتمناها لك. تتصور عرسكما في خيالها. تمر الأيام والسنين. تتزوج بنت عمك. وتتجه عين أمك نحو بنات الجيران. زوجتك في خيالها عشرون ألف مرة!... ومع ذلك فأمك لازالت تعتقد أنك مازلت شابا يافعا. تتصورك كما غادرتها في ذلك اليوم المشئوم. بل تعتقد أنك لازلت ترتدي نفس الثياب التي خرجت بها. ربما لن تصدقك إذا عدت. لن تعانقك، ستعتقد أنك قتلت ابنها، وعدت لتحل مكانه. ستصرخ في وجهك. ستحاول أنت تذكيرها لكنها لن تتذكر. فهي ليست مستعدة لذلك أبدا.
هل ستعود أم لا ؟ أرى أنه من الأفضل ألا تعود.!

 الإمضاء : أبوك الذي لا تدمع له عين.



الـــــــــــــــرَّد
"لا يمكننا أن نصنع عالما، لم نفهمه" المؤلف      
                                                                                                                              
... ردا على رسالتك التي كان عنوانها : "المختفي". والتي كان من الأجدر بك أن تعنونها بعنوان : "أبوة". فهي تكشف طبيعة مزاجك. ونوعية شخصيتك. وطينة عجينك، أكثر مما تنقل شيئا عني.الرسالة التي تسيء إليك أكثر من إساءتها إلي...الرسالة التي بعثها لي في السابع والأربعين من شهر "جعنبلط"!، لسنة خمسة ملايير مرت على انشطار الأرض عن نجمنا الشمس. الموافق لخمسة ملايين خلت، بعد هجرة أجدادنا الهومو- سابينز من إفريقيا مهد الإنسانية. الموافق لخمسة ملايين... الموافق لخمسة أيام تعلمت فيها الكتابة دون معلم!.
    قبل أن أرد على اتهاماتك وأخبارك. أسألك هل انتظرت، يوما كلبا حتى يخرج رأسه من )سطل( القمامة. وذهبت لترى هل ترك شيئا به؟.وهل حسدت - يوما- قطا على سمكة وجدته يلعب بها؟. وهل بت يوما في مقاهي من خمسة نجوم تحت الصفر وليس فوقه هذه المرة؟. وهل اختزنت نقودك في الخلاء، حتى تستيقظ. وعندما استيقظت وجدت شخصا ما قد حفر المكان الذي اعتقد أنك اختزنتها به. لكنه وجدك أشد دهاء منه فقد موهت به واختزنتها في مكان آخر. وهل جعلت، يوما ما، من حذائك مخدة وانكمشت مثلما تنكمش أم الأربعة والأربعين. وهل...
    لست أعتقد هل ستصلك أفكاري بالشكل المطلوب. فاللغة التي بدأت تعاني من مرض التآكل. هي نفسها في حاجة إلى طفرة خاصة بها. فمهما تشير مؤشرات علم المستقبليات على أن اللغة الانجليزية ستكون اللغة الأكثر شيوعا. فإن اللغة بصفة عامة ستعجز عن مواكبتها لتطور الإنسانية. مما سيحتم ابتكار لغة هندسية. ربما تخضع لمنطق المجموعات كما هو الحال في الرياضيات.
    لديك الوقت الكافي لكتابة رسائل من هذا النوع. ولديك الوقت الكافي لممارسة هواياتك المفضلة : النميمة والغيبة والترويج للإشاعة!. وتحويل الحدث من حدث ممكن الوقوع. إلى حدث كاد أن يقع. وأخيرا إلى حدث قد وقع. والترويج له. وبناؤه على ضمير الغائب الوهمي "قيل". تصنع الحدث والخبر. تحتكر براءة إنتاج الباطل وحق نشره. فكلما نقل عنك شخص خبر ما، إلى شخص آخر. إلا وفاجأه بأنك نقلته إليه قبله!.
    وبالإضافة إلى يوم الأحد فجميع أيامك الأخرى عطل. تعمر المقهى حتى يبدأ مالكه في التضايق منك. ومن أنك أصبحت تريد بعض الكؤوس المجانية. تعتقد أن تقادمك كزبون قد خول إليك بعض الحقوق والامتيازات. حيث بدأت تعتقد أن تقادمك كزبون قد خول إليك بعض الحقوق والامتيازات. حيث بدأت تعتبر أن الكرسي الموجود على حافة الرصيف قد أصبح ملكا لك. ورغم أنك لا تغادر المقهى إلا ناذرا. فكلما علمت عن موعد مباراة في كرة القدم إلا وطلبت من النادل أن يحتفظ لك بمقعد عنده. وبعض المقاعد الأخرى لأصدقائك. عندما تجلس ويتأخر جلساؤك، تضع جريدة فوق الكرسي الثاني. ومنديلا فوق الكرسي الثالث. وعلبة سيجارة فوق الكرسي الرابع وهكذا دواليك... وكلما اقترب أحد من كرسي ما، إلا وحدجته بعينيك. وقلت له إن ذلك الكرسي محجوز وأن محتجزه قد ذهب فقط للمرحاض!.
لن يأتي اليوم أحد من جلسائك. فقد سئموا من الطريقة التي كنت تتهرب بها عن الأداء. تارة تتذرع بأنه لديك ورقة مالية من العيار الثقيل!. وتارة أخرى يقف أمامك النادل فتبدأ في البحث في جيبك الأيمن والأيسر وفي السراويل... حتى يتدخل أحدهم ويؤدي عنكم أجمعين. في اليوم الذي نسي فيه النادل أن يحتفظ لك بمقعد خاص. أقمت الدنيا وأقعدتها. هل تحب البارصا إلى هذه الدرجة؟ ربما تعتقد أن تظاهرك بحب كرة القدم قد يجعل الآخرين ينظرون إليك على أنك إنسان مثقف أو حداثي!. من وجهة نظر البارصا أنت طفيلي زائد. ومن وجهة نظري "الطز عليك وعلى ثقافتك!". ألا تعلم أن رونالدينو مثلا قد صرح بكل جرأة أنه يكره أن يرتدي قميصه أي مسلم أو عربي. وأنت كلما انهزمت البارصا، إلا وكسرت كؤوس المقهى وصحونها. وعندما يغضب صاحب المقهى تشهر فيه عبارتك الشهيرة : "إن الزجاج لا يغرم، وأن تغريمه يجلب البلاء والبأس". أهذا كل مل ما تعرفه؟!. إذا كان الزجاج لا يغرم فما ذنب الطاولات والكراسي. التي كنت دائما تهمل فوقها سجائرك المشتعلة على الدوام. لتترك عليها بقعا سويداء. مع العلم أنك لا تحتاج عود الثقاب فأنت تشعل السيجارة اللاحقة من عقب السيجارة السابقة.
    هاجرت بعدما أحسست أن الأرض ضيقة، والدنيا مظلمة، وقبضتك خانقة. لذلك خرجت طالبا للحرية. نحو أرض الأمل. نحو الجنة، أو على الأقل الجحيم التي كنت أعتقد أنه جنة. آبقا نحو التحقيق الذاتي لذاتي. ومهما كنت تعتقد أنني مختف. فليس هناك ما يثبت اختفائي. فأنا بهذا المكان الذي أنا فيه. حيث يمكنني أن أطفو على سطح تلك الروابط التي يمكنها أن تكون كذلك بالنسبة إليك. وبطبيعة الحال لا يمكنني أن أكون مرتين في آن واحد. أو مرة واحدة في آنين أو مكانين. لذلك فالفكرة التي لذي في الموضوع. هو أنني هذا الذي أنا. هذا الذي الآن بهذا المكان. التفاعلات الدقيقة والعميقة لا تجعلني أكون مرتين.
بخلافك أنت... فأنا ليس لذي وقت لأضيعه. فأنا أشتغل طيلة أيام الأسبوع. ولحسن حظي من دون معظم أصدقائي. فمقر العمل يبتعد عن مقر سكناي بمائة كيلومتر فقط. معظم جرائدي المفضلة أقرأها في الحافلة. أحيانا أقرأ فقط العناوين وأراكم المواضيع ليوم الأحد. للأسف الشديد الضغط المفروض على يوم الأحد جعله أشق من الأيام الأخرى. إذا لم ترتب أوراقك هنا بعناية، ستتبعثر. وتدروها الرياح. أو تلتهمها نار خرافية. فالسرعة التي يسير بها قطار هذا المجتمع، تجعلك ترى الأشجار المحاذية للطريق، تجري في الاتجاه المعاكس التي اعتدت رؤيتها تجري نحوه، في حافلة عادية . الفكرة الوحيدة التي لدي حول السرعة.
    في كل يوم تحدث لي قصة حب. حيث أراقب تلك الفتاة التي تراقبني بدورها من الكرسي المقابل. نتبادل نظرات مليئة بالشفقة والرحمة وبالحب. فنحن نشترك هنا هما واحدا هو أن الحافلة تتجه بنا إلى الأمام. وأنه لا يستطيع أي منا أن يوقف الحافلة في مكان لا يمكنها أن تقف فيه... قد تنزل هذه الفتاة في الطريق. أشيع هامتها المختفية بين الركاب. وقد تقعد مكانها فتاة أخرى. إذا حدث هذا قد أنجز قصتي حب في حافلة واحدة. وإذا حدث ونزلنا معا فقد ننجز قصة حب واحدة في حافلتين. قد تمر الأيام وتجلس في الكرسي فتاة سبق أن بادلتها تلك النظرات. غير أن التمادي في تبادل النظرات، دون التقدم في الموضوع قد يبعدنا أكثر مما قد يقربنا. فتلك الفتاة غالبا ما تتأفف وتغير المقعد. أو تدير وجهها. بعدما تكتشف ألا شيء أستطيع أن أفعله سوى النظر إلى وجهها كأنه شاشتي المفضلة. فأنا خجول أكثر من اللازم. في مثل هذه الحالات التيارات كلها تسبح ضدي، تيار بشر، تيار هواء، تيار ماء، تيار نار. مع العلم أن النار في ذهني غالبا لا تشير إلى ذلك اللهيب المعروف!.
بعض الإسبانيات الشقراوات كن تنظرن إلي بنظرة أقرأ فيها الحيطة والحذر، أقرأ فيها الاحتقار والمهانة، في تلك الأيام كانت أمريكا قد سلطت أضواءها على موضوع الإرهاب، حيث حشدت جميع جنودها الإعلاميين والنفسيين لدراسة الظاهرة. لتجعل من كل ذي شعر أسود كائن إرهابي. هكذا بدأت أتصور أن شبح الإرهاب يطاردني. في إذلال أضيف إلى إذلال التخلف. تلكن الفتيات ربما كن تعتقدن أنه يمكنني أن أنفجر هنا وهناك. إلى درجة أنني أكاد أصرخ بقوة : "أنا لست إرهابي.. أنا لست إرهابي..". هذا الشعور المتبادل ربما زاد من تعميق الهوة بيني وبين الشقراوات وكسر حلمي في الزواج من فتاة أوربية تحب الأفارقة وتحترم المسلمين. وتعرف شيئا عن الثقافة الأمازيغية والعربية. الحرب الإعلامية تلك كان لها أشد تأثيرا على نفسيتي. أكثر حتى من تأثير تلك المدافع التي كانت دائما تقصف أبرياء غزة. ومن أولئك الجنود الذين لا يكادون يصرحون أنهم سيخرجون من غزة. حتى يدخلون أريحا. في لعبة شبيهة بحمل صخرة سيزيف الأبدية. أيها الله مالك الأكوان، هل تسامح الفلسطينيين. إنهم يقاومون شعبك المختار؟!!!.
    في الموضوع نفسه أنقل إليك قصة الشاب الإفريقي، الذي قدم من إفريقيا جنوب الصحراء. في المغرب استقر هذا المهاجر شهورا طويلة. يتسول أمام المساجد والمحلات... الفتاة المحسنة التي كانت كل صباح تنزل إليه ببراد من الشاي وقطعة من الخبز وسلطانية من زيت الزيتون. والتي خفق إليها قلبه، في الوقت الذي كان شعورها نحوه ممزوج بالسذاجة والرحمة. في أحد الأيام اختفت الفتاة المحسنة. حيث كانت تعمل كخادمة لدى تلك العائلة... الإفريقي اعتبر الأمر عارض بسيط من عوارض طريقه. حيث اعتاد فؤاده مثل هذه الهزات. الإفريقي تابع هجرته نحو أوربا. في إسبانيا، تعرف على شابة أخرى من أصل بولوني لكنها تحمل جنسية كندية. بنت لأب جزائري وأم من الشيلي. بعد سنين من زواجه بها، اكتشف أنها بنت لتلك الأسرة بالتبني فقط. فهي لأم فرنسية وأب مغربي، أول مولود لذلك الإفريقي مع زوجته سمياه الطفل العالمي. اعتقد أنه سيكون طفلا بلا هوية، بلا ديانة، بلا وطنية. سيشكل مع أطفال آخرين يشبهونه شعوبا بلا أوطان. ومع ذلك فإنهم أبناء هذا العالم. يفتخرون من بين ما يفتخرون به أنهم أكثر موضوعية من تلك الانتماءات التضليلية. والتشيعات العنصرية. ويفتخرون كذلك أنهم لا ينتمون إلى نظام فاسد ولا صالح. لقد أصبح طموحهم هو أن يكونون أبناء الكون!.
    ربما هذا المثل البسيط / المركب يمكن أن يغير مواقفك حيث كنت تعتقد أنني نسيت وطني وبلدتي. ويمكن أن يزعزع أمن أفكارك الجامدة. أفكار الحومة والحارة والدرب والدوار... ألم تكن أرض الله واسعة فأهاجر فيها؟!. إن الروابط التي تربطك بحومتك، وبجميع مقدساتك أصبحت تربط الإنسان العالمي بكوكب الأرض. فقد عبر لي ذات يوم أنه لو كان قد كتب إليه أن يكون أول من وضع قدميه على سطح القمر، لنظر إلى كوكبنا نظرة احتقار وسخرية مشيرا بإصبعه إلى هذا الكوكب قائلا بهدوء رزين وسخرية حزينة : "فوق تلك الكرية الصغيرة، هناك ملايير من البشر يتصارعون، يتقاتلون"...
    ليس العيب هو أن تحب حومتك أو قريتك، العيب هو أن تلوم الآخرين عن حبهم لمقدساتهم. أن تفرض عليهم معتقداتك. المبدأ الأساسي والفرضية الأولى التي يمكن أن ينبني عليها أي حوار حضاري بناء ومسؤول.
    الطبيب الذي شخص إليك حالة أمي لا يملك الوسائل التي يمكن أن يثبت بها أقواله. حيث أنه لا يعرف سوى البنسيلين. وأن معرفته لا تتجاوز معرفة تلميذ نابغة يتابع بعض المجلات الطبية. من جراء ذلك قمت بإضراب عن زيارة الطبيب طيلة حياتي. حتى ولو أصبحت سجلا للأمراض.
    رسمت لأمي في خيالي صورا كثيرة. رسمت لها صورا وهي في عقدها الرابع والخامس والسادس. رسمت صورا لكل سنة من سنوات حياتها. وتحت صورة كل سنة صويرات الشهور. استحضرت لها صورا لكل دقيقة من دقائق عمرها. صورا لكل ثانية. أخذت نلك الصور بواسطة المجهودات الجبارة لتطور تكنولوجيا النانو. لم تكن صورها وصويراتها تفارقني على الدوام. تصورت دموعها تختلط بابتسامتها الساذجة. تخيلتها واقفة، جالسة، ضاحكة، باكية،... استحضرتها تدندن ببعض الأغاني المحلية. ينخفض أحيانا صوتها وهي تغني. لا لشيء إلا لأنها لا تحفظ المقطع بكامله، وأنها تعتبر الغناء وصمة عار في جبينها، خاصة وأنها في خريف عمرها.
    ردا على تهم الابتزاز التي ألصقتها بي. فإني أحيطك علما بأن السباب العنيف الذي وجهته لبائع جافيل كان مرده إلى أنني شاهدته بأم عيني وهو يسرق لعبة الطفل الصغير ابن سعيدة الجارة المجاورة. اللعبة كانت تمثالا اسمه "تمثال الحرية والصمود". التمثال كان أفضل هدية من الأم المسكينة إلى ولدها... لكن بائع جافيل، ذلك السارق، قد باعه في سوق الخردة بثمن بخس دراهم معدودة. وبالتالي فالسارق من بين ما يجب أن يعاقب عليه هو تبخيسه لقيمة المسروق. هذا إن كنت أنت تعطي قيمة للأشياء. فأنت تبخس حتى الإنسان. أما الحداد فقد دمر الغابة المجاورة...
    استيقظ من نومك فشمس الحرية قد سطعت وبزغت. ودخاخين الظلام قد تلاشت في الفضاء الرحب ثم اختفت واندثرت. وبقيتَ أنت وحدك ترعى الظلام، الظلم، التجبر، القمع والغلت. حتى اعتقدت أنه لا أحد من قبضتك انفلت. وأن أفكارك ومعتقداتك هي الصائبة وأن الآخرين يسبحون في بحر الخطيئة، الوهم والغلط.
    هل سأعود أم لا؟ ماشي شغلك.
 
الإمضاء : ربيبك الحقيقة التي أخفيتها عني وعن الناس.





إدارة "السلحفـانـــون"(*)

حكايــة رمزيــة   "أقدار الآلهة هندسية" أفلاطون
     
كانت المناسبة احتفاء باليوم العالمي لحقوق الثعبان!. وكان المشهد عجيبا ومثاليا جدا أكثر من أي مشهد في كل زمان ومكان. إذ حضرت جميع الحيوانات بصغيرها وكبيرها، بطائرها وزاحفها من الحشرات ذبابها ونحلها. ومن المثل الأسمى للحقوق انه لم يتم تناسي الديدان. واقتضت العدالة الاجتماعية كذلك أن تم ترتيب هذه الحيوانات في صفوف هندسية جميلة ابتداء من الأصغر إلى الأكبر ومن الأعمى إلى المتبصر، وكان هنا التنظيم أحكم من تنظيم تجمع نازي عظيم. ولوحظت البكتريا النافعة تحلق ذات اليمين حاملة السنابل والزعفران في الوقت الذي كانت فيه الفيروسات محلقة ذات الشمال وتحمل الأسهم والقطران، فحظيت بدورها بكل احترام. وشوهدت لأول مرة في تاريخ الحرية القطط تصفق إلى جانب الفئران والأسود ترقص معية الغزلان. فصعد المنصة غيلم حكيم. إذ كان رئيسا لهذا الحشد الكبير ومنظما لهذا الجمهور الغفير. وقد قيل انه تم اختياره من دون الأسد لدرايته بالبر والبحر، وقيل لطول عمره ولقوة حنكته وعمق تجربته وحسن تبصره ويقظة بصيرته، وقيل شيء آخر لا نعلمه حتى الآن، ولا ندري أأريد باختياره شرا أم أريد به رشدا. وتسلق المنصة رويدا  رويدا وكان الوقت كافيا لانتظاره سنين وأعوام، ومن شيمه وحسن خلقه أنه لم يهتم بكسوته ولا بهندامه، ولا من أي درجة يطلق عنان لسانه، ولا حتى بجلوسه خطيبا أو وقوفه. المهم بالنسبة إليه أن يفرق عليهم صوته بالتساوي آخذا بعين الاعتبار بعيدهم منه ومن كان قريب المكان، قوي السمع فيهم وضعيفة ومنعدم الأدنين، وعدل بصره حتى يراهم متساوون في الإحجام والأبعاد سواء كانوا أسودا، فيلة، أو ديدان. ثم ضم يده إلى جيده فخرجت معها ورقة منسوجة بدموع الفئران وصهيل الفرسان. فطرح عليهم سؤالا عظيما مفاده : لماذا يضطهدنا الإنسان؟. فرفع الأسد أصبعه للإجابة عن هذا السؤال المفاجئ الغريب لكن سعادة الغيلم لم يبال به، فقيل انه كان يكرهه لأنه نافسه في الانتخابات عقودا وأعواما... لكن اعتقد أن السلحفاة كان متبصرا جدا فقد خشي أن يقال استهل هذا الاجتماع بالأسد لأنه قوي وفي ذلك إخلال بالمساواة وحقوق الحيوان. فصده عن الكلمة الآن، لكنه احتج عليه قائلا: "ولماذا تحرمني من شيء كان لي منذ قديم الزمان".( صمت طويل).
لم تمر سوى سنوات معدودة ليرفع الحمار رأسه هذه المرة، وليس أصبعه! زامعا الإجابة عن هذا السؤال فبدا الموقف حرجا جدا فقد بدأت بعض الحيوانات توشوش فيما بينها، وأخرى تتغامز وتقهقه وتسخر من هذا الدحش الصغير الذي يريد الإجابة عن سؤال كبير، في حين كانت بعض الحيوانات الرقيقة الطبع تنظر إليه خلسة وتتساءل خفية من أي حظيرة جاء هذا الحمار الشجاع؟ فارتأى الغيلم الحكيم استغلال هذه المناسبة للتعبير عن أسمى نماذج المساواة والديمقراطية الحيوانية .فتقدم سيادة الحمار ونزع عمامته وأعطاها لقرد كان بجانبه ( اعتقد انه جاره)  ورفع رأسه إلى السماء وجلس على مؤخرته فقلب شفتيه معريا عن أسنانه التي كانت بشكل البرد ولون الذهب الأسود تم اخذ ورقة أعدت له من ذي قبل وابتدأ مداخلته قائلا" حضرات السادة الحيوانات الأحياء منكم والأموات! الزاحفين والقافزات السيد "السلحفانون" الذائع الصيت الجليل المكانة، الحبر العلامة الفاهم الفهامة، يعرف الإنسان انه على حيوان عاقل وهذا ما قيل عنه منذ قديم الزمان وهي صفة لا تختلف فيها حضارات الشرق عن اليونان، وقد يحد كذلك على انه يتميز بالفكر واليد، ويقال هو ذات  واعية بذاتها. أما نحن فنعتبر ذات واعية فقط ويحلو لبعضهم أن يميزه عنا بالعمل والإدارة المتوترة والمستمرة، في حين يحلو للبعض الآخر أن ينعته بأنه حيوان رامز ومهما يقال فقد بلغوا مبلغا هاما في الحضارة واثروا التنظيم في ملابسهم ومشاربهم فأسفارهم وأنكحتهم. (لوحظت الغزالة تضحك وتنظر صوب الحمار) وقننوا الأمور تقنينا بالغا دقيقا ومعقدا، وبرعوا كذلك في بناء العمارات وشق الحفر والطرقات، في بطون الجبال ومتاهات المحيطات، وقاموا برعاية الأديان وحماية الفن  وحقوق الإنسان ولم يفتهم احترام حقوق الحيوان والشجرة والحجرة فالحشرة وهلم جرا... !وأنهم بهذا كله لأحق بقيادتنا واستغلالنا. ونحن طائعين لهم على مر الزمان. ( شرعت الغزالة تمسح العرق الذي يتفصد من جبين الحمار).
انتهت كلمة الحمار بتصفيقات حارة، فقد استطاع من خلالها التعريف بكفاءته وهو الذي ظل محتقرا لسنين طويلة. وإذا كانت قد أثارت في نفوس البعض استفزازات بالغة، فقد أثارت في نفوس الآخرين الرغبة في إحماء وطيس النقاش. وعلى العموم قوبلت بتصفيقات حارة أحدثت ريحا كادت أن تزعزع استقرار الفيروسات التي كانت بدورها مستعدة في كل لحطة وحين لزعزعة امن واستقرار هذا الاجتماع ولو بطقطقات في إدارة "السلحفانون" أو على الأقل تهديدات على شبكة العنكبوت / نيت أو تفجيرات على مستوى التنينة الجليدية.
أما سعادة "السلحفانون" الحاذق المتبصر فقد تدارك صعوبة الموقف دون أن يشعر أحد. فانتابه شعور بالسعادة والشقاء في نفس الوقت، حيث أراد إتمام هذا الاجتماع بهدوء وأناة. فمرر الكلمة من جديد لكن هذه المرة الكل أراد الاستئثار بها. فثمة حيوانات هزت أصابعها وأخرى أرجلها وثالثة ذيولها (الغزالة الآن تقهقه بإسهاب). فوضع في مأزق حرج وهو الذي يرى الأشياء متساوية، يرى المجهريات بحجم الفيلة والتنينات، يحب هذه الرؤية بل يقدسها فأصبح لها تأثير بالغ على نفسيته، حيث يتصور الأمور أخطر مما هي عليه في الواقع، وتلكم خطيئته.
المعضلة عويصة، الموقف حرج، وتحقيق العدالة أمر مكلف ووقت اتخاذ القرار ضيق، والحق يقال كان كل حيوان يفكر لو وضع مكان السلحفانون الآن ماذا كان سيفعل؟ لكن سيادته تفطن إلى طريقة مثلى وذكية فقال لهم مستدركا : يمكنكم كتابة تعليقاتكم على الأوراق وسوف نأخذ منها ما تيسر بالاقتراع، ونناقشها جميعا ونترك ما تبقى منها لمناسبة أخرى. فاندهشوا جميعا قائلين بصوت واحد : - وبما ستعرف أوراقنا ونحن لا نملك أسماء ولا "ماتريكولات" مثل بني الإنسان؟ وقد قيل أنهم برعوا في اللغة والتعبير حتى أن لديهم بون بين قام زيد وزيد قائم؟. فسكت قليلا واستطرد قائلا : اعلموا أنه رغم  كثرتكم وتشابهكم في بعض الأشياء العامة فبينكم اختلافات في الدماء والبصمات والاحمضة و النويدات والعقا... (فسكت) وإني لأستطيع من قراءة كل مقال أن استخرج البريء والمجرم، الغني والفقير/ الأنثى والذكر المتلبس والارها..(فصمت) واستطيع أن اعرف عن زيد النائم أيحلم نفسه يبكي أم يبتسم أم ينفجــ... (فسكت).
وبيمنا هو في عد العدة والعتاد للإجابة عن جميع الطروحات والتعقيب على كل التساؤلات، جاءته عطسة مفاجئه حتى لا يزعج البكتريا والفيروسات لقد أصبح حريصا كل الحرص على حقوق الحيوانات لكي يستمر استقرار عالمه. لقد تذكر وتدارك أن بعض الحيوانات لا ترى الألوان، وأخرى لا تبصر بالمرة ولا تريد أن تبصر وأخرى لا تسمع الصوت إلا إذا كان عبارة عن موجات أو ذبذبات، عفوا عصيات أو ذبابات وان أخرى تنصت ولا تبالي وسادسة سميعة بصيرة لكن قدراتها قاصرة وسابعة عاطفية الرد والانفعال... واحتراما منه لكل هذه الاعتبارات فقد ارتدى فستانا مزركشا بالألوان التحت- مرئية وقبعة لا شكل ولا لون لها تسر العميان وتسيء للناظرين. لكنها مكلفة جدا حيث كانت منسوجة من أنياب الفيلة وأظافر الحمير، وروي أن تصميمها وضع منذ سنين وأعوام لكن اكتمالها لم يتم حتى الآن!.
وبعد هده الترتيبات استهل سيادته خطبته الشهيرة قائلا : "أما بعد فباستثناء العنكبوت آثرت الصمت وفضلت السكوت. فان جميع مداخلاتكم كانت تتأرجح بين موقف الحمار الذي يمجد الإنسان ويبرر استغلاله لنا بالتقدم والعقل وبين موقف الأسد الذي جاء فيه بصريح العبارة : (الإنسان حيوان إرهابي إذا اتخنته هان وإذا أحكمته لان، وإذا استأمنته خان وإذا حررته ثار ولعن!). واني لمبتدأ بمناقشة الأطروحة الحمارية احتراما مني للترتيب وعدالة التعقيب فقولك عزيزي الحمار الإنسان حيوان عاقل فيه اخذ ورد فخلف نير العقل ترزح ظلمات الغريزة وإذا كان  للأول دور فللثانية ادوار. أما النضج فهو الاستفادة من مرور الزمان. ثم تحت الأبنية والعمارات الشامخة قنابل موقوتة هدامة ومدمرة. الإنسان يرقص رغما عن أنفه فوق فحيح الذرة وزئير النواة وطقطقات النويدات، لقد أصبح عبدا لضيعته وهو بذلك لم ينجح سوى في رسم نفسه كاريكاتيريا يوهم نفسه بقيادة الكون .
إن مقولة العقل ليست سوى إيديولوجيا اخترعها الإنسان لتبرير جوره على الحيوانات وإقناع ضميره وأنني من هذا المنبر "السلحفاتوي" المتواضع أناشدكم ماذا لو كانت ثمة مملكة حيوانية تستطيع مجاراة الإنسان ومبادلته الانتصارات والانهزامات عبر تطاول الأحقاب ومرور الأجيال، ألن يتم في الأخير التوصل معها إلى حل إلى المساواة... وعلى أي مقياس أعلى العقل الذي يعتبر مكسبا لطرف واحد؟! سيتم إذا التوصل إلى هذا الاتفاق على أساس تفاكؤ القدرات أو تقاربها. فالناس متساوون فيما بينهم ماداموا متساوون في القدرات وكلما شال ميزان هذه القدرات إلا وشالت معه موارين تلك المساواة. وثمة ليست إيديولوجية العقل وحدها التي تظهر بل تظهر إيديولوجيات أخرى، فثمة جهاد وتبشير صهيونية ونازية وعلى الضفة الأخرى قرصنة وتضليل وكونية وحرية غير أن ما يميز إيديولوجية العقل هو قدمها قدم الوعي الإنساني. قطيعة (تصفيقات حارة وشعارات تمجد "السحلفانون").
الإنسان لم يبن حضارة بل بنيت له، هذه الأشياء أصبحت خارجة عن إرادته فهو لا يبني ولا يشيد بل يبنى له ويبنى به. لقد أصبح بيدقا صغيرا ضمن لعبة الشطرنج المعقدة يفعل به، ويعمل به ضمن حدود صلاحياته فهناك الأمير والفرس والجنود... لكن كل واحد يتحرك ضمن حدود حدوده. دون أن يعرف ما يترتب عن هذه الحركة وانه لو خير في هذه الحالة بين الحركة والسكون لفضل أن يبقى ساكنا إلى ابد الآبدين. قوانين اللعبة محفوظة لكن الصلاحيات محدودة، قوانين اللعبة تتغير، تتفاعل، تتجدد باستمرار، فلا يعني إتقانك لها اليوم أنك ستتقنها غدا. كان الإنسان مغتربا في العمل (الاستلاب) واليوم أصبح مغتربا حتى في التسيير لقد اخل التقسيم الدقيق بمسؤولية الإنسان وافسد قدرته. بدأ الإنسان يتعامل مع أرقام في الهاتف، في البريد، السوق الممتازة، التحليلات الطبية... الرأسمال بدوره لم يعد ملموسا تحول إلى أرقام تتحول من حساب إلى آخر انه عصر الرقم (Numéro) والشفرة (code). ولذلك فقد أصبح جديرا بالإنسان أن يقارن نفسه مع الحاسوب وليس معنا نحن .
اغتراب الرأسمال أدى إلى اغتراب مالكيه الاغتراب عن التسيير الاغتراب عن الإشراف ومباشرة الأعمال. لقد تعولمت طبقة البورجوازية. تعولم كل شيء، فبقيت طبقة واحدة لم تتعولم هي البروليتاريا، وعندما تتعولم هذه الطبقة فان ذلك يعني نهاية بني الإنسان. وقد قلت كذلك سيدي الحمار أن الإنسان راعي الديانة فأي ديانة تقصد الإلحاد أم الاعتقاد وبين هذا وذاك ملل ونحل، ملل تدعي موت الديانة فيحدث أن تموت هي وتبقى الديانة حية، يموت القاتل قبل المقتول. وسيموت القاتل قبل المقتول لا لشيء إلا لتجدد الحياة. واعتقد البعض كذلك أن الفرق بيننا وبينهم شاسع فلا مجال للمقارنة وهذا خطأ فادح فالفرق بيننا وبينهم اقل من الفرق بين متقدميهم ومتخلفيهم.الآن أنصتوا إلى كلام أحد السورياليين يسمي نفسه "لوتر يامون" : "العيون البشرية هي أشبه بأعين خنزير البحر، مستديرة مثل عيون البومة، صلعته كأنها صدفة سلحفاة"، أي صدفتي أنا رغم أن صدفتي أعلى منها وأحسن بكثير لأنها قابلة للتجدد؟. 
- إني لأرى من منظوري "السلحفانوني" أن الإنسان ليس سوى حيوان تعس/ محظوظ تعس لأنه قذف به مملكة الشمس دون اختياره، محظوظ لأنه رزق أعضاء متوازنة.  فليس وعيه هو الذي يحدد وجوده ولا وجوده هو الذي يحدد وعيه. بل ووعيه ووجوده يتفاعلان بتزامن وتزمن ليحددان وجودا واعيا بدرجة أعلى. وإلا ما عساه (الإنسان) أن يفعل بدماغه لو كان  في جسم دودة؟! تدارك تواجد الدودة وغضبها فاستدرك خطأه قائلا : "لو كان عقل الإنسان في جسم دودة لامتلأت الدنيا حريرا دون أن نرى هذا الضجيج الذي لا يوافق إلا بنية الإنسان. وأسر إلى نفسه لو كان ذلك كذلك لتقبت الأرض بالهبش والنبش!!".
ما إن اختتم سيادته خطابه هذا، حتى تعالت أصوات تمجد ثقافته الكونية التي تحترم كل شيء وأصوات أخرى تدعوه للاسترسال في الخطاب لكنه أبى إلا أن يتم تأجيل ذلك إلى مناسبة أخرى، ولتكن مثلا اليوم الكوني لحقوق الضفادع وقد نجح في استدراجهم لهذا اليوم والتي ستناقش فيه بعض حقوق الضفادع. كحق الترشح والتصويت.
وإذا كانت العنكبوت قد تعجبت وتحيرت كثيرا كيف علم "السلحفانون" عدم مشاركاتها. وإذا كانت الوحيدة التي تعلم إلى حد الآن مدى عمق وأصالة التجربة "السلحفانونية"، فان الأسد أظهر غضبا وحزنا شديدين وذلك لأن موقفه لم يناقش، والحق يقال أن موقفه الوحيد الذي لم يناقش لكن حكمة سيدنا "السلحفانون" تكمن في كونه تجنب مناقشة هذا الموقف لما فيه من تشدد وإثارة للفتنة. وحنكته تكمن في استطاعته احتواء غضب الأسد، إذ أمر له بجائزة النمر للكرامة. في الوقت الذي أمر فيه للحمار بجائزة جدجد للسذاجة. فنودي عن الثعبان لتوزيع هذه الجوائز لان المناسبة مناسبته. لكن وللأسف الشديد فقد وجد غائبا. أما السيدة الغزالة - المكلفة بالتنمية الاجتماعية ورعاية البيئة الحيوانية - فقالت مبررة هذا الغياب : "ربما لأنه لا يملك ثعبانه". وجاء رد سريع من الثعبان يقول فيه : "ببالغ الأسى والأسف أكتب إليكم اعتذاري عن هذا الغياب سيدي "السلحفانون" لان الأسد الذي كلف بتوزيع الاستدعاءات وصل إلى مسكني فأصابه نوع من الكبرياء فمزق الاستدعاء وتبول على المسكن - وهو القائل الإنسان حيوان إرهابي - فكيف بهذا السلوك المشين والعمل اللعين ألا يحول حتى الحيوانات والجمادات إلى كائنات إرهابية".
استاء الجميع، أثيرت الفوضى، وانتشرت القلاقل وعم البلاء وبدأ الأسد يتلقى الضربات من كل حدب وصوب. فألقى "السلحفانون" بنفسه في الماء، ليبتلعه تمساح كبير التمساح يمضغ يلوك ويبتلع. و"السلحفانون" يتمتم : "أنا الذي تنازلت عن ملة آبائي في سبيل الحرية والعدالة والمساواة، والغاب لا حرية فيه بل حريته أن لا حرية له فقد قال أجدادي قديما "كن ما لخواض ما يعيش الفكرون".

لم يكن ابتلاع التمساح "للسلحفانون" سلوكا من قبيل الصدفة والبخت، ولا هو فعل تعسفي أو جوري، فعندما نعود القهقرى شيئا ما نجد أن ابتلاعه له كان بموجب اجتماع عقدته الحيوانات البحرية تقرر فيه أن : "الفكرون فضل الحيوانات البرية على البحرية ولأنها لن تتنازل عن حقها فيه .وبناء عليه فدمه مهدور!". الفكرون المسكين كان قد أخذ على عاتقه جميع التدابير والاحتياطات الخاصة بالمساواة والديمقراطية وتحاشى مناقشة بعض الموافق اجتنابا للفتنة وحرص على وعلى... الفكرون يختفي وفي نفسه الكثير من حتى...
لم تمر سوى بعض دقائق ليطفو فوق سطح البحر كناش صغير عنوانه : "مذكرات فكرون"، جاء في الصفحة الأولى منه : "كنت أعذبهم عذابا "بروكسيت" حيث أوهم قويهم بالضعف وضعيفهم بالقوة وكنت خير الماكرين. وكانت لي علاقات وطيدة مع الأسد". فغضب البحر لهذا السر العجيب الذي اكتشفه عن حيوان كان يكن له كامل الاحترام كان يعتقد انه سيرى، في يوم من الأيام الحيتان الصغيرة تلعب فوق أسنان التماسيح الكبيرة. ويظن أن الأمن والسلام سيشملان حتى الطحالب، وان هذا الخلاص سيأتي على يد السلحفانون الحكيم / الفكرون اللعين، فأبى إلا أن يغضب غضبة "بروكسيت" بدوره، فتحول من  مكانه إلى اليابسة لتعذيب البحريين باليبوسة والبريين بالرطوبة، فأضحى المشهد غريبا جدا حيث كانت الحيوانات البرية تتخاطف الأوراق المتناثرة من "مذكرات فكرون". وهي تصارع الموت محاولة تركيب بعضها ببعض للحصول على بعض الحقائق ولأول مرة لعب القرد دورا هاما من أجل الحقيقة حيث صار يجمع ويلصق ويحمض. يستنطق الحيوانات التي أوشكت على الموت يشرح جثث تلك التي وافتها المنية ويلصق شظايا ما ابتلعته من أوراق حتى توصل إلى الحقيقة التالية : "لم تكن تهمني حقوق الثعبان ولا حقوق الذبان أو الجرذان. كان المهم بالنسبة إلي أن تخرج الضفدعة والذبابة والثعبانة للسوق، أن تحشر أنفها، بطنها أو ذيلها حتى لا تكسد البضاعة. والمشروع اسمه "حق الضفدعة في التبضع" أي الحصول على بضاعة أو التحول إلى بضاعة. وكنت أضرب بالحرية، المساواة، الخصوصية، الأسرة والقومية وتلكم وصية من وصايا اعتقادي وأجدادي".
لم ينه القرد عمله الشاق هذا، حتى بدت تطفو فوق سطح البحر بعض الجثث المتعفنة، فرأى جثة الغزالة فدنا منها ووضع فوقها عمامة الحمار بعدما اكتشف ضمن "مذكرة فكرون" قسم الاستخبارات العامة، أن الغزالة كانت تكره الحمار مبدئيا وأن همها الوحيد هو الحصول على العمامة، ثم وضع الكاميرا فوق جثة الحمار ليحقق له أمنية التسامي والرياء، كانت الأمواج المتلاطمة وحدها تقرب الجثتين من بعضهما البعض فتظهر بعدسة الكاميرا عمامة ممزقة الأطراف. الشمس إلى الغروب كل شيء يختفي تدريجيا، استدركت الإمضاء من القرد فكتب : أقرد القردة / أمواج البرية / رسالة حي بين ميتان.
أما باليابسة الجديدة، فلم تكن الوضعية أحسن حالا. حيث امتلأت هذه الأخيرة بالجثث المتفاوتة الحجم والضخامة، وسطعت شمس الربيع بحزن دافئ، سطعت فوق مكان يابس لبحر غاضب راحل، وفي هذا الكون الشمس وحدها لا تغضب، ألقت بأنوارها على الجثث المترامية والهادئة، لم يكن ها هنا شيء يبشر بالحياة، حتى النتانة أو الرائحة الكريهة، لا وميض أمل أبدا في هذه الحياة. الهدوء والركوض سيدا الموقف، رياح خفيفة فقط  تحرك شظايا الحيوانات المتناثرة وبعض الإطراف المتقطعة من الرفات، تزحزحها غير بعيد، غالبا ما تقبلها في مكانها الأصلي، قطعة صغيرة تتحرك ببطء وهدوء شديد، كأن نسيما عليلا يململها، تتفتق كما يتفتق الزهر عن أكمامه، انتبهوا إنها قطعة من جثة تمساح كبير، وأخيرا خرج من تحتها الفكرون اللعين لقد قضى التمساح قبل أن يهضم الفكرون، فالسلاحف كما نعلم جميعا لا تهضم بسهولة، لقد عجل سلوك البحر بموت القاتل قبل المقتول ليس فقط لتجدد الحياة، بل لأن الفكرون يملك ثقافة برمائية / كونية.
وقيل البرمأة، رغم تواجد الوحدة التي سيعيش عليها إلى الأبد، رغم أنه الآن يستطيع امتلاك البسيطة ببحرها وترابها، بيابسها ورطبها، فقد اكتشف - ولأول مرة - أن صراعاته الأزلية لم تكن أبدا من اجل التملك بل من أجل السيطرة، وحب الإخضاع وغريزة التسلط، فهل استكنه جوابا لسؤاله الآنف لماذا يضطهده الإنسان؟.    
أعتقد خلاف ذلك، فرغم تواجد الوفرة كما قلت، فقد بدأ يعد عدته لغزو الفضاء. وسمى مشروعه الجديد هذا" جوبرمائيات" الثقافة وهي مرحلة أعلى من البرمأة. سعادة الكائن تكمن في تعاسته.    

الأصفـــاد الخالـــــدة
 "كل شقاء الناس يأتي من أنهم لا يعيشون في العالم، بل في عالمهم".
هيراقليتس


    في كل ليلة كنا نجتمع حوله فيها. يحكي لنا أحداثا واقعية. وقصصا أو حكايات. نعرف أنه يبالغ كثيرا. حيث يمطط جزئيات صغيرة. ويسهب في سرد تفاصيل لا تفيد في البناء العام لقصصه في شيء. لكن لم يكن لنا بد من الإنصات إليه. فلا يوجد بديل عنه. إذ لم يكن ثمة تلفاز ولا مذياع. لم تكن ثمة جرائد ولا مجلات. السماء - وحدها - كانت الشاشة الواسعة العريضة التي ننظر إليها. نعد نجومها ونستمتع بضياء قمرها.
يحكي لنا حكايات سبق أن سمعناها منه. يضيف إليها ما يشاء، وينقص ما يشاء. يقاطعه أحدنا مصححا بعض أخطائه. لكنه يحدجه بعينيه. وربما يمتنع عن إتمام تلك الحكاية. ويأمر هذا الذي قاطعه بأن يتمها نيابة عنه. لكننا نستعطفه ونعنف ذلك المتطفل بشدة. وبعد ذلك يشترط علينا التزام الصمت. فهذه الليلة سيحكي لنا حكايات عظيمة، حيث خيرنا بين : "جنة الأرض"، "أسطورة الحرية"، "السيرة الذهنية لقرد"، "غابة الأحلام"، وأخيرا "حكاية الحضارات"...
    خجلت من نفسي فصاحبنا لا يعرف معنى الحضارة ولا البداوة. يعيش البداوة دون أن يعرفها. اعترتني رغبة في الضحك. كتمت أنفاسي، مخافة أن أغضبه، فيمتنع عن السرد مرة أخرى. بدأت بيننا نقاشات. إذ اختار كل منا حكاية. تدخلت بصوت مرتفع : - احك ما أنت حاك فإنما هدفنا الاستئناس حتى ينضج نومنا – كما يقال -!. نظر إلى السماء كأنه يريد رؤية المريخ. استوى على الصخرة التي كان يجلس عليها. أوف أوف .. وأخيرا بدأت الحكاية :
كانت تلكم الغابة فريدة من نوعها. متناسقة في أشكالها ومتناغمة في ألوانها وحركاتها. لم تكن لها صلة بزمن "إنشتاين" ولا "نيوتن".  ولا حتى بزمن "أرسطو" أو "برجسون". كانت تملك زمنها بقدر ما كان يملكها. أشجار الصفصاف فيها ترقص مستجيبة لنسيم كان عطره الريحان. والعصافير تعزف سمفونيات الرحمة والحنان. أغصان الدالية تحييك بدون كلل على الدوام. وأزهار الرمان تبتسم في وجهك في كل لحظة وآن. الحيوانات تتمتع بالعدالة والسلام.وتغني أناشيد الحرية المطلقة مثل هذا الزمان. لم تكن ثمة حاجة للمها رشة ولا للمنا بزة. مادام كل شيء توفره هذه الغابة. غابة الأحلام.
وبين قوسين - في يوم من الأيام طل على الغابة حداد شعر لحيته وعنفقته يصل إلى سرته. عيناه ضيقتان وحمراوان. وجبينه منكمش على الدوام، وحاجباه متقاربان من جراء الاكتئاب وعدم الاطمئنان. فتعجب الأهالي لوصوله غابتهم هذه المحاطة بأسوار من الشهب والنيران. أيكون في حاجة إلى أماليذ يابسة. شيء كهذا يعتبر من السهولة بمكان. حيث ما عليه إلا أن ينادي عنها، فتسلل نحوه رويدا رويدا. ويأخذ منها ما فيه الكفاية والتمام. لكن الحداد أجاب متمتما : - أريد من يساعدني على الحدادة ويجيد الضرب على السندان. (صمت طويل).
بعد استغرابهم الشديد لهذا الطلب الشنيع. استطرد قائلا : - أما عن طريق وصولي غابتكم، فكنت قد رجعت ذات يوم إلى مسكني، بعد قضاء حاجة لي. فوجدت أبي قد ولد من بعدي!. فقيل لي اذهب لتأتي لأبيك بشيء يأكله فقد ولد بأسنانه!. فخرجت من قريتي أترقب سواء حاجتي فاستغرقت في ذلك قرونا وأعواما. وبعد عودتي وجدت قريتي خالية من الأهالي والسكان. ولم أعرف أرجعت بسرعة فهم نيام أم أبطأت كثيرا فرحلوا عن الديار والمكان. لكنهم قد تركوا إلي رسالة قائلين لي فيها : - ارحل في صحاري الأماني والأحلام. لم أفعل ذلك بل فضلت الالتحاق بقرية أخرى، طالبا منهم حق اللجوء والأمان. فاشترطوا علي أن أقوم بمهمتي بكل إتقان. ولما كانت ملتهم تحظر عليهم الاشتغال في الحديد دون حظر الانتفاع به. فقد كنت في حاجة إلى من يساعدني على الحدادة، يجيد النفخ بالمنفاخ والطرق على السندان. فقصدت غابتكم، حيث قيل لي بأنها غابة الأحلام. (صمت طويل).
تكلم قد يسهم قائلا : - لقد قمنا هذه المرة بخيانة الآلهة. حيث قدمنا لها قربانا من القردة. مع علمنا أنها تكره القرود. وعندما رجع هذا اللعين اعتقدنا أنه عفوا منها. لكنه قد تبين الآن بالملموس، أنه عقاب وليس عفو. وبالتالي فجزاؤه أن يكون جزاؤه. وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فسترون مزيدا من الشرور والعقوبات. سيغضب الإله "رع"، سيجف النيل. ثم تشيخ الأشجار. وتتساقط الثمار. وينتكس السكان. ولما كان المقدس لا يناقش... - لا شيء إلا لأنه مقدس مسبقا - فقد سرت هذه الكلمات في أذهانهن. كما يسري السم الناقع في الأجسام الحارة الرطبة. فوافقوا عليه مجبورين رغم أنهم كانوا يعتقدون أن مواقفهم كانت ناتجة عن إرادتهم الحرة.
    سطعت شمس القرية كعادتها. فبدأ الأهالي يتساءلون عن الحداد الجديد. ومتى سيباشر عمله. وهل سيفيد القرية بشيء أم أنه لن ينفعها ولن يضرها؟ وكان بعض المتسرعين يتطرقون بإسهاب إلى منافع الحداد ومزاياه التي سيجلبها إلى هذه القرية. أما الحداد فلازالت تخالجه الأوهام والشكوك. حول مدى استيعاب القرد لعمله. وخضوعه لواجبه. وبينما كان ذهنه يتجول في ثنايا هذه التساؤلات، كانت يداه قد شرعتا في نصب "الكير" إلى جانب سارية حجرية. كما وضع السندان في مكانه. وجهز المعدات الأخرى. وأصلح ما ينبغي إصلاحه وتهييئه. وطفق بين الفينة والأخرى يرجع إلى تاريخه الأصيل. الذي ينم عن شدة صبره وقوة عناده ورسوخ عزيمته. لذلك غالبا ما يباشر عمله، دون مبالاة بالآخرين. باختصار شديد، كانت اللامبالاة بالآخرين شعاره الوحيد في هذه الحياة.
    أما القرد فقد كان ينظر إلى الجبس الذي رممت به سقيفة الغرفة، فيعتقد أنه جيء به كصخرة واحدة بواسطة الحبال. وينظر إلى قمة الجبل الذي يقابله فيعتقد أنه لو وصلها لالتمس السماء، فما بينهما سوى مسافة قامته. مثلما يعتقد أن تدخين الحداد عملية ضرورية لاشتعال النار، واشتغال المنفاخ. جاءته تلكم بالتفسيرات الأولية، كردود فعل ذاتية أمام تلك الهلوسات التي بدأت تتخلل دماغه، وأمام تلك الهزات التي بدأت تهز مناخه الفكري. فبدأ يعتقد أن أكبر مسخ حدث له هو عندما قذف به لهذه القرية، للعيش مع بني الإنسان. فالإنسان لا يجسد - حسبه - سوى "إيفرست المسخ". إنهم مجرد أشباح عابرة. لعب أطفال تتجاور فيما بينها، وتعمل كما لو كان عملها جادا وحقيقيا. قد يتغير سلوك الطفل فيضربها بعرض الحائط. دون أن يكون لها أدنى سبب في ذلك.
    شرع الحداد بتدريب عبده على الحدادة. بيد أن هذا الأخير لم يكن مباليا بعمله. حيث ينفخ بضع ثوان، وبعدها يضع يديه على رجليه متناسيا عمله. وعيناه لا تكادان تستقران على حال. حيث ينظر إلى الباب أو السقيفة سبعة آلاف مرة في الدقيقة. أما الحداد الذي كان أمام مجموعة من الالتزامات والوعود فقد وجد نفسه بين مطرقة الأهالي وسندان قرده. لذلك فقد نفذ صبره. وأخذ عصاه فبدأ يضربه بها. لكن هذا "النمروض" لم يظهر سوى استجابة ضعيفة، حيث كان غالبا ما يتناسى عمله. ويضع أصابعه على أسنانه إذا ما نظر إليه الحداد بنظراته الثاقبة!. وبعد مدة كاد أن يموت فيها من جراء الضرب والتعذيب!. فطن ربه إلى فكرة داهية، حيث لجأ إلى شاة فضربها أمامه ضربا مبرحا. وبعد ذلك قام بذبحها. فأصبح القرد مطيعا في عمله، ومتفانيا في شغله. إنه لم يكن يعرف الموت، فقد جيء به من غابة الأحلام. لذلك لم يكن يؤلمه الضرب.
    بدأت منتجات الحداد ومواعينه تنتشر في القرية رويدا رويدا. ففي الحرث تم إدخال الفأس، السكة، المنجل،... فبدأت الضيعات في التوسع، بفضل اقتلاع الأشواك والأشجار وحرث الشيم. فارتفعت الإنتاجية والمر دودية في آن معا. وفي الحصاد تمت الاستعاضة بالمنجل عن الحش باليد. وفي البيدر أدى تصفيح البغال والحمير والخيول، واستبدال بعض الوسائل الخشبية بالوسائل الحديدية. أدى هذا كله إلى تعجيل عملية الدراس والانفلات من رعود الخريف التي كانت تأخذ قسطها من الحبوب وتهب به مهب الرياح. وفي بعض الضيعات المسقية (العرصة)، والتي كانت توجه لسد الخصاص الذاتي، تم استعمال المعول والفأس، فتمت الزيادة في عمق الآبار وتحسين عملية السقي. "لقد استبدلت المهراز الخشبي، بمهراز حديدي. واستفدت من رفع مردوديتي ودق بعض الأعشاب التي لم يكن بوسعي دقها". تقول عجوز متخصصة في بيع الأعشاب.
وفي القرية، كل القرية... عم الازدهار والانتعاش فالحيوية... لأول مرة في موسم عاشوراء. تم إدخال القعدة والمقص كآلتين للطرب. فأمست فتيات القرية تغنين بكل شغف تسكتن إذا ما مر بهن رجل أو شاب. تقهقهن بخجل. لكن ما إن يبتعد حتى تستأنفن مقاطعهن المفضلة :
- وينعلوا بالشيطان الكاعدات معنا، وينعلوا بالحرايمي ما يكون معنا وسووا الريح اللي داير بنا.
- عيشوري عيشوري دليت عليك شعوري كد الموت الغدارة وكد احبال الجرارة وكد الواد وما فيه.
- عاشور أبو مديجة مات وخلا خديجة.
- والحنا دايرة خطيطات وزريعة النبي عند المومنات.
- كاع شراو البارود كالوا احنا رجالة حركة بابا عاشور خلا المرأة هجالة.
- عاشور أو يحماس تاع البارود والرصاص.
- والغرارة لوحوا الكيف هاد العام يجينا الصيف.
- كديدة كديدة وملوية على العواد وليني بابا عاشور جا يصلي وداه الواد.
    كان المقطع ما قبل الأخير يؤثر في نفسية الحداد تأثيرا هاما وبليغا ويعتبره دلالا من طرف فتيات القرية. لذاك بدأ يلتمس مكانته وسط القرية كرجل أعمال مهم. أما القرد - الذي ظل يرافقه إلى التجمعات تحت المراقبة المستمرة - فقد ظل يبخس الحياة مع بني الإنسان، فهم مجرد عابري سبيل. إنه لا يصدق حتى الآن ماذا يجري أمام عينيه. أيكون في حلم عميق. عفوا أحلام الغابة متناسقة وجميلة. هذه نقمة الآلهة يستدرك معتقدا. هذا عذاب حقيقي، إن نجا منه سيكون أسعد مخلوق في الغابة وسيكون من الشاكرين. بدأ يفرق بين جنازة رجل وجثة شاة بعدما حضر مراسيم جنازات متعددة لم يقدر على أكل الرغيف المبلل بالزيت والعسل واحتساء الشاي. فهذا الطعم لا ذوق له على حد تعبيره. بدأ يخشى الموت ويبخس العيش مع سكان القرية. لقد فهم أن الصبر والكراهية والحب والعمل مخلوقات إنسانية جوفاء وخالية من أي مضمون إنها مخلوقات "إنسانو-أرضية" على حد تعبيره الدقيق. وبينما كانت هذه الأشياء تنخر نفسيته تاركة صداها، ومحدثة طقطقات في ذهنه شبيهة بتلك الطقطقات التي يحدثها انفجار فحمة خشبية أمامه، عندما يكون منغمسا في عمله. كان يعتقد أن الحداد يكاد يسمعه عندما ينظر إليه بنظراته الثاقبة. إنه لم يكن يعي حدود المسخ الذي طرأ عليه. هل هو مسخ كامل فيكون مثله مثل سكان القرية؟ أم ينقصهم بشيء ما؟ وهل مسخه قطيعة مع أهله في الغابة؟ أم لازال يشاركهم بعض الصفات؟ فكان أحيانا يجدف على الآلهة التي رمته بهذه القرية المغضوب عليها، وينتقدها بشدة. وأحيانا أخرى يتقرب منها بشتى الوسائل سائلا منها الخلاص والرحمة.
    يتذكر الصورة التي كان عليها في الغابة بذيله الطويل، المجرور في العشب الأخضر، محدثا صوتا شبيها بهفهفة الحرير. وهلبة الشعر على طرفي أذنيه. وحركاته الهندسية المتوازنة والنشيطة. الشمس نور بلا لهب وضوء بلا حرارة. الألوان نشوة روحية. أما الآن فقد تحول لديه كل شيء. بدأ ذيله يقصر، تلهفه النار يوما عن يوم، أو يجرب فيه الحداد مدى حدة السكاكين. لكنه اكتسب أشياء لم يعها. لقد قويت عضلاته بتزامن وتفاعل مع نمو ذهنه. واشتد وطيس الحنين إلى قريته أكثر من أي وقت مضى. ونفذ صبره في انتظار الخلاص، فإن لم تصفح الآلهة سيتحداها وسيعود إلى غابته ولن تهمه النتيجة. (قطيعة)
- الحداد : لماذا أكلت اليوم اللحم وقد امتنعت عنه منذ أن ذبحنا الشاة؟
- القرد : شيء ما يدعوني إلى ذلك. ولماذا تذبحون الأغنام؟
- (ضحك بسخرية) لكي تموت.
- وهل سأموت إذا بقيت بينكم؟
- نعم وقد اشتعل رأسك شيبا. وهي علامة على اقتراب ذلك، وإن لم تكن ثمة علاقة حتمية.
- منذ أن ذبحت الشاة بذلك السكين المعلق على الحائط. ظل مهجورا، فلماذا لا نشحذه ونستعمله في مآربنا؟
- حسنا أن نحده فهذه مهنتنا لكن قيل - قديما -  : "جزار ومعشي باللفت". أما أن نستعمله فلسنا في حاجة إليه مادام الأهالي يتكلفون بمئونتنا.
- الحاجة قد تتطور.
- أقصى درجة التطور، قد يحدث وتكون أدنى دركة في التقهقر، سلم التطور حلزوني.
- أكيد لكنه ليس بالضرورة.
- السكاكين محظورة على القردة، اخرس يا "زعطوط". (حق النقاش رهين بحق تملك السكاكين).
الليلة ملتقى الصيف النشيط بحركته وحيويته، والخريف الكئيب المنطوي على نفسه. لذلك كانت هذه الليلة كأنها معركة فصلية تحد بين هذا وذاك. رعود مذوية، برد قارص وبرَدٌ يغطي الطرقات والمسالك. المياه جارفة، الريح تتلاعب ببقايا القش والتبن والأشواك المكومة. أصحاب القرية منصرفون إلى همومهم. هناك من أخذ معولا وشرع يسقي زيتونه البوري منتهزا الفرصة. وهناك من بدأ يصلح سطوح غرفته التي تقطر ماءا، شاكرا الحداد عن هذه الآلات الجديدة والتي يستطيع أن يدملك الطين بواسطتها. ورجل ثالث أخذ منجلا في يده ليحول به أكوام الأشواك الكبيرة التي تسد المسالك ومعابر الأغنام. رعاة الأغنام يجرون هنا وهناك، العنزة الأولى تقترب من المنزل، والشاة الضعيفة لازالت في المراعي، وأخرى متعثرة بالقرب من أحد المسيلات. الذئب شبه يهدد الراعي. امرأة تبحث عن دجاجها، صياح، ضجيج، جلبة وبلبلة...
بعينين هادئتين نظر إلى الشمعة التي تكاد تنطفئ من جراء البرد الذي يتخلل الغرفة من ضلفات النوافذ البسيطة. ويديه تحركان ما تبقى من الجمرات الذابلة بالموقد الذي يستدفئان به. فغمغم قائلا : "بداية ممطرة لعام جيد، سنضاعف جهودنا لتوفير السكك والمعاول والفؤوس. ونشحذ أدوات السنة الماضية. مستقبل شاق ينتظرنا". المستقبل أشق من الماضي - بنظرة عبوسة وصوت مختلج أجاب القرد - .
تلاشى لهيب الشمعة بين أكوام الظلام الدامسة. وتساءل القرد بدوره أين يذهب اللهيب عندما تنطفئ النار؟ أما سيده فقد تسلل النوم أجفانه وشرع كعادته يحدث شخيرا كبيرا، تتخلله بين الفينة والأخرى تنهيدات تكاد تسمع من أطراف القرية!.
الدنيا مظلمة، الأرض ضيقة، الغرفة مقبرة، ورغبة الفرار من الحياة ملحة، لم يبق لديه أمل ينشده ولا آلهة ترحمه... بدم برَدي ومزاج عاصفي تسلل إلى السكين واتجه صوب الحداد فذبحه كما تذبح الشاة - لقد كان أبسط مما يتصور - وخرج منها خائفا يجتاز المفازات. وصوت البوم يطارده هنا وهناك. وهو يترقب سواء غابته بأعشابها المخضرة. وأنهارها الخالدة وبساتينها الهندسية. ألوانها تتغير بدون نهايات كألوان المشكال. يتذكر عندما قيل له ستكون من المكرمين والمعززين، ولما لا حتى من القديسين.
الجاذبية، الزمكان، الأبعاد، قوانين الهدم الشامل، لعبة المقدس، محدودية الحواس الكمية والكيفية. أمور يكرهها وسط هذه القرية اللعينة. غريزة إشباع الحاجة بين أهاليها. ثقافة تغطية هذه الغريزة. علاقات متشعبة ومتشابكة تنتج ثقافة إنسانو-أرضية ينتقدها بشدة. طوباويته غابة الأحلام. ببالغ الأسى والأسف طوباويته تراث رغم أنه يكره التراث. يتذكر : "ملاعين في هذه القرية -لا شيء يضيع لديهم كل شيء يتحول مستفيدين منه - يجلسون على المائدة، يأكلون، يشبعون أو لا يشبعون، الباقية للقطط، القشور للأغنام وبالطبع العظام للكلاب، غبار الأغنام يوزع بالفدن، حتى عندما أنصرف للخلاء يخطف الدجاج برازي من تحتي وأنا أصيح "رش" يا ملاعين ألا تنتظرونني حتى أنصرف!. شيء وحيد يضيع ولا يستفيدون منه هو جثتهم إنهم يدفنوها".
وبدأت تكبر في عينيه تلك هي الغابة التي ترك أجداده فيها منذ زمن سحيق. يا للفاجعة اليوم لا ترى لها حفيف أشجار، ولا خرير مياه ولا حتى فحيح الأفاعي. لا رطب فيها ولا يابس. فقط بعض الأشواك المتناثرة والمترامية هنا وهناك. إنها بقايا أشجار وليست أكثر من ذلك. أين هي تلك الأغصان التي كانت تحييه يوميا بدون كلل. لم يفهم شيئا في حقيقة الأمر وصية أجداده تنص على أن : الأشجار التي كان ينفخ عليها بيديه اللعينتين، كانت تستقطب من الغابة بواسطة بشر يرتزق منها. فقدت الغابة توازنها، بعدما تبين أن المعجزات لم تصمد أمام الحديد، وأن المعجزة شعور ارتبط لديهم بالوفرة. انقرضت الأشجار والثمار وبطبيعة الحال زال السكان والعمران. لكن كيف يفهم هذه الأشياء؟ فهو لم يتحول من لغة إلى لغة أخرى كي تكفيه الترجمة. بل تحول من نمط إلى آخر فتغير منطق التحول نفسه بل وتغيرت حتى آلية هذا المنطق. عندما يرصد ميكانيزمات هذا التحول العميقة. سيفهم ما الذي جرى. لكن أيان له من ذلك فالمسخ لا رجعة فيه، إنه ليس عدا لكي تقرأه معكوسا.
خالجه اليأس والندم. وهو يجر ذيول خيبة الأمل، بين الأشواك الغابوية، متأملا حالته وهو يقول لنفسه : "لماذا تشبثت بهذه الأوهام التي لا توجد إلا بمخيلة الفراغ؟ هذه ليست جهالة، الجهالة امتلاء، امتلاء بأفكار جاهلة طبعا، لكن هذا فراغ كانت مخيلتي تدور حوله. الفراغ ليس عدما، الفراغ وجود في العدم. الآن انجلت هذه الأوهام البالية. كما سيزيف أزهار القرية تنموا كل ربيع بدون ملل. فلماذا لا أعود وأختلق كذبة تبرر جريمتي؟ في القرية كل شيء مباح، كل شيء جميل. الحركة، الحيوية، الصيرورة. ليسوا عابري سبيل كما كنت أعتقد. إنهم يتناسلون، يتكاثرون، يتوارثون، هم إذن خالدون، أبديون بل سرمديون، لا فرق بين هذا وذاك. هنا في الغابة كما كنا اليوم نسخة لسابقه، والسنة تطابق المليار سنة، ليس هناك فرق بين الثانية والسنة الضوئية. الثبات جمود وركود، الثبات عدم لا يطابق إلا ذاته. في القرية كل شيء يلاعبك، الحشرة السويداء لا تسقط من الأقحوانة البيضاء حتى تطير. سأعود سأقول شيئا ما. إنهم سريعي الإيمان، سأقول الحداد قتل بأمر من الآلهة ولقد أمرتني ببناء قبة عليه، لقد قمت بسفر التكوين حقا. إنه قسيس، راهب، ولي صالح، معلم زن. لا يهم هذا أو ذاك المهم هو أنه شيء مقدس. فأكذوبة مقدسة خير من ألف حقيقة عادية. ستعود الحيوية إلى القرية، سيورث الحديد. سأخلف الحداد، وتزدهر القرية. يجب أن أصلح جريمتي وأكسر جدران ذهني، فلم تكن ثمة جدران غرفة تأسرني بقدر ما تأسرني هذه الأوهام. وإلا سأكون القرد الوحيد الذي لا يتفاعل، لا يتطور... وببليغ العبارة القرد الذي لم يخطر على بال "داروين".
وبدأت تكبر في عينيه تلك هي القرية التي غادرها لزمن قريب. أين هو نباح الكلاب الذي كان يسمع من بعيد؟ وأين هي الأضواء التي كانت تظهر هنا وتختفي هناك؟ نتيجة النيران التي كانت تضرم في أشجار الزقوم ليتوسع الحريث عن الشيم أو الحريم. تلك النيران كانت دخاخينها جميلة. نقرات البوم التي ظلت ترافقه عند مغادرته للقرية باعثة في نفسه رعبا. لم تستقبله الآن بحماس ورصانة. تسلل الآن وسط القرية، ليس هناك أطفال يلعبون الحجلة. أين هو نقيق الضفادع الذي كان يخيفه عند اقترابه من بعض المروج؟ هذا الصمت الذي ما فتئ يحلم به هو الآن صمت مخيف ومرعب. إنه الآن يكاد يسمع دقات قلبه وهي تدق، الرعب الرعب... طل على الآبار وجدها خالية إلا من جثت بعض الضفادع اليابسة. وبين شقق الحيطان بعض أثواب الثعابين كما لو ستبقى خالدة إلى الأبد. الحكمة تقول : الثعابين التي لا تستبدل جلودها تموت. وهذه للأسف الشديد ماتت رغم أنها استبدلت جلودها. وكما السارق في البيت الخاوية، وجد نفسه مختلجا في الغرفة التي ظل يعتقد أنه أسيرها - لسنين طوال -. لا الجثة ولا رفاتها، لم يبق هناك سوى رماد بارد طبعا. تتطاير ذراته في فضاء الغرفة ببطء شديد وهدوء تام، تلك الذرات لم تكن ترى بالعين إلا عندما تعكسها أشعة الشمس المتسربة من بعض الشقوق.
غادر الغرفة دون القدرة على الالتفات. كأن شبح الحداد يريد الإمساك به. سار في الفدن ينظر إلى الأرض بتفحص عميق كأنه يبحث عن بقايا بسيطة للحياة. لاشيء، حتى جحور النمل فارغة، يحيط بها طين دقيق مثل الرماد. (يتذكر) : "كان النمل يرسم خطوطا سوداء ومنتشرة. نمل صغير يجر بحركة دءوبة ومستمرة. جرادة ميتة رفستها رجل شاة أو دابة. يقترب النمل من مسكنه وترفسه رجل شاة أخرى. يموت منه ما يموت. ويتمم النمل الآخر عملية الجر غير مكترثين وبدون استياء. قد يشاء البخت وتباع الشاة لجزار القرية الذي يحررها من وسط القطيع، الذي تبعبع نعاجه قليلا. ثم تغرس رؤوسها في الأرض بحثا عن الكلأ والقش، الكلأ الكلأ الكلأ... وهي تلتهم حتى الغبار بدون مبالاة. أليست هذه الصورة شبيهة بالموكب الإنساني الذي يشيع جنازة ما؟ ولتكن جنازة ذلك الجزار مثلا. ثم يعودون لأكل الرغيف المبلل بالزيت واحتساء الشاي. ثم ينتشرون في الأرض غير مبالين، الحصاد الحصاد... النملة الملكة تنادي من مسكنها : الجر الجر... عجوز يستيقظ في غلس الظلام غير مكترث بما مضى من عمره. وينادي عن أبنائه وحفدته : - استيقظوا لقد بلغ منتصف النهار، الحرث الحرث... الجر والحرث والحصاد... الأكل دون مبالاة، هذا قانون الحياة الأسمى، فلماذا لم يندمج؟ لماذا لم يتماهى مع سكان القرية؟ ولماذا قام بتلك الجريمة الشنيعة التي أسماها الثورة؟ ما هي الثورة نفسها؟ إنه يتذكر صورة الجرادة منتفخة فوق غدير صغير من المياه، يتقدم نحوها نمل شجاع / شرير. يسبح، يغرق يموت، لكن بعد انتفاخ جثته، تشكل قنطرة عائمة. سيتوجه فوقها نمل آخر ليصل إلى تلك الجرادة. ليركبها كالباخرة. نوتيوا هذه الباخرة منتفشين وقاحة، ومنتفخين حماقة. يقودونها غير مبالين بإخوانهم الشهداء. كما شيخ القرية، يحكم كيفما شاء، يسجن، يسبي، يعدم... لكن مع مرور الزمان تتلوث سمعته بدماء الأبرياء. عند ذاك يستعاض عنه بشيخ آخر. يمر التاريخ وينتحل بمذاهب سابقيه. اللامبالاة هي القاسم المشترك للثورة والحياة. لم يفده هذا الاكتشاف الذي اكتشفه في شيء أكثر من أنه لم يعد يخشى شيء وبصفعة ندم تلقاها على خذه. عرف أن الحداد كان ضروريا للقرية.
مات الحداد، لم يجد الناس سككا للحرث. ومن بقيت بيده سكة اختزنها حتى لا يجني وبالها. فالفتنة أشد من القتل. ألفت القرية نمط الحداد ولم تعد تستطيع العيش بدونه. فلو انقرض الحديد تدريجيا لتكيفت القرية مع هذا الانقراض. لكن الصدمة تكمن في الاختفاء الفجائي. الجريمة إذن صدمة مخالفة لنواميس الطبيعة. تنتقل عبرها الأسباب وفقا للقانون المعروف. قانون الأسباب والمسببات. جريمته إذن صدمة شاملة، القرية إذن جثة حداد. فهذا الأخير ما دمر الغابة إلا ليبني القرية. أما هو فقد دمر القرية دون القدرة على إحياء الغابة. الحداد دمر الغابة لسنين طويلة. أما هو فقد دمر القرية بين عشية وضحاها. فمن هو المجرم الحقيقي الآن؟ وبماذا ينفع اعتراف متأخر عن وقته؟ بعدما زالت آخر شرارة خوف من قلبه. قرر مواجهة الآلهة والاعتراف لها. ذهب تائها في الصحاري الشاسعة وبين الجبال الشامخة. يجري ببطء شديد كأنه يجر وراؤه رحى معصرة الزيتون. يداه وراءه يريد رفعهما تذرعا للآلهة لكنه لم يقدر. فسار يجري في الفيافي وهو يردد ببسالة : "أيتها الآلهة اغفري واصفحي فأنا مجرم... فأنا مجرم". صدى الجبال يردد على مسامعه، وسراب الصحاري يظهر له كأنه ماءا عذبا، لو وصله لابتل ريقه. وأخيرا عفت الآلهة وصفحت. صوتها يتردد دون نهاية. حدود مسامعه هي التي تنتهي. وليست الآلهة هي التي تسكت. لكن إذا كان الصدى صوت فالسراب صورة. يجري نحوه وللأسف الشديد يبتعد الماء. الصدى في السماء غير كاف، يريد رحمة في الأرض. يجري نحو الخلاص لكن هذا الأخير يبتعد. وأخيرا ركن إلى شجرة لا ظل لها ولا أغصان، رفع عيناه وجهة السماء لكنه لم ير شيئا. صوت القديس الحقود يقول له : "أنظر هناك شيء لم تره". يعيد النظر مرة أخرى فلا يرى شيئا. يشار إلى القمر والأبله ينظر إلى الأصبع. وأخيرا رأى -  بالقرب منه - بوما على غصن عار. فردد قائلا : "البوم أكره صوته لكنه هذه المرة صامت". لأول مرة عرف أنه لم يكن يكره البوم بل كان يكره نقرته. المكاء صامدة ورصينة حتى الأبدية. على هذه الهواجس انطفأت ذبالته، وذهب شبحه بين الصدى والسراب، يردد بشجاعة حقيقية : "أيتها الآلهة اغفري أو لا تغفري الخوف الذي كان بداخلي، أصبحت الآن بداخله فلماذا أخشاه؟ السعادة الآن تغمرني والخلاص والرحمة".
- الحداد (بصوت مرتفع) : "استيقظ يا متعلم فقد تركتك اليوم  تنام ليلا ونهارا، استعدادا لاستقبال العام الجديد".
- تمتم قائلا : "أيتها الآلهـ... الحداد أين أنا؟ ما الذي أصابني؟ هل أنت حي، عفوا هل أنت بخير؟
- ما الذي أصابك؟ أحك لي ما رأيته؟ إنك كنت في حلم أو رؤيا.
بعدما سرد على مسامعهم ما وقع له. وبعدما فسروا له أنه كان في حلم أو كابوس مزعج. حيث لم يكن يعرف الأحلام. فأحلام الغابة رؤى بهيجة، وردية، ناعمة ومتناغمة. بعد هذا كله فسر أهل القرية هذا الحلم من وجهات نظر متباينة. فهناك من ربط بين السكين المهجورة، والبوم فوق الغصن العريان، وفسروا عدم قدرته على الجري بوجود القيود والأصفاد، وكثر القيل والقال... لكن حكيم القرية السيد الحداد أحجم عن تفسير هذا الحلم وصرح قائلا : "المهم أصبح لك ضمير، ومن اليوم فصاعدا فأنت حر وطليق. لكنك مسئول عن حريتك". أزيلت قيوده وأقيم حفل تكريمي على شرفه. بالطبع اليوم القروي لتدجين القرد. واستأنفت القرية حركتها ونشاطها ثم صيرورتها بكل سعادة وأمان. سوى أن هذه السعادة لم تدم طويلا، فقد اتقدت بقلب القرد شرارة الحنين إلى غابته. فأجهز على سيده بضربة سيف حادة أردته قتيلا يتمرغ في دمائه. وتطابق الحلم بالواقع لأول مرة في تاريخ الأحلام. وتلاشت القرية بين الصدى والسراب. عندها استفاق الحداد من شخيره العميق متمتما : - الدم الدم... فأجابه خادمه : - لا يا سيدي إنه - فقط -  العرق، لقد كنت في سبات عميق، حيث سمع شخيرك من الأطراف النائية للقرية. فهاهم الأهالي ينتظرونك أمام الغرفة.
حكا لهم هذا الحلم بكل حذافيره فأزالوا أصفاد القرد، وقالوا له : - إنك حر وطليق، فإن انتابك شعور بالحنين إلى غابتك فارجع معذورا. وإن أردت العيش معنا فتفضل مشكورا، لا ضرر ولا ضرار. لكنه فضل العيش بالقرية شريطة الاحتفاظ بهذه الأسطورة ليتداولها الخلف عن السلف، الأحفاد عن الأجداد. لكن ماذا سيسمونها؟ - الأهالي فضلوا "القرية المقدسة" - الحداد : لا، سنسميها "قرية الميعاد". - القرد فضل تسميتها "أسطورة الحرية". - البوم : عفوا سنسميها "الصدى والسراب". ارتفعت الأصوات واختلطت. سنسميها : "غابة الأحلام"... عفوا "جنة الأرض". اخرسوا جميعا سنسميها : "أرض المبادئ". بصوت مرتفع أنا أفضل : "مبادئ الأرض". تحولت المناقشة إلى نشاز. ثم إلى معركة بالأيادي ثم بالسيوف. ففر القرد نحو غابته، فقد خشي أن تتهمه الآلهة بقتل الحداد أو تخريب القرية.
وصل غابته الحنونة التي ابتسمت في وجهه بزهور الرمان. استغرب من كونها لازالت على حالتها منذ ملايين السنين. لا شيء فيها يتبدل سوى تجاعيد الوجوه. انتابه شعور مزدوج، حيث أضحى يعتقد أنه نجا إلى أبد الآبدين. وسيكون من المعززين المكرمين. لكن مع ذلك فقد بقيت في قلبه  حثالة الشوق إلى القرية. كأنه يطمح إلى حياة تجتمع فيها القرية والغابة وتلتحمان كجسد واحد. لكن أنى له ذلك.
حكا لهم كل ما شاهده بأم عينه من عجائب وغرائب بالقرية. فأجابوه : إنك لمن السفهاء فأنت لم تغب سوى ثوان أو دقائق.
- أنظروا هاهي الأدلة...
- اخرس يا "زعطوط" المجادلة محظورة على القردة؟!!.
استفسروا قديسهم فأجابهم بأن هذا الحقير كان في سبات عميق وحلم حلما خبيثا منذرا بنقمة الآلهة. فلنتخلص منه. كبلوه واطرحوه أرضا مضلة لئلا يعود أبدا. وكانت القيود هذه المرة حقيقية وعجيبة. إذ فقعت عيناه، فهو لن يسمع صدى ولن يرى سرابا. قطع لسانه فلن يجدف على الآلهة ولن يستعطفها. كبلت يداه وراءه وربط إلى شجرة يابسة، لا ظل لها ولا أغصان. وخدر جسمه فلن يحس بعذاب ولا خلاص. وطفق وحده، وفي قرارة نفسه فقط، ينتظر رحمة الآلهة من السماء.
    تأسف جميع صلحاء الكون لهذا المشهد الغريب. وكان الحوار يجري بينهم :
- أنقدوه يا صلحاء اليونان.
- عفوا آلهتنا تكره قردا غير دارويني.
- أنقدوه يا معلمي الزن.
-  عفوا نحن نتأسف لهذه الحالة، لكن هذا ليس من تخصص آلهتنا. "فتنين النار" الذي ما يفتأ يفتح عينيه حتى ينبلج الفجر. وإذا أغلقهما انبسط الليل لن يفيده في شيء. ما دام الضحية مكفوف. وكذلك "تنين السحب" أو "تنين المطر". أما التنانين التي كانت تهاجم الشمس والقمر وتعض على مؤخرتيهما لئلا يضيعا وقتهما عبثا. فما رأوا في تسريع وثيرة الزمان خلاصا لهذه الحالة. خلاصة القول، الآلهة متخصصة تخصصات عميقة ودقيقة. وموثقة بعهود أزلية. وحالته مستعصية وغريبة عن هذه التخصصات. هي إذن لن تنفعه ولن تضره. أما هو فقد ضل يعتقد بسرمدية هذا القدر المحتوم، وبسذاجة سكان الغابة. لأنهم لم يعرفوا أن الآلهة بدورها تحب فريستها حرة طليقة. وقد قللوا من شأنها إذن. فهم الذين يستحقون عذابها. أما هو فعذابها أهون عليه من هذه القيود، العذاب انتظار. أما عذاب الآلهة في هذه الحالة فهو خلاص ورحمة. البوم فوق رأسه صامدة ورصينة حتى الأبدية. نقراتها تحدد آنات الزمن. أما هو فلن يسمعها أبدا. ولو فرضنا أنه سمعها فسيقول لها : "مثلي مثلك أيتها المكاء، مثل سائر معمري الغابة والقرية، مثل القديس والحداد. نحن كما نحن يعيش كل منا في عالمه. يرى الأشياء بمنطقه. اصطدامنا تناقض بين العوالم ضاعت نتائجه في طبقات الجو العليا. أو غابت في باطن الأرض بسبب جاذبية المركز ونفاذية المحيط. هذا ما يفسر بطريقة سليمة ما يبدو للوهلة الأولى مجرد تطرف فكري. ليس عيبا أن نختلف. فالاختلاف سنة الكون. العيب هو أن نعتنق نظرية الإبادة بناءا على منطق الاختلاف. العيب هو أن تنمو فينا تلك الإرادة التي نهدف من خلالها صهر الآخر وتذويبه لكي يصبح شبيها لنا".
ها إنه انطفأت ذبالته بين الخلاص والعذاب. وذهب شبحه حزينا / سعيدا بين الصدى والسراب. يردد أشعار التحدي والشجاعة. دون أن يفوته التفرج على مشهد عجيب، حيث كان سكان القرية قد جاؤوا بفؤوسهم لتخريب أسوار الغابة بحثا عن القرد الآبق. وكان أهالي الغابة يعتقدون أن ضربات الفؤوس على الأسوار. تجسد صوت الآلهة وهي تعذب فريستها. صراع بين البؤس الواقعي، والسعادة الأسطورية. لكن الأسوار وحدها كانت عجيبة. - ليست أسوار الصين ولا جدار برلين - حيث كانت تظهر للأهالي أنها أسوار خالدة. وتظهر للمهاجمين أنها أسوار آيلة للسقوط. يهبشون بالنهار ويستريحون بالليل. دون جدوى، فما يسقط من الأسوار يتجدد بصلابة أكثر.
مر الزمان في الساعة الرملية، وبين عقارب الساعة الميكانيكية. ثم الإليكترونية و... تلاشت الجثة والشجرة. انعدموا في العدم. بعدما كانوا منعدمين في الوجود. وبقيت الأصفاد والأسوار وحدها معلقة في الشجرة، في الفراغ، في العدم، إنها الأصفاد أو الأسوار الخالدة.

امرأة بين الصراصير والمصير
 "للإنسان مصير الشرارة"
 لويس أراغون


1- المتهمـــة
     في منتصف آخر الشهور الصيفية مثلث أمام محكمة العدل امرأة متهمة بالخيانة الزوجية. وكان الحاضرون غير مقتنعين بهذه الحالة الكائنة أمام أبصارهم، وهذه الحقيقة الماثلة صوب أعينهم، والتي اندهشت منها حتى عقولهم. فلم يرو من ذي قبل متهمة لا تدافع بكل الوسائل عن براءة ذمتها، ونقاء صفحتها ولم يرو كذلك إمرأة ترتدي زيا تقليديا يخالف ممارستها لسلوك فاحش كهذا. وكان الصحافيون يتبعونها هنا وهناك لينتزعوا منها ولو كلمة واحدة!.
- لماذا قمت بخيانة زوجك... عفوا هل قمت بذلك فعلا...؟.
       ومضوا يمطرونها بوابل من الأسئلة لحملها على الإجابة. لكن دون جدوى فما نبست ببنت لسان وراء ذلك المنديل العجيب الذي كانت تخفي به وجهها الجاف. وما كفكفت دمعة واحدة من عينيها الجاحظتين. ولا اشتكت عطشا أو جوعا ولا حتى رغبة في رؤية أبناءها التي كانت تحبهم أكثر من حبها لنفسها. فلما يئسوا من إجابتها إلتفتوا إلى سعادة الشرطي الذي ظل يقودها : ما رأيك أيها الرقيب ؟ - لا فائدة أيها الأصدقاء فما تكلمت حتى عند إعداد المحضر التمهيدي هددناها عفوا عذبناها بالطيارة والكهرباء... لكن دون جدوى. من حسن حظها أننا في زمن الديمقراطية ولولا ذلك لقطعت لسانها إنني الآن أكن لها حقدا شديدا، وعداءا دفينا فقد بصقت في وجهها أكثر من مائة مرة. وأنا بذلك لم أفعل سوى ما رأيت الناس يفعلونه صوبها. غير أننا لسنا في حاجة إلى تكلمها فالشهود قد أثبتوا مداومتها على  منزل غريمها كما أن إقدامه على الانتحار أمام الملأ سيكون خير دليل على عدم نقاء صفحتهما.
    وفي اليوم الموالي قصد السجن أحد أكثر المحامين شهرة وأشدهم إقداما وأصلبهم عودا. والذي رشح نفسه للدفاع عن هذه القضية مجانا، بعد ما سمع كل ما يحكى عن هذه المتهمة العجيبة. والحقيقة أنه ما فعل ذلك إبتغاء مرضاة الله وإنما ابتغاء الشهرة والنجومية. فقصد موكلته زامعا تحدي الجميع وإنتزاع أجوبة منها. وقف هذا العجوز لحظة يتفرس وجه سجينته الجاف والذي تكاد تظهر من تحته عظام وجنتيها. وقال : - في صوت ناعم وخافت كمن يريد إسداء نصيحة لأحد أصدقائه - : إسمحي لي أيتها العزيزة لأقدم لك نفسي أنا رئيس نقابة المحامين دافعت عن أكبر القضايا في البلاد وبرأت كثيرا من العباد وقد ندبت الآن للدفاع عنك. إنني لا أستطيع أن أفعل شيئا من أجلك ما لم تتكلمي. قلي شيئا أعتمد عليه للدفاع عنك.  إن الابتزاز الذي تتعرض له الموظفات من مدرائهن، والتهديد بالطرد وغيرها... أموريمكن أن تخفف عنك العقاب أو تبرئك بالمرة. وأعتقد جازما أن هذا صحيح وقد كنتي شخصية متدينة ومحترمة. ولم تسمع عنك أسرار أثيمة ولا حتى شيء من خوارم المروءة بل كنت نموذج المرأة التي يتمناها كل زوج لبيته، أما جديتك في العمل فكان الكثيرون يحسدونك عنها نساءً ورجالا".
وكف عن حديثه دقائق معدودة ينتظر إجابة من موكلته ولو بالشكر، لكنه لم يجن من وراء ذلك إلا خيبة أمل شديدة، وعندما نفد آخر بصيص من الأمل في تكلمها جدد وقفته استعدادا للذهاب قائلا – بغلظة متوحشة -  : "حسنا لتعلمين أنني شخصيا أعتنق مذهبا مخالفا لما هو شائع ومشهور فالمتهم في اعتقادي مجرم حتى تتم تبرئته هل كان زوجك مصابا بالعجز الجنسي؟  كان من الأفضل لو أسست جمعية تدافع عن تعدد الأزواج على أن تقومين بهذا السلوك المشين؟! حسنا سوف تجنين عواقب صمتك "تفوا على دين امك القحبة!".
ظلت سعيدة جامدة كالتمثال دون أن تحرك حتى طرفي عينيها وهي تسمع صرير المفاتيح في القفل بعد خروج سيادته . و تسمع وقع أقدامه وهو يبتعد في ممشاه منهيا بالنسبة لها زيارة عزرائيلية في قبر عقيم بمقبرة منسية. قبر حياتها الأخير التي قررت أن تسكن فيه للأبد. بيد أن صدى صوت المحامي كان يتردد في خاطرها متموجا : "ولم تعرف عنك أسرار أتيمة بل كنت نموذج الزوجة التي يتمناها كل زوج لبيته أما جديتك في العمل فكان الكثيرون يحسدونك عنها رجالا ونساء".

2- استمارة(*) تحدد شخصية سعيدة

    ملأت سعيدة هذه الاستمارة قائلة : " 1) الصفة التي أحبذها أكثر هي عموما الصبر عند الشدائد وعند الرجل الشجاعة وعند المرأة الذهاء. 2) أهم خاصياتي التفاعل مع الواق. 3) الفكرة التي لدي عن السعادة : العمل. 4) الفكرة التي لدي عن الشقاء أن تكون صادقا ولا تجد من يصدقك. 5) العيب الذي أرى أنه يغتفر : التداني. 6) العيب الذي أكره أكثر التسامي والرياء. 7) اهتمامي المفضل : القراءة. 8) الشخص الذي أبغضه مدير شركتي، الصراصير، شعرائي المفضلون: - المعري - الشابي - السياب - إيزيدور دوكاس – بريتون. 10) كتابي المفضلون  أرسطو- هيجل – ماركس. 11) بطلي المفضل البطل الذي يستطيع أن يموت قبل ميلاده.  أن ينعدم قبل أن ينوجد. 12) بطلتي المفضلة : التاريخ هو الذي يصنع الأبطال. 13) زهرتي المفضلة : كل الأزهار التي لا تنحني إلى الرياح سواء كانت عوسج أم ريحان. 14) لوني المفضل الأخضر. 15) صحني المفضل وجبة لا توجد بها صراصير. 16) الاسم الذي أفضله  السعادة . حكمتي المفضلة : هناك حينما ينعدم الأمل تنهار الإرادة التي هي روح القدرة. شعاري : "الوجود فرصة وجود".

3- سعيدة تحت مجهر المدير
    قالت سعيدة : "أف أف... أنا لا أريد إعادة مشاكل الصيف الفارط فقد عانيت كثيرا من كثرة الصراصير. وجربت جميع المبيدات الحشرية بجميع حالاتها الفيزيائية والقانونية : السائل منها والصلب... المباح والمحظور!. ياله من شهر ماي شهر هجوم الجيوش الخفية للمكان -  أهل المكان الحقيقيون - فأنا لا أخاف الجن ولا العفاريت بقدر ما أخاف هذه الحشرات الحقيرة وأشمئز منها. الصراصير إذا ما اجتمعت في ركن إحدى خزائن المطبخ الخشبية تخلق جيشا عرمرما عظيما. هناك المظليون والمشاة وأصحاب الدبابات والحكام ذووا البنية القوية!. آه شيء واحد جميل في الصراصير هو أنها ليست جميلة. آه تحدي عظيم أمام علماء الجينات والاستنساخ هو أن ينتجوا لنا قططا تلتهم الصراصير بشغف.
    وبالشركة كانت سعيدة تنعم بمستوى كبير من الخفة واللياقة، العفة والرشاقة بديعة المحاسن، غزيرة العطاء حيث تستطيع العمل طوال النهار وإن اقتضت الظروف تشتغل ليلا ونهارا دون ملل ولا كلل. غير أن الشيء الوحيد الذي كان يعاب عليها هو مبالغتها في الأمور وجديتها الصارمة التي فاقت كل الحدود، وحزنها السرمدي كأنها تطعم الصين أو تدافع عن قضية فلسطين. حائرة وخائفة على الدوام كالولايات المتحدة الأمريكية. وحذرة كروسيا. وأشد عنادا من إيران. تضرب ألف حساب لكل صغيرة وكبيرة. فعندما تريد إدخال الملفات إلى مكتب مديرها تضع قفازا على يديها. لئلا تصيبها بعرقها. ولذلك يعتقد البعض ولو من باب المبالغة أنها لا تترك بصماتها على الأشياء.
    وعندما يخلوا المدير بنفسه متأملا حال شركته ومن هم المسؤولون أو العمال الرئيسيون الذي تطفوا فوق أعتاقهم هذه الشركة. كانت تأتي سعيدة على رأس القائمة. ففي كل صباح تحصي العمال الحاضرين وتسجل كل واحد من الغائبين في دفتر سيرته. ثم تعد المنتوجات والمبيعات والمشتريات. وتتكلف بكبريات الصفقات. وأنيطت بها مهمة مراجعة الأرشيفات والتأكد من صدق التوقيعات على الشيكات وترتيبها حسب آجال صرفها والميقات. خلاصة القول أمسى صاحبنا واعيا كل الوعي أن غياب سعيدة يعتبر كسادا كبيرا للشركة وإفلاسا حقيقيا لها. فهي لا تعوض حتى  بعشرة مسؤولين عاديين. أما حجم البون الشاسع بينها وبين العمال الكسالى الغافلين فحدث ولا حرج. فأين هي من ذاك الميلودي الرجل الأعمى من إحدى عينيه والذي لا يحضر إلا ناذرا وشواهده الطبية تملأ حتى مزبلة المعمل. وعند حضوره يوزع الكثير من وقته بين المرحاض والمسجد - ودائما على حد تعبير المدير- فهو إن أراد الصلاة، لا بد من تسخين الماء ومن أجل ذلك لا بد من البحث عن عود الثقاب فهو لا يجيد الولاعة. وخلال بحثه ذاك لا بد من المناقشة والمنابزة مع بعض العمال والعباد. ولإشعال النار لا بد من جمع الهشيم، ومن بعد ذلك لا بد من إطفائها والاتجاه نحو المرحاض فإن كان المرحاض مشغولا وجب الانتظار فهو لن ينصرف إلى  مرحاض لا يشتهيه وهلما جرى... وعن مثل هذه الجولة الماراطونية يتساءل هذا المدير كباقي مدراء الشركات هل هذا النوع من الصلاة جائز أم لا؟. ففي هذه الحالة الصلاة حق يراد به باطل!. وعندما يشرع صاحبنا في العمل فغالبا ما يشكو من ألم في ظهره وصداع في رأسه ونخسة في قلبه...
    أما "الباكوري" فتكلم دون حدود فهو الشخص الذي إذا ما سمع إسم الضفدعة يصيح صارخا ويضربك بما في يده. والعمال يتخذونه مهزلة ومضيعة للوقت ويخترعون قصصا واهية وكثيرة الغرض منها فقط التعريج باسم الضفدعة.
    وهاهو الجيلالي الرجل الفظ صاحب الأنف المفلطح والشفتين الكاثعتين الباتعتين. والجبهة العريضة التي تغطي من وجهه ما يغطيه البحر من مساحة البسيطة!. والذي تجد العمال يبادلونه تحية الجنود لجنرالاتهم. فتعتقد في البداية أنهم يمازحونه لكن الحقيقة الثابتة هو أنه ما يفتأ يبصر أبسط الأخطاء من أحدهم حتى يجهز عليه بعصاته الغليظة التي لا تفارقه على الدوام. وعندما يشكونه إلى مديرهم يقول لهم : "إوى راه سي جيلالي هذاك آش غادي نعمل ليه راه هو أقدم مني في هذا المعمل، راه كان خدام مع الوالد الله يرحمو وملي بغا يموت وصاه على الشركة. صبروا شوية راه بقات ليه غير عشرة سنين ويخرج واش بغيتوني نجري عليه حشومة" . وقد ظل بعض العمال يعتقدون أن المدير نفسه يخاف الجيلالي. أو أن هذا الأخير يعرف عنه بعض الأسرار الأثيمة تحول بينه وبين طرده. لكن على حد رأيي المتواضع أعتقد أن المدير يرى أن الجيلالي ضروري للحفاظ على النظام في الشركة فهو يعتبر دركيها بامتياز، فالباكوري لن ينفعل أمامه ولو ذكرت له مائة ألف ضفدعة. بل يفضل أن يلقى به في بركة من الضفادع ولا يعذب من طرف الجيلالي. أما الميلودي فإذا أبصر هذا الأخير فقد يصلي بالتيمم أو يؤجل هذه الصلاة إلى أجل غير معلوم. والطامة الكبرى هي إذا ما سولت لأحدهم نفسه باختلاس ممتلكات الشركة فإن صاحبنا يقسم بايمانه الغليظة، أن يجعله عبرة للآخرين.

4- رجوعا بالزمن إلى الوراء
سعلت سعلة مصطنعة ودفعت الباب موجهة تحية متواضعة إلى مديرها. بكل ثقة كما لو تضمن نجاحها على الدوام. وكأن لديها إحساسا داخليا بالتفوق إلى الأبد. وضعت بين يديه مجموعة من الملفات للمصادقة عليها ومراجعتها. ثم جلست دون أن تنتظر إذنه لأن كثرة دخولها وخروجها عليه قد ألغت بينهما تلك المحسنات البروتوكولية. وبينما هو يتصفح تلك الملفات رويدا رويدا، كانت عيناه بين الفينة والأخرى تلتقط رؤى وميضية من وجهها الأحمر النرجسي، المزركش بتلك الابتسامة الجوكندية الحزينة، والمنسوج بتلك البشرة البنفسجية الناذرة وكانت بدورها تراقب عيناه اللتان تتحركان بطريقة لولبية خلف نظاراته البيضاء، بطريقة لا تشعره أنها تنظر إليه!!. ولم يكن هناك أي داع للإحراج  مادام كل منهما يعتقد أن الآخر لا يشعر به. غير أن تقلبات أوراق بعض الملفات قد جاءت بما هو مزعج حقا. لقد وجدا بقايا صرصاران قضيا وهما في حالة تناسلية وأطرافهما مثناثرة هنا وهناك. ورغم بساطة الحدث فإنها تشاءمت منه كثيرا حيث تفصد جبينها عرقا وتلعثم لسانها واصفر وجهها تاركا بنفسجيته للخلاء. ورغم محاولته الجادة لإقناعها بأن الأمر يعد طبيعيا، فالصراصير أصبحت موجودة في كل مكان مثل الجماعات الإرهابية!. وأن منزله بدوره لا يخلوا منها رغم ما يبدله من جهود للقضاء عليها واستئجاره لكبريات الشركات المتخصصة في محاربتها. رغم أنه خفف عنها شيئا ما إلا أنها ظلت مشمئزة جوانيا إذا لا تريد إقحام حتى هذا الحدث البسيط في مسيرتها العملية. والحق يقال إنها تبالغ في الأمور. وإذا كان حالها كذلك فأنا لا أحسدها عليه.
    لم تنس تلك اللحظة المشئومة وهي جاثمة أمام باب منزلها. تتخلل جيدها بحثا عن المفاتيح. لكن بمجرد سماعها لضربات  غريبة استيقظت من سباتها النهاري. تكاثرت في ذهنها الاحتمالات كالصراصير لا يغيب احتمال حتى يظهر الآخر... - أيقوم زوجها الآن بضرب أبنائهما؟ - أسارق بداخل المنزل؟. حدث غريب يقع بالمنزل. لم تقدر على إيلاج يدها في جيبها لأخذ المفاتيح. فيديها الآن ترتجفان مثل يدي مدمن على الكحول. بدأت تقرع الباب بشدة  كأنها تطلب النجدة. وفجأة انفتح الباب وقال زوجها مبتسما : - هوني عليك يا زوجتي العزيزة فليس هناك ما يدعو للفزع فقط أني أخذت حذائي أقتل به بعض الصراصير التي بدأت تظهر من جديد. - سعيدة وهي متنهدة ومرتخية تتجه صوب المطبخ - : "آه الصراصير وما أدراك ما الصراصير بالنهار تمشي وبالليل تطير!". وسكتت قليلا واستطردت قائلة: "إنني يا زوجي المخلص تجاذبت أطراف الحديث مع إحدى صديقاتي بالمصنع حول الصراصير ومتاعبنا الكثيرة معها. وأننا كنا أحيانا نغير المسكن الذي نستأجره بسببها. ونترك كثيرا من الأدوات الخشبية والمواعين المنزلية لئـلا ننقل معنا بيض هذه الصراصير. كما كنا نتنازل عن نصف شهر من الاستئجار ناهيك عن تكاليف التنقل والترحال. حكيت لها كل شيء فاقترحت علينا أن نستعمل أحد المبيدات الحشرية الذي يستعمله الفلاحون لرش محاصيلهم الزراعية وحمايتها من جميع الحشرات. ونظرا لأن هذا المبيد صنع بشكل خاص للحقول فعندما يستعمل بالمنازل فإن مفعوله يكون مضاعفا بشكل سحري. باختصار قالت لي أنه : "إذا استعملناه لن نرى الصراصير أبدا". لكن معضلته الوحيدة هو خطورته حتى على الإنسان. لذلك اقترحت علي أن أبيت عندها ليلة استعماله. على أن تبيت أنت مع أحد أصدقائك فزوجها غائب ولا يسمح لها باستضافة رجال. هذا إن وافقت على الفكرة طبعا. سكت قليلا ثم أجاب مقطبا حاجبيه : - ليس لدي مانع يا امرأة إذا كانت ليلة واحدة ستنهي هذا الجحيم الذي أصبحت تعيشينه وتحشريننا معك فيه. لكن عليك أن تفهمي شيئـا واحدا هو أن صبري بدأ ينفذ. - ماذا ؟- عفوا المشكلة أنني أخاف أن تتحولي إلى باكوري جديد الشخص الذي كنت تحدثينني عنه دوما وتسخرين منه غالبا.
- أكاد أشك في نفسي أنك بدأت تكرهني وأنت عمري!.
- ثورة شك جديدة إعتذري للراحلة أم كلثوم عن سوء الاقتباس. ابتسما معا في وجهي بعضهما البعض. غير أن ابتسامتهما لم تكن مدعاة للصفاء والأمان، ولم تكن مؤشرا على السعادة والهناء. اختفيا.
    في اليوم الموالي أصبحت سعيدة نشيطة في أعمالها، تشع الفرحة  من أعماق قلبها وينير وجها النرجسي الوضاح جنبات المكان. وكان سر هذا الشعور- فيما أعتقد - أن زوجها قد هاتفها شخصيا وأخبرها بموت جميع الصراصير حتى تلك التي يعتقد أنها أجنبية الأصل. وأنها تستطيع العيش تحت درجات الحرارة المنخفضة. وأطلعها كذلك أنه نظف المنزل برمته وأن هذا السائل العجيب قد حقق أمالهم ورغم أنه كان يشعر بدوران في رأسه، إلا أن روح السعادة فوتت عليه الإحساس بهذا الألم البسيط. إذ أضحى يعتقد أن شبح الصراصير الذي ظل يعكر صفو حياته قد آل إلى السقوط وأن هذا الهم سيتوارى إلى أبد الآبدين.
    الساعة الحادية عشرة، أتممت عملها بكل جدية وتفان. وجلست تتأمل هذا الهاتف المحمول الذي ينقل أنباء السعادة والهناء. في الحقيقة كانت تتشوق لرؤية منزلها وهو خال من الصراصير الصغيرة والكبيرة وروائح معطرات الجو تغمره. لكن رنات ذلك الهاتف الوديع قد أيقظتها من سباتها العميق، وللأسف الشديد فالهواتف التي تحمل الأنباء السارة هي نفسها التي تحمل الأنباء السيئة. لقد أخبرت بأن ابنها بقسم المستعجلات بإحدى العيادات. ضربت هذا الهاتف اللعين بعرض الحائط ونزلت تحصي الأدراج بسرعة فاقت تلك السرعة التي تحصي بها الأوراق المالية للشركة بين أناملها. ومهما قصرت المسافة كانت بالنسبة إليها طويلة، تلح على سائق الطاكسي بالإسراع،  وتكرر إلحاحها. ويبدو أن هذا الأخير قد قدر موقفه وتعاطف معها فشرع يراوغ هذه السيارة يسارا، ويبتعد عن تلك الشاحنة يمينا ويلتوي عن حفرة مفاجئة. ويكاد يحصد ذوي الدراجات والراجلين. خلاصة القول السياقة هنا تعني القتال بالسيوف في إحدى المعارك القديمة. لم تعد خائفة عن ابنها بقدر ما عادت خائفة على نفسها أو على الأقل أن يقع السائق في حادثة سير بسببها ويلقي باللائمة عليها. لكن ولسيولة حظها لم تشعر متى وجدت نفسها أمام الطبيب المسؤول عن إبنها. نظر إلى عينيها اللتين تكفكفان وابلا من الدموع. فأجابها دون الحاجة إلى سؤالها بلغة إدارية لبقة : - لا تقلقي يا سيدتي ليس هناك سوى تسمم وربما سيكون بسيطا فمن خلال استفسارنا لزوجك تبين أنه استعمل إحدى المبيدات الحشرية الخطيرة " نوفان" وأنه هو نفسه حس بدوران في رأسه. ونعتقد أن ابنكما قد تسمم إما باستنشاقه لغازات هذا المبيد أو باللعب بالقنينة. في الحالة الأولى لا أعتقد أن هناك خطورة أما في الحالة الثانية... عفوا ليس هناك ما يدعو إلى التشاؤم مائة بالمائة.
    مرت نصف ساعة، وكانت كافية لتكتظ قاعة الانتظار بأصدقاء وصديقات الزوجين معا. وبخليلات وفيات لسعيدة تبعنها من أقصى المدينة. وبمدير الشركة نفسه والذي والحق يقال يعتبر صديق الشدة فهو لا يبخل بسيارته ولا بماله في هذه الحالات سواء على سعيدة أو غيرها. ورغم هذا الازدحام فإن الصمت هو سيد الموقف. - دون الحاجة إلى الجيلالي هذه المرة - حيث لا يسمع سوى وقع بعض الأقدام جيئة وذهابا. وصوت بعض الممرضات البشوشات اللائي يؤتين بمستجدات الأخبار بين الفينة والأخرى. كما تسمع وشوشة بعض النساء الفضوليات اللائي كن يحسدن سعيدة على ما أبداه لها مديرها من خدمات. وبدأن تلمحن إلى احتمال وجود علاقة غير شرعية بينهما. في الحقيقة بعض الأصدقاء يحسدونك حتى في وقت الشدة، يحسدونك حتى على المصائب.
    دارت الأيام بعجلتها السريعة ورحاها الروتينية. وبدأت حياتهما الزوجية تصفوا من كل معكراتها. وطفقت أزهار السعادة تتفتح عن أكمام الشقاء. وأضحى الهم الصراصيري وهما يتوارى خلق آنات الزمن يوما بعد يوم وسار أريج السعادة يغمرهما معا. فلم يعد هناك ما يدعوا إلى القلق، ورغم أن الطبيب قد أوصاهما أن يضعا ابنهما تحت رعايتهما المستمرة، وأن يوفران له جانبا هاما من الراحة وقسطا كافيا من الأدوية إلا أن حالته بدأت تتماثل إلى الشفاء. ونشوة الزوجة الآن تكمن في كونها بدأت تفكر في مواضيع أخرى : - مستقبل الأبناء ومصيرهم - الانخراط في "ودادية" من أجل اقتناء سكن "قبر الحياة"، يستدفئان به من قر الاستئجار، وتقلبات الأدوار. فأصالة شخصيتها تكمن في كونها تستطيع التفكير في كل شيء وتخطط لكل شيء. أما زوجها فكان على نقيضها، وإن كان يوافقها في بعض الأفكار فإنما سعيا لإرضائها. في الاعتقاد معتزلية وأشعري. في الطبيعيات تؤمن بالحتمية والضرورة بينما يؤمن هو بالصدفة والتلقائية. في الرياضيات تؤمن بالإحصاء ويؤمن هو بالاحتمال. تراهن على القروض الصغرى والمتوسطة ويراهن هو على لعب اليانصيب الوطني. تعتقد أن الأبطال هم من يصنعون التاريخ. ويعتقد أن هذا الأخير عبثي ويسير بشكل عشوائي. تؤمن بصناعة المستقبل ويظل هو حاملا فوق أعتاقه أغلال الماضي تريد المستقبل ويريد الحاضر. تحدثه عن الشرق... و... الغرب... تواريا خلف الظلام بعدما انطفأ المصباح الكهربائي بلمسة يد حائطية خفيفة ليد تسللت كرسالة من تحت الغطاء.

5- سعيدة وذكريات عمر الزهور

    - عبد الجبار : "أجلس بصمت، لا تفعل شيئا. الربيع آت والعشب ينمو بمفرده" يقول زني كوشي.
- سعيدة : "في الربيع زهور، في الخريف القمر، في الصيف نسيم منعش في الشتاء الثلج إذا لم يكن ذهنك مثقلا بخليط تافه تتفتح الحياة أمامك رائعة"، يقول "وو- من كوان".
- أنت رائعة وذكية. لقد دعوتك إلى رحلة ربيعية نقطع بها الصلة مع ذاك الجحيم الصراصيري الذي أعتقد أننا تجاوزناه. رحلة نودع بها هموما كادت أن تفضي بنا إلى النفق... عفوا أنت رائعة لأنك أجبت بالموافقة، وذكية لأنك أجبتني بكل حكمة. أجبتني من نفس الثقافة التي سألتك منها.
- أنت دائما تقصي دور الإنسان في تغيير وسائط وجوده وعيشه وحتى وإن كنت غير واع بذلك . فالحكمة التي اخترتها تدعوا الإنسان ألا يفعل شيئا. ألا ترى أن أفكارك تناقضني دوما، ألا ترى أن مدرستك هي اللامبالاة دائما.
- لا يهم، لا يهم، اللامبالاة تنفع أحيانا، على الأقل كعلاج نفسي، دور الإنسان في الحياة بسيط وقوته هي مجرد وهم بالقوة. الطبيعة جبارة وقاهرة تراثبيا. علم النباتات اليوم يؤكد أنه في حالة هجوم خطر على نبتة فإنها ترسل رسالة للنباتات الأخرى تحذرها من الخطر القادم. مثل هذه الحقائق وهي كثيرة كسرت نزعة التفوق عند الإنسان. كسرت مركزية الإنسان. الإنسان يرهب مخلوقات أضعف منه. لكن هناك مخلوقات كالتنينات الأسطورية ظلت ترهبه. الإرهاب سليل في الطبيعة وتراتبي. وإنسانية الإنسان تتحدد بمدى قدرته على محاربة هذه النزعة. لكن دعينا من هذا الآن... هل تذكرين رحلتنا إلى قريتنا لسبع سنين مضت.
- نعم لا زلت أذكر تلك الأشكال الهندسية للحقول تبزغ في ذهني كوميض براق في ظلام دامس. أذكر طنين النحلة وهي تتحول من زهرة إلى زهرة. تختار هل تقبل الأقحوان أم شقائق النعمان، وتجامل سنبلة مرت عليها. تتردد في اختيارها لكنها في الأخير تختار زهرتها المفضلة وتعتذر للأخريات. أذكر الفراشات بألوانها الزاهية، وهي ترفرف راقصة تحت أشعة الشمس الهادئة، مدعية أنها لا تعرف أين تحط رحالها. الشمس نور بلا لهب أشعتها تبارك لفصل الربيع هذا العرس الملائكي المتناغم. عصافير صغيرة وجميلة تعزف سمفونيات رائعة. هندستها حناجر لطيفة تطرب دون مقابل ودون الحاجة إلى المجاملة. تلك العصافير كانت تسكت بين الفينة والأخرى مهتمة بتزيين ريشها. لكن كنت أعتقد أنها كانت تنتظر دورها. أطفال القرية يلعبون لعبهم الموسمية. كراتهم باقات من الأعشاب. ابتساماتهم الساذجة تجعلك تعتقد أن الكون لم يولد بعد. ومن رائحة الإسطبلات تعتقد أنك في فصل الربيع. الحيوانات الدجنة بدورها فضلت الوقوف إجلالا لجمالية الفصل. جدتي فضلت مراقبة دجاجتها بكتاكيتها الصغار. الدجاجة لوحدها كانت كافية لحماية تلك الكتاكيت. تهاجم قطا، كلبا، طفلا يقترب من كتاكيتها. الحب الفطري وحده يقتل الشعور بالضعف. جدي فضل "هيدورته" متقلبا مع ظل الحيطان. وكلبهم كان  ولوعا بلعبته المفضلة التبول على أكوام الأشواك، وشم شقق الجدران.
- كفى يا زوجتي ذكرياتك جميلة وحسك مرهف. أيها الأبناء غدا  سننزل ضيوفا على أخوالكم وسنستمتع بعطلة ربيعية رائعة هناك!.

6- الرحلـــة
    وهذا المساء الشفق الأحمر ملتهب والفضاء الرحب رمادي. وبدأت تكبر في عينيها تلك هي القرية التي غادرت سكانها منذ زمن بعيد. يا للفاجعة اليوم لا ترى لها حفيف أشجار ولا خرير مياه، ولا حتى فحيح الأفاعي. لا رطب فيها ولا يابس، الأغصان صارت أماليذ. أين هو نباح الكلاب الذي كان يسمع من بعيد. أين هو نقيق الضفادع الذي كان يخيفها، عندما كانت تقترب من إحدى المستنقعات، تنق ضفدعة من ورائها، وتقفز أخرى عن شمالها... وتنق عاشرة ملقية بنفسها في الغدير... الخوف الخوف. تسللت وسط القرية ليس هناك أطفال يلعبون بخبزهم الحافي. إنها تكاد تسمع دقات قلبها وهي تدق الرعب الرعب... أين هو العجوز الذي كان يتقلب مع ظل الحيطان، ويتساءل عن الشاذة والفاذة ويعرف تاريخ  القرية بكل حذافيره. طلت على البئر ياللهول لا صورة لديها اليوم على الماء. إنها جافة بها فقط بعض جثت الضفادع كما لو كانت محنطة. وبين الشقق بعض أثواب الثعابين كما لو ستبقى خالدة للأبد. الحكمة تقول الثعابين التي لا تستبدل جلودها تموت. وهذه - للأسف الشديد - ماتت رغم أنها استبدلت تلك الجلود. الجلود آثار، أقوى الآثار!. راحت تتفحص الأشجار واحدة واحدة. إنها فقط جدوع يابسة. تفحصت جيدا إحدى الجدوع لا يوجد سوى صرار قضى منفجرا من شدة تبويقه، من شدة أنانيته هذه الأنانية الفطرية هي التي تقتل صاحبها.
    استفاق على غير عادته فقد فتح عينيه على صرصار غليظ البنية وخشن المنظر. يوجد بأعلى إحدى زوايا الغرفة حداه نفس الشعور الذي حدى الشاعر مونتنيه عن الغراب، والذي يعبر عن أعلى حالات الكراهية، فقال مقتفيا آثار هذا الشاعر : "الصرصار أكرهه لكنه هذا الصباح على الحائط"، نظر إلى عيني زوجته اللتين لا زالتا منغلقتين. ثم شرع يتسلق خزانة المواعين المنزلية والتي لم تكن خزانة مطبخ بقدر ما كانت خزانة الأدوات النفيسة. حيث لا يضع رجله إلا على كأس من الخزف الصيني أو صحن طاووسي، يتربص ببطء وهدوء. يتقوس حينا ويتمدد حينا آخر، وأنفاسه منحصرة بين دفتي صدره لكن عند ما اقترب من صرصاره وجده قبيح المنظر ومشوك الشعيرات، إنه لا يستطيع أن يقبض عليه كما كان يعتقد، لولا أن الدوافع كانت أقوى من الحواجز، إرتمى عليه وللأسف الشديد طار الصرصار اللعين، آه حتى الصراصير تطير!. طار ولم يسقط إلا على وجه زوجته. التي استيقظت من حلم الصرار إلى واقع الصرصار. أما الزوج فقد ارتعشت رجليه وتهاوى أرضا وتلته الخزانة بكؤوسها وخزفها...
    كانت هذه الشرارة كافية لإذكاء نار الشقاء - التي كانت خامدة بخمود الصراصير -وتقويض بواعث السعادة والهناء ودواعي الرضى والارتياح فسعيدة بدأت ترى أنها آلت إلى باكوري جديد آخر بالشركة فجميع العمال والعاملات يعرفون قصتها وما تسبب فيه خوفها الصراصيري الشديد إلى بيت زوجيتها من متاعب. ورغم أن العمال لم يكونوا بالجرأة بمكان ولن يكونوا كذلك  ليعاملونها مثله لقوة شخصيتها ونفوذ مسؤولياتها إلا أنها بدأت تحس أنهم ينظرون إليها بنفس نظرتهم إلى الباكوري. أو على الأقل هكذا بدأت تتصور شعورهم حيالها. لقد تحولت من حيث تدري أو لا تدري إلى جثة سليمان بين عشية وضحاها. فتحول لديها العمل بالشركة إلى ضائقة، وإرتكن المنزل قبرا حقيقيا وماتلى ذلك إلا الخوف والهوس. الخوف من الهوس والهوس من الخوف. واختلط عليها المستقبل بالماضي والحاضر بالفائت فباتت تخاف كل شيء حتى هلوسات دماغها، وأمست تبيت عند إحدى صديقاتها للترويج عن نفسها أو لأن منزل هذه الصديقة يخلوا من الصراصير. أما زوجها فقد بدأت غياهب ظلمات الطلاق تتغلب لديه على أنوار القفص الذهبي بعدما بدأت تنفلت من بعد يديه آخر شظايا الأمل وشدراته.
    " وبدأ يطاردها وتهرب، أدخل يده يطلبها وتبتعد يلامسها وتنزلق يكاد يجمع أنامله عليها وتنفلت، ضاعت الصابونة واتسخت يده ". هذا ما حدث لعبد الجبار عند ما سقطت له الصابونة بفوهة المرحاض فخرج يلعن ويشتم ويسب، الزمان والظروف والأقدار يلعن الوقت والتاريخ وطعم حياته المر. فسار على هذه الإيقاعات متجها نحو عمله الشمس نار بلا نور تكوي أشعتها جسده المنهزم، وتسيل عرق جبينه الجاف. لقد بدى أن غضبه اليوم سوف يتسرب إلى محيطه. غالبا ما تغضبنا أحداث بسيطة وتجعلنا نغير مسار يومنا أو حياتنا إننا بحق نكون سفهاء. أما إذا واجهنا مثل هذه الأحداث بابتسامة خجولة فإننا ننزلق من تأثيرها علينا كما انزلقت من يديه تلك الصابونة. هذا ما كان يفكر فيه على الأقل لكنه لا يستطيع فعله، كأن تفكيره خارج عن إرادته وكأنه خاضع لغريزته أكثر من عقله. ولأول مرة يرن هاتفه وهو لا يعرف أين وضعه في جيده الأيسر أم الأيمن، في محفظته أم... لقد تلقى مكالمة هاتفية تقول إن زوجته توجد بمنزل غريمها وبعدما وصف له بدقة تبين له أنه يعتبر ملكا لمدير الشركة. إنتقل إلى عين المكان بعدما تأكد من صحة المكالمة فأخبر الشرطة ، وأحضر الشهود والذين كان معظمهم من عمال الشركة الذي سرى فيهم هذا الخبر كما تسري النار في الهشيم وإذا كان المدير قد فضل الإلقاء بنفسه من أعلى طوابق منزله فهو الطفل المدلل للمرحوم أبيه، الذي لم يستسغ هذه الحادثة فإن سعيدة فضلت المواجهة والإصرار على الصمت ولا شيء غير الصمت وواجهت جريمتها لوحدها.
    هاهن الحاضرات الآن قد اكتشفن سر نجاحها، وتتحدثن الآن عن كيد النساء وما تسببت فيه هذه العفريتة لزوجها من متاعب وكثرة خداعها له، ومكرها به، ملقية جام كيدها على حشرة بسيطة وضعيفة. إذا كان سر نجاحها هو مغامرتها بشرفها، ومعرفتها بكيفية التقرب من أصحاب القرار والتحدلق بهم. إذا  كان تسلق السلم الإداري يأتي على حساب الشرف فتبا لهذا الارتقاء، وتبا لهذا النجاح. حقيقة أن سعيدة كانت أسطورية في العمل حيث لم يكن يقدر على مجاراتها أحد. لكن المثل الشعبي يقول : "عندما تسقط البقرة تكثر السكاكين". وأنا أقول عندما يسقط النظام يكثر أعداءه، حتى من أولائك الذين كنا نعتقد أنهم مخلصين حتى النخاع وأوفياء حتى  الثمالة.
    كان خير ما فعلت هو الصمت فإذا كان يقال "نوم الظالم عبادة" فصمت المجرم كذلك عبادة. بعض الجرائـد تقول : "إن هذه اللعينة هدمت بيت زوجيتها وساهمت من بعيد أو قريب في تدمير الشركة وتشريد الكثير من العمال والأسر دون أن تشعر بذلك". أما بالنسبة لي فالإشكال الذي ظل عالقا في ذهني هو لماذا وصل النفاق بها إلى أن تقر في استمارتها أنها تكره مدير شركتها هل تكذب حتى على نفسها؟. أم أنها كانت تظن أن زوجها سيطلع على دفتر ذكرياتها الخاص لا محالة. لذلك قامت بإبعاد شكوكه وريبته بهذه الطريقة. إن الزيجات يتحكمن في الفضاء الذهني لأزواجهن ويخلقن سلطة إعلامية خاصة، مما يجعل كل زوج يعتقد أن زوجته هي الصالحة والأخريات في النار.

7- السجن أو مدرسة الصبر
    دخلت السجن وقواها النفسية عليلة وقدراتها الجسدية متهالكة، وأمنيتها اليوم هو أن تبتلعها الأرض وتكون نسيا منسيا. تتمنى لو خرجت الأرض عن مدارها وارتطمت بكوكب آخر متحولة إلى غبار تتطاير ذراته في الفضاء. من حسن حظنا أن الأرض لا تستجيب لرغبات الآخرين ولو كان ذلك كذلك لهلكنا منذ زمن بعيد. لم يعد يهمها أن خبرها سيتناقله العوام، وسيتصدر عناوين كبريات الجرائد وكيف سيكون تأثير ذلك على أبنائها وزوجها، لم يعد يهمها طموحها المتدمر والذي كان أكبر من عملها، يبدو أنها ستضرب عن الطعام بالاضافة إلى الكلام. وستبقى كتمثال هدمته جيوش الاحتلال. لكن هذا السجن لم يكن مثل ذلك السجن الذي زارها فيه المحامي بل كان يسمع فيه لغط ولجب السجينات ورغبتهن الجامحة في التعرف على من قدف به  مجددا في عالمهم الأسطوري. وعندما سئمن من صمتها تراجعن إلى الوراء وهن تعبرن عن قلقهن. وبدأ يسمع صوت بعد الفضوليات  اللائي قرصن عنها بعض الأخبار بطريقة أو بأخرى:
- إسمها سعيدة لكنها شقية، يبدو أنها من عائلة محظوظة، سمعت أنها مدانة بالخيانة الزوجية.
- كانت تهرب من" سراق الزيت " وتذهب عند سراق النساء.
- وخا هاكاك بقات فيا بين فيها ماشي بنت الحرفة غير غرها الشيطان.
- خلي باباها غادي تشرب سراق الزيت في الحريرة، وتجرب البيصارة بالكوز ورجيلات الصرصور عوض الزيت البلدية والضامة كنور.
    وبتوالي الأيام والشهور انكببن على سجينات أخريات وخلين سعيدة وحالها. ولم تبق بجانبها سوى سجينة إسمها البوهالية، كانت البوهالية بشعرها الأشعت والذي يظهر من بعد كأنك تنظر إلى غابة متوحشة،في ليل دامس، وأنفها الطويل الذي يحملك على الضحك بمجرد ما تراه. وتهورها الذي تجاوز كل الحدود بدرجة أنها يمكن أن تمشي علي يديها بدل رجليها. وبدرجة أنه كلما عاملتها بكراهية وحقد وأمطرتها وابل من الشتائم ، إلا وواجهتك بابتسامة بريئـة وذكية دون مبالاة. ورغم ذلك فقد كانت ذات ثقافة واسعة  حتى أن البعض يعتقد أنها موسوعة عظيمة قذف بها في سلة المهملات خطأ أو عمدا.
    - البوهالية وهي شاخصة بمقربة سعيدة التي كانت تليها ظهرها: <<كل شيء يأتي، ينمو، يترعرع ، ثم يندرس طاحونة الزمان قوية وقاهرة لا تفرق بين بعض البكتيريات التي تعمر بالثواني. ولا بين بعض الصراصير التي تعيش بعض الأيام . ولا بيننا نحن الذين نعد أعمارنا بالسنين والشهور. وحتى بين الصخور والأفلاك والنجوم التي تعمر ملايير السنين . طاحونة الزمان تأتي على كل شيء فلا  داعي للقلق والأسى. المكان قد يكون غرفة تأسرنا أبعادها الفيزيائية، سجن، وقد يكون زرقة سماوية وهمية تنتهي عندها حدود أبصارنا. لكن الجميل هو أننا نتصور المكان غير متناهي، وكلما تصورناه متناه إلا وتصورنا أنه بمكان آخر. جمالية الكون تكمن في لا نهائيته. لا نهائيته تكمن فينا نحن الخلود ، نحن الأتما. نستطيع نتمتع بجمالية القمر رغم أن الأمريكيين يتبجحون بكونهم كانوا سباقين لفتحه. نستطيع بخيالينا أن نخرج في نزهة خارج المجموعة الشمسية رغم أننا لا نستطيع حتى تمويل خرجة إلى الغابة المجاورة لنا. نستطيع أن نفعل كل شيء فقط أن لا يستطيع الآخرين فعل أي شيء. نستطيع التلذذ بمشاهدة معركة يموت فيها الآخرين كالصراصير. لكن عندما نتحول إلى قلب المعركة فعلينا أن نتلذذ بالموت، وأن نتلذذ بكون الآخرين يتفرجون علينا. علمتني الحياة أن طاحونة الزمان ياسيدتي قاهرة وطاحونة المكان أشد منها قهرا. لكن علينا أن نحول كل شيء لصالحنا حتى الأقدار يمكنها أن تخدمنا إذا وجدتنا على استعداد لذلك. الأقدار إذا وقفت ضدنا فهي تمتحننا هل  نستحق وقوفها بجانبنا أم لا. إذا وقفت بجانبنا فهي ليست بالضرورة سعيدة مثلنا. لأنها قلقة بشأن موقف عدائي  اقترفته ضد الآخرين، ضد الخصوم، الأقدار لا تعرف الخصوم. وبالتالي علينا أن نتفاعل مع كل ما ترمينا به. - كانت سعيدة في هذه الأثناء تستغرب من ثقافة البوهالية وبدأت بين الفينة والأخرى تقطب حاجبيها مما حمل البوهالية على المزيد من الشجاعة - علينا أن  نمتلك عزيمة سيزيف وجرأة برومثيوس، استرسلت البوهالية، هذه هي الحياة وهذا هو قانونها الأسمى فنحن في البداية لا نعرف  عن الحياة سوى أنها تواجد وفرح وأكل وتكاثر. لكن عندما نمتحن أنفسنا نجد أن الحياة  مجموعة من التفاعلا ت الدقيقة والعميقة بين عوامل غريبة ومجهولة كالتنينات الأسطورية . الحضارات يا سيدتي ابتدعت الأساطير وغيرها ليس لأنها كانت متخلفة عنا. الحضارات خلقت الأساطير للتلميح إلى الجانب المظلم في الكينونة، في الوجود. الحضارات ابتدعت الأساطير لحماية الإنسانية .
    مشكلتك يا سيدتي بسيطة في حياتي سمعت الآلاف من النساء اللائي يراسلن الجرائـد ويقلن بصريح العبارة : أنهن وقعن في حب أشخاص آخرين غير أزواجهن . فماذا يجب عليهن أن يفعلن؟. لقد كان القراء يا سيدتي يكتبون حلولهم مزهوة بتعاريف الفقهاء للزواج  ودعوتهم إلى احترام هذه الرابطة المقدسة. وآخرون ينصحونهن بالطلاق. وآخرون يناقشون الجانب النفسي والاجتماعي للمسألة. ذات يوم كتبت كلمات قليلة أودعتها بكتاب ذكرياتي : "الزواج مؤسسة إنسانية، رباط إنساني غايته الحفاظ على استمرار نوعنا بشكل أفضل فوق هذا الكويكب الصغير. الشخص الذي يخون هذا الرباط الإنساني ينسلخ من الإنسانية إلى الحيوانية ويصبح حيوانا غريزيا". لكن بعد ذلك قلت هل كانت تلكن النساء ترغبن في نصائح بالفعل؟. لقد كان اعتقادي على العكس تماما فهولاء النساء يرغبن فقط في قياس درجة حرارة المجتمع وغزارة دعاوي الانكار أو نذرتها. وبعبارة دقيقة إلى أي حد كانت رذيلتهن  منكرة اجتماعيا. أنكر الناس يا سيدتي لأفعال يقوم بها غيره هو أكثرهم  حبا لهذه السلوكات . تاريخ الحضارة هو تاريخ الكبت. تاريخ الانسانية هو تاريخ النهارات المضيئة طامسا وراءه لياليها المظلمة. مشكلتك يا عزيزتي بسيطة، أنت" فوتون" صغير في الكون فلا داعي لتتعبي نفسك حيوانيتك تقتسمينها مع الكثير منم مخلوقات هذا الكوكب فلا داعي للندم>>.
- سعيدة وهي غاضبة وحائرة : << لديك يا سيدتي رؤية خاصة بك وفلسفة جميلة لم أجدها في كتب القدماء ولا المعاصرين. نفسيتك تشتد وترتخي مثل أوثار القيثارة، لتعطي أنغاما متناسقة وجميلة، في حياتي إختلطت بالكثير من الناس رجالا ونساءا، لم أرى بينهم سوى مهتم بكسو ته وهندامه، وكيف ينمق كلامه أناس يندفعون حول الثروة كما تندفع الأغنام على الكلأ في السنوات العجاف. لقد خفت من مواقفك حتى أنني خفت أن تشرعين الزنا فقط لإرضائي لكن كم  كنت حكيمة ورصينة. وكم كنت تلعبين على هامش الخطوط الحمراء. والآن هوني عليك يا سيدتي فأنا لم أقترف الرذيلة بل أكثر من ذلك أنني كنت أكره مدير شركتي. لقد كان يهتم بي أكثر من اهتمامي بنفسي، والحال أنه لم يكن يهمه سوى نجاح شركته لقد كان يعتقد أنني مريضة نفسيا ولدي عقدة الصراصير. وقد تكلف بساعات كنت أزور فيها الطبيب النفسي. ونظرا  لأن ساعات الطبيب كانت طويلة ونتائـجها كانت تسير ببطئ شديد. بل أحيانا كانت تتراجع. فقد قال المدير : أنه يعرف رجلا حكيما / مشعوذا يستطيع أن يعالج حالتي بين عشية وضحاها إمتنعت كثيرا، لكنه أصر علي فقال أنه سيوفر الجو السري لهذه المعالجة. وسيحضر كل ما يطلبه هذا الحكيم وأنه هو نفسه كان يستعين به في بعض التمائم الذي يعلقها بمصنعه إتقاء  لعين الحاسدين. وفي الأخير قبلت يا سيدتي. وادعى ذلك المشعوذ أنه عليه أن يكرر عمله ثلاث ليال كل ليلة على رأس أسبوع. كنت أضطر فيها للمبيت بمنزل المدير مضللة زوجي بأني عند إحدى صديقاتي والتي كنت أراود منزلها في المرات الأخرى. وفي المرة الثالثة لم يأت ذلك المشعوذ اللعين، وفي صبيحة اليوم الموالي حدث ما حدث فألقى المدير بنفسه لعدم قدرته على المواجهة. لم يكن يهمني وقوعي في الرذيلة من عدمه. بقدر ما كانت تؤلمني تلك التيارات الجارفة التي كانت تلوكها ضدنا ألسنة الصحافة. وتتشدق بها النساء في الحمامات والأسواق. إذا كان هذا بالنسبة لك كله امتحانا من الأقدار فأنا لم أستطع الصمود أمامه، وعزيمة سزيف هنا لا تنفع ولا تضر. أما إذا كان علي أن أتلذذ بكون الآخرين يتلذذون بالتفرج علي فهذا أمر لا تقبله نفسي>>.
    كانت سعيدة والبوهالية تتمتعان بحواراتهما الجميلة، كأنهما تريدان التأسيس لمذهب عالمي جديد فيه أخلاق عالمية مشتركة للناس. أما السجينات فتنظرن إليهن كأنهما مجنونتان إلتقيتا ببعضهما البعض. وكن يشتمهن أحيانا ويستهزئن بهن أحيانا أخرى. لكن "البوهالية" كانت أشد إقداما وأصلب عودا وكانت تقدم لصديقتها الدعم النفسي الكافي فقد غيرت لها مجموعة من القرارات والأفكار وأثنتها على رغبتها في الاضراب عن الطعام والكلام. وباختصار كانت البوهالية مرسول حظ أرسل إلى سعيدة من السماء. كما كانت حريصة على أسرارها فهي الوحيدة التي أصبحت تعرف أن سعيدة بريئة. وكانت سعيدة قد ألفت نمط السجن بعض صراع مرير، وبدأت تتكيف مع رطوبة الجدران، وضجيج الغوغاء ثم صرير المفاتيح وشتمات الحراس، حرية القمل والبرغوت والصراصير. والصراصير ا لتي تجري هنا وهنالك مؤكدة على حقها في التجول وحريتها في العيش والاحتجاج وحقها في بعض الأمتار من جدران هذا السجن.
    ببالغ الأسى والأسف إختفت البوهالية. أنباء تقول إنه تم تحويلها لسجن آخر، وأنباء أخرى تقول أن يدا وحشية إلتهمتها لأنها تملك فلسفة جمعوية. إختفت البوهالية ودفنت معها أسرار سعيدة . والتي بدت بحق حزينة على البوهالية أكثر من حزنها عن مصيرها. هل مرة أخرى الأقدار تمتحن سعيدة، إمتحانات الأقدار هذه عسيرة، بدأت سعيدة تتصالح والصراصير فأحيانا تقتسم وجباتها معهم بل وصل بها الأمر إلى المنابزة مع السجينات اللائي يرغبن في قتل تلك الصراصير عمدا،لاستفزاز سعيدة . وذات يوم سألتها إحدى السجينات لماذا أصبحت تحبين الصراصير؟. فأجابتها : "الصراصير هم الفلسطينيون ضحايا الإبادة العرقية والإضطهاد الجماعي. الذين طفقوا يموتون كالجراد لعقود من الزمن على مرأى أزيد من خمسة ملايير من البشر. الصراصير ضحايا أحداث الحادي عشر من شتنبر الذين قضوا دون أن يقترفوا أي ذنب فقط لأنهم مواطنوا دولة جبارة، سقطوا ضحية صراع عمالقة الشر. الصراصير هم أولائك الذيت يقفون أمام الإدارات العمومية مقبورين على دفع إثاوات مقابل وثائق بسيطة. الصراصير هم الذين ينتزع منهم حقهم جورا أو ظلما في المحاكم، الصراصير هم ضحايا الإعلام الميغا امبريالي الذي يضخم صرصار صغير ويقزم تمساحا كبير. لكن العلم الحديث اليوم يؤكد أنه بعد حرب نووية وحدها الصراصير تستطيع العيش فوق هذا الكوكب. وسنعقد عليها آمالا في تجديد نوعنا شئنا أم أبينا. الصراصير بريئة من اي سلوك إرهابي".
     ثلاثة... اثنان... واحد...، والآن أستشيركم هل أقتل هذه البطلة وأنهي القصة. في حياتي قرأت كثيرا من القصص التي يقتل فيها الكتاب أبطالهم. لكن بطلتي لا تريد أن تموت ليس لديها رغبة في الموت. إذ لو كانت ترغب في ذلك لانتحرت مثل مديرها. أحيانا لديها قدرات خارقة للتمسك بالحياة، أحيانا تجازف بنفسها في أبشع المغامرات. إذا الموت والحياة لديها سيان فلماذا نقتلها؟. لماذا لا نترك القصة مفتوحة هكذا؟... عفوا اسمحوا لي جاء خبر سار يقول إن البوهالية كانت مبعوثة إستخباراتية تتجسس على ملف سعيدة. إن البوهالية حقا موسوعة عظيمة ألقي بها في سلة المهملات عمدا هذه المرة وليس خطأ. وسيقام عرسا أسطوريا لسعيدة لجبر الضرر الذي لحقها. لقد ابتسمت الأقدار في وجهها من جديد . وكان المحامي والشرطي وأقلام الصحافيون يعبرون عن استيائهم واعتذارهم إليها. وكان القاضي قد تذكر - ملفها بعد إجهاذ عظيم للذاكرة- من بين آلاف الملفات واعتذر لها متدرعا بكثرة الملفات وسرعة البث والفصل في النزاعات. لكن سعيدة رفضت هذا العرس ورفضت معانقة أبنائها وزوجها وأسست بدل الجمعية النسوية للدفاع عن تعدد الأزواج  أسست جمعية للدفاع عن حقوق الصراصير. وأصبحت أما لكل صرصور وكل مظلوم في الأرض. تبعتها البوهالية تناديها سعيدة أريد... قاطعتها قائـلة : - أنا لست سعيدة ولا شقية أنا تمثال الحرية.
- لدينا تمثال الحرية منذ قرون عديدة لم نفعل به شيئا ، لقد أصبح ثروة تذر أرباحا عظيمة لتماسيح تجارية كبيرة .
- أنا تمثال الحرية والصمود .
- ومتى ملأت الاستمارة؟.
- في كل يوم في كل ليلة، في كل دقيقة وثانية نملأ جزءا من استمارة حياتنا. حياتنا احتمال وحيد نشقه من بين ملايير الاحتمالات المتفاعلة والمتفرعة. حياتنا حرف وحيد فوق استمارة عظيمة.








الطبيـــــــــب

هـــم
    الناس عفوا، المرضى ينتظرون هنا وهناك. نساء ورجالا، أطفالا وشيوخا. وكلما أنضاف إليهم أحدا إلا وأخذ ورقة صغيرة عليها رقم ترتيب ما، وجلس القرفصاء أو فضل البقاء واقفا. لأن كراسي الانتظار مملوءة بطبيعة الحال. وكلما وقفت سيارة أمام هذا المستوصف إلا واشرأبت وجوههم صوبها. وجوه كظيمة، وتجاعيدها حزينة. وكل جماعة منهم توشوش فيما بينها : آه ليس هو أنا أعرفه من وجهه. الساعة الثامنة والنصف ولم يأت الطبيب. مرضى يحتجون ويشتمون المسؤولين والأوضاع والظروف... وهناك منهم من أسر غضبه في نفسه لغاية في نفس يعقوب، وآخرين منهم يعتقدون أنهم ليس لهم الاختيار بين الحسن والأحسن بل بين السيئ والأسوأ. فعلى كل حال هو أحسن من جميع أطباء الأحياء والحارات الأخرى. بل حتى من بعض أطباء المستشفيات الإقليمية. أما الأغلبية العظمى فتقول إن هذا الطبيب هو الأحسن من بين جميع أطباء المستشفيات. تشد إليه الرحال. ويده كالرحمة لا يبرح يضعها عنك حتى تخرج شفيا مشفيا. وبين هذا وذاك أقبل سيادته بسيارته الفارهة. وأخذ يحول نظارات السياحة من على عينيه مستعيضا عنها بنظارات العمل البيضاء. وما كادوا يبصرونه حتى احرنجموا مقربة باب قاعته بدرجة لم يتركوا له معها ولو ممرا صغيرا يتسلل منه. وهو يتمتم بصوت منخفض : - اسمحوا لي... اسمحوا لي... وصوت إحدى الممرضات يصرخ بقوة : - "خليوا الطبيب يدخل ياك عندكم الأرقام ديالكم منين جايين الصباح هذا..." تصرخ وهي تبتعد في ممشاها، وكلما ابتعدت إلا وسمع منها كلاما نابيا و أشد قسوة يخالطه صرير رزمة مفاتيح كثيرة كانت تحركها بيمناها.

هــــو
    جلس على مكتبه كعادته، وقد سئم كل السأم من هذا العمل الروتيني الذي ظل يزاوله منذ عشرات السنين، ولا شيء يبدل سوى وجوه المرضى وأسمائهم والأيام، تلك الأيام، وأنه لا يخالف روتينيته المعهودة إلا أيام الآحاد وزوالات السبوت.  وأن هذه الثلاثة أشهر التي بقيت تفصله عن التقاعد قد طالت عليه كالأعوام. وشرع يتفحص أدوات عمله مجسة صغيرة لقياس الضغط الدموي تقادمت وتآكلت بدرجة لم يعد يعرف أهي المريضة أم مرضاه. وعدسة بسيطة توجد أفضل منها عند بائعي لعب عاشوراء. وبخزانة المكتب علب من حقن البنسلين، وعلبة مملوءة بأقراص عارية من الأسبرين.

هــــؤلاء
    وانفتح الباب وسمع أجيج المرضى ولجبهم، وانفلت من شر ازدحامهم الزبون الأول :
-    الممرضة وهي تحمل سجلا كبيرا : الاسم الكامل والسكن؟
-    الطبيب : ما بك ؟    
-   المريض :( الحلاقم)
-    هل تستعمل البنسلين؟
-    لا
-    هل يستعملها أحد من عائلتك؟
-    لا.
-  أعطاه حقنة من البنسلين ولف له لفافة من الأسبرين.
وتسلل الزبون الثاني مخترقا زحاما شديدا.
-    رقمك آه 99 لازال أمامك الكثير من المرضى، عد مكانك من فضلك.
-    "الله يرحم بوك إني تلميذ".
-    آ تستعمل البنسلين؟
-    لا.
-    هل يستعملها أحد من أقربائك؟
-    نعم.
أعطاه حقنة من الإيكسطونسيلين ولف له لفافة من الأسبرين وانصرف بدوره.
وانفتح الباب لثالث مرة، وسمع ضجيج، ضوضاء، وشتائم تتبخر في السماء، كدخان السجائر. وتسللت الزبونة الثالثة.
-    ما بك؟
-    ألم في رحمي، وكحبة جافة في صدري وحبة كبيرة في فخذي.
-    قال في نفسه (ماذا أفعل لها؟. ألذي عصا موسى أم معجزات عيسى؟!). سوف أكتب إليك رسالة تذهبين بها إلى المستشفى الإقليمي.
-    قاطعته غاضبة سبق لي أن ذهبت عندهم، دمروني بكثرة المواعيد وإبعاد آجالها. أحيانا الطبيب في عطلة وأحيانا في رحلة علمية. لم يبق لهم سوى أن يقولوا لي إنه في رحلة إلى القمر أو خارج المجموعة الشمسية!.
-    هل تستعملين البنسيلين؟
-    نعم.
-    لف لها لفافة من الأسبرين وأعطاها حقنة من البنسيلين وخرجت تترقب سوء دوائها، خرجت تجوب الشوارع وتمشط المقاهي، فربما وجدت ذريعة أخرى للتسول.

كنت في البداية أعتقد أنه يشتغل بالقاعدة الأصولية : "الضرورات تبيح المحظورات" فإذا لم يكن لديه الوقت الكافي لإجراء تلك الفحيصات التي تثبت حساسية المريض للبنسيلين من عدمها. وإذا كان يعطي البنسيلين حتى للدين لا يستعملونه. بل أحيانا يعطيهم الإيكسطونسيلين وهو الأقوى. فلماذا يسأل مرضاه هذه الأسئلة؟! ألديه بحث عنوانه "البنسيلين وأجسام الفقراء" أو "التداوي بالبنسيلين بين الصدفة والتلقائية". على الأقل لم يكن سلوكه مفهوما أبدا. ربما يعتبر أن تلك الأسئلة فقط شكل من شكليات عمله!.
وأحس بأن الوقت يفوته دون أن يفحص ذوي الاحتياجات الخاصة. فأسر إلى ممرضته بأذنها فخرجت تعزل ذوي الشواهد وتعطيهم حق الأسبقية. فشرعوا يتسللون واحدا تلوى الآخر. هناك من يريد تضخيم مدة العجز، بسبب حادثة سير أو شغل أو عراك مع أحدهما. وهناك من يتمارض دون مرض هروبا من العمل والدراسة. ولكل يوم عجز أجره ومقابله.حسب الظروف والحالات. ولم يكن ينسى بدوره ضخ بعض الوريقات النقدية في جيب ممرضته. كانت في البداية تعتقد أن هذا السخاء من ورائه طلب آثم ما، لكنها فيما بعد اكتشفت أن طبيبها لا يريد منها سوى أن تسد فمها.
اكتملت لائحة ذوي الشواهد وعاد أدراجه ليفحص المرضى الحقيقيين. مستأنفا عمله بين الأسبرين والبنسيلين. لا يعرقله مريض بقدر ما تعرقله مكالمة هاتفية. ويتعجب كلما قال له أحد مرضاه : "أنه أتى عنده بعدما زار عيادات كثيرة، وبعدما سمع عن معجزاته الاستشفائية. وأن الطبيب يفحص والله يشافي. لكن الله يختار من بين عباده أولياءا يكونون أسبابا للشفاء". وهو يقول لنفسه : "هل يمكنني أن أكون وليا من أولياء الله رغم أنني مرتش ومدمن على الخمور؟". حقيقة أنه يبتز فقط أصحاب الشواهد. أما مرضاه فلا يبتزهم أبدا. ربما لاعتقاده أنه لا يقدم لهم خدمة تستحق مقابلا. لكنه لا يرد هداياهم عملا بالمثل الشعبي المأثور "حتى فقيه ما كيرجع أجرتو".
يتذكر أن الناس الذين عولجوا على يده. يعدون بالآلاف. لكن هؤلاء الفقراء المساكين يشفون بسرعة كأن أجهزتهم المناعتية علمت منذ بدايتها أنها لفقراء فعملت على تحسين مستواها الدفاعي.
ذات مرة التقى بأحد زبائنه الفقراء المسمى بزيكر (وهو الاسم التصغيري لبوزكري). فواجهه هذا الأخير بابتسامة عريضة. معبرا عن سروره وبهجته بلقائه. وأنه مستعد ليقدم له أية خدمة كان في حاجة إليها. من أعمال سخرة وغيرها. فسأله الطبيب كيف أصبح ابنه؟ فأجابه وهو يقهقه : - مات الطفل لكن أمه أنجبت طفلا آخر!! . وفي اليوم الموالي أصبحت زوجة بزيكر واقفة أمام المستوصف تتباهى بأن زوجها صديق الطبيب. فدخلت عليه تطلب بعض المساعدات التي تقدم للمرأة الحامل فانفجر الطبيب ضاحكا! مسرا إلى نفسه أن عشرة نساء من أمثالها سيعوضون الإنسانية عما فقدته في حروبها الجشعة.
هؤلاء الفقراء لا يملكون غنى الجهاز المناعي فحسب، غنى الدم فحسب، بل حتى غنى النفس إذن. إنه يحسدهم على نفسيتهم وكيف يتكيفون مع الأحوال والنوازل. لا يندمون على ماض فات. ولا يفكرون في مستقبل آت. مع احترامه لصاحب هذه الكلمات.
أما هو فجهازه المناعي هش. وصحته تتدهور يوما بعد يوم. وأمراضه لم تشف بعد. بالرغم من زيارته لأبهى العيادات. وبالرغم من أن أصدقائه قدموا له أرقى الفحوصات. ورغم هذا كله فلازال يعاني من تصلب شرايينه ودوخة تصيبه بين الفينة والأخرى، دون أن يعرف علتها. انهيارات عصبية فجائية وحساسية مفرطة للبنسيلين. ومثلما يعتقد كل سكان أصليين لبلدة ما، أن أرضهم "تعطي فقط للبراني" بدأ يعتقد أن يده تعطي فقط للزبون إذ أنه لم يستطع معالجة نفسه بنفسه. أما زوجته فلديها اعتقاد آخر حول حالته الصحية إذ تعتقد أن شكاوي المرضى هي التي تصيبه وتجر عليه الأمراض والويلات. فكم من مرة قالت له بصريح العبارة : - عندما يشتكي إليك زبون ما فقل : "شكيكو" وضع إبهامك على مادة ما. أو قل له : "شكي على كرمة تزيدك عرمة" ولعمري أنه في بعض الأحيان - عندما يرى بعض الحالات الخطيرة -  ليعمل بنصيحة زوجته - وهو خجول من نفسه - متسائلا أين هو من تلك النظريات التي درسها في أوربا، في بلدان يملأ فيها العلم الكثير من الفراغات التي تملأها الأساطير. في الحقيقة الجهل مرتبط بالقوة والضعف أكثر من ارتباطه بالمعرفة من عدمها.
وبينما هو في صراع مرير مع الزمن. بين الأسبرين والبنسيلين. إذ دخل عليه رجل شديد بياض الثياب، كثير الاهتمام بأناقته وهندامه. حتى ليقال أن ذرة من الأوساخ فوق ملابسه، قد تؤلمه أكثر مما تؤلمه رصاصة في صدره. تظهر على وجهه آثار النعم. فأوجس منه صاحبنا - في نفسه خيفة -. وانشطرت في ذهنه احتمالات كثيرة : - أيكون شخصه مفتشا مبعوثا من دوائر عليا؟. أم... واعتقد أن الزبون قد افتطن إلى ما يدور بخلد مضيفه فأسرع إلى تقديم نفسه : - أنا طبيب ومسؤول بأحد المستشفيات الإقليمية، سمعت عن بركتكم وشهرتكم، عن تجربتكم وحنكتكم، فقصدتكم يا مولاي بعدما أتعبت العيادات كاهلي، وأنهكتني وخزات الإبر، من كثرة التحاليل والوصفات. أنا لا أريد دواءكم، أريد دعاؤكم. أنا لا أريد فحصكم أريد بركتكم. ومد له دفتره الصحي. فبدأ يتفحصه وهو يتعجب كثيرا. فزبونه يشبهه في الطول والوزن ويحملان نفس الأمراض تقريبا. لا توجد بينهما سوى بعض الاختلافات القليلة!.
-    هل تستعمل البنسيلين؟
-    لا. لا يا سيدي، للأسف الشديد لدي حساسية مفرطة لها.
-    لكن اليوم سوف تستعملها. الحساسية تتلاشى أمام البركة. سوف تجرب حضك كالآخرين. النية أبلغ من العمل. في حياتي الملايين من المرضى أعطيتهم البنسيلين دون أدنى فحوصات. ثمانون بالمائة منهم لم يصبهم أذى. لديك امتياز آخر سوف أحقنكها بنفسي. أنظر حتى المحقنة قد أهديتكها مجانا!. ووقف متجها صوبه بعدما هيأ محقنته. أما هو فقد أصفر وجهه خوفا. وهو يتردد بين القبول والرفض، الإقبال والإدبار.

استيقظ من نومه على هذه الإيقاعات. إذ وجد زوجته قد حقنته الإيكسطونسلين. ذلك المضاد الحيوي الذي كان دائما يحكي لها عن النجاحات التي حققها بواسطته. لكن حظه التعس لم يجعله من تلك الثمانين بالمائة. مات وفي نفسه الكثير من حتى... عفوا الكثير من البنسيلين. مات متأكدا أن "يده تعطي فقط للآخر". وأنا أقول له هل تملك إرادة ونية الآخر. عزيمة ونفسية الآخر... أنا أعتقد أن السهم إذا تغير اتجاهه قد تتغير نتائجه فما الغريب هنا. السلبيات والإيجابيات هي أحكام من صنيع الإنسان. أما الطبيعة فكل نتائج أعمالها تسير متوازية مع الزمن بشكل مرض.
ليس هناك معنى للوجود لولا العدم، للإيجاب لولا السلب... الطبيعة لا تفرق بين هو وهي وهن وهؤلاء... وأخيرا الطبيعة لا تقهقه مثل "بزيكر"!.

عمـــي العربـــي(*)
العـم سـام يدعـو الأمريكييـن إلى الحـرب؟... وعمـي العربـي...؟


بطريقتهِ الآلية و"الربوتيكية" المعهودة يتحرك عمي العربي صوب مكانه المعهود. وكرسيه البسيط بيده والذي ليس إلا مخدة مرقعة ببقايا ملابس قديمة ورثة، أصبح معها التميز بين ثوبها الأصلي والرقع أمر في غاية الاستعصاء. وبيده الأخرى عكازه الخشبي التقليدي المقطوع من شجرة سدر بطريقة اعتباطية والمقوس طبيعيا دون الحاجة إلى النجار. عيناه تطلان من وراء نظاراته مثل كريات "الكولفازير" البيضاء موحية بأن عمنا لا يرى أبعد من أنفه. أنحلت السنين عوده النحيف حتى صار كالشعباد وانطلأ الشيب على رأسه ووجهه بدرجة أصبحت معها الشعيرات السوداء هي الغريبة. يقف عمي العربي كعادته قليلا قرب صخرته الأم متنفسا الصعداء. ينظر إليها بتمعن شديد هل هي نظيفة أم لا. ونظافتها هنا تعني سلامتها من مبطلات الوضوء كبول الكلاب أو براز الأطفال. حتى إذا تأكد من ذلك نفضها بمخدته ثم يجلس على عرشه هذا متمتما بكلمات غير مفهومة حتى بالنسبة له. المارة يمرون من حوله إلى مهامهم متصارعون والزمن أما هو فلا يبالي بهذا الزمن القذر. كما لو أكل من شجرة الخلد ورزق عمر لا يفنى، أو أنه يعتبر دوره في الحياة قد انتهى. فلم يبق لديه هم يوسوسه ولا أمل ينشده، ولا تحركه من مكانه سوى لعبة ظل/ شمس أو سماع الآذان. أحيانا يلعب بجانبه الصغار فيستغل وجودهم لينتزع منهم بعض المعلومات بدافع الفضول حيث يتساءل عن الشاذة والفاذة، تمر بجانبه فتاة فيسألهم : بنت من هي هذه الفتاة؟ وعندما يجيبونه. يستغرب من سرعة نموها. وأخيرا يدعوا لها (الله يجيب ليها شي رزق). والرزق هنا يعني الزواج. أناس آخرون يمرون حوله لا يعرفهم سوى من وجوههم ولا تجمعهم به سوى جغرافية الزقاق ولعنة البطالة. أحيانا يحيونه وأحيانا أخرى لا يبالون به. فقد سئموا من المرورعليه صباحا ومساءا. أما عندما يجتمع معه أصدقاؤه الشيوخ فيغدون مثل سرب من اللقالق البيضاء يمتد من المغرب إلى فلسطين يتحركون ببطء شيوخي شديد وهدوء بوري تام. وكلما مرت بهم سيارة أو مجرورة حصان. إلا واشرأبت وجوههم صوبها، وتطاولت أعناقهم نحوها. يتساءلون من أين أتت وإلى أين هي ذاهبة؟ ينسقون فيما بينهم وفي الأخير يتوصلون إلى الإجابة. أحاديثهم اختزال لهمومهم اليومية حيث يتكلمون عن الحرث والحصاد، ثمن الزرع والقمح والزيت... ذكرياتهم استحضار للماضي المجيد فإذا كانوا يتكلمون عن الخيرات فقد مرت في الماضي. وإذا تحدثوا عن المجاعات فقد مرت كذلك في الماضي وهذا الأخير بالنسبة لهم كثلة واحدة مقدسة بخيرها وشرها. أما عندما يناقشون الأخبار العالمية فحدث ولا حرج. فعمي العربي مثلا لا يعترف بموت صدام حسين فهذا الأخير لازال حيا يرزق بل يستطيع أن يضغط على الزر النووي فتميد الأرض بمن عليها. وإذا أتوا بالحجج الدامغة والأدلة المقنعة فحجة عمي العربي هو أن يرفع عليهم صوته وينهل عليهم بالسب والشتم. ويتهمهم بالجهل وحداثة السن وعدم المعرفة بخبايا الأمور الدنيوية ومكر اليهود. خلاصة القول عمي العربي غير مستعد نفسيا للإيمان بمثل هذا الخبر وإنكاره له نوع من إثبات الذات وعدم الاعتراف بالهزيمة. ويفضي بهم النقاش إلى اختتامه بالوقوف دقيقة صمت ترحما على الشهيد فيشاركهم عمي العربي عملهم رغم عدم اعترافه بموته!.
ذات صبيحة مات عمي العربي دون أن يصدق أحد في حينا موته فقد كان صامدا كسلحفاة برية عمرت قرونا وأعوام، وأنهكت الشيخوخة عظامها تدخل رأسها في ذرعها لأشهر طوال، تتلاعب بها العواصف أحيانا وتجرفها مياه الأمطار أحيانا أخرى. ولحسن الحظ تبقى السلحفاة حية. كذلك عمي العربي تراوغ به رحى الزمان مساوئ الأقدار. ليس فيه ما يموت فجسمه مثل الهيكل العظمي ووجهه كالصورة التحذيرية من خطر الموت. ينصحه الطبيب بالامتناع عن الصيام لكنه يصوم شعبان ورمضان وست من شوال. يصوم الأيام البيضاء من الأسبوع والشهر والسنة!.
الحاضرون الأجانب عن حارتنا لم يصدقوا بدورهم موت عمي العربي. والذي عايش عدة ملوك على حد تعبيره. قال بعضهم : إن العم العربي كان رجل مبادئ وقيم وأخلاق، لكن يبدوا أنه فقد الأمل في الحياة في الآونة الأخيرة فأضحى مستسلما ومتهورا أكثر من اللازم. فأجبته : - عمي العربي رجل عربي أصيل مات عمي العربي منذ أن ماتت ثقافة الإنسان العربي وهويته. وهو لم يفقد الأمل في الحياة فحسب بل فقده في النشوء والارتقاء. في الصراع والتواجد بل حتى في الموت والانعدام.
ذات يوم هبشوا قبر عمي العربي لأغراض أركيولوجية. فلم يجدوا به سوى بعض الأشياء التي تدفن مع الميت، وفق ما تقتضيه بعض العادات المحلية. الأجساد الطيبة مثلها مثل الأرواح لا تخضع لجاذبية المكان... إنه انبعاث لعمي العربي فهلا انبعث الإنسان العربي؟.



  (*)- أخذت هذه الاستعارة من كتاب "في نقد الحاجة إلى ماركس"، الطبعة I، 1938، بيروت لبنان.
  بوشمــــا حميــــد-المغرب (2010-09-02)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

أرض المبادئ :

المختفــــي...-بوشمــــا حميــــد-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia