مُذَكِّّراتُ كاتب-شُعَيب حَلِيفِي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

مُذَكِّّراتُ كاتب

  شُعَيب حَلِيفِي    

(حكايات زمنُ سُوقِ السَّبت وحُكْمُ بوياى البَشَرْ وحلاقة الرأس التي لا تهم إلا صاحبها وحكومة السيد عباس الفاسي، ثم الختم بالسفر المبارك إلى فاس والشاون، وأيام أخر...)

- أَوَّلاً


هذه المذكرات، دونُتها بناءً على طلب ورغبة عدد من الأصدقاء الذين ألحوا في معرفة ما أفعله خلال أسبوع، وهو تقرير مفيد جدا أليَّ أنا أولا، وثانيا بالنسبة لوالدتي وزوجتي وهما تسألاني بدون كلام.. ومهم لبويا محمد بن عبد السلام الذي يسألني باستمرار عما أفعله في الدار البيضاء؟ ومهم لمن لا يهمه الأمر أيضا.
وقد عنونتها بما يلي: مُذَكِّراتُ كاتبٍ وزمنُ سُوقِ السَّبت وحُكْمُ بويا على البشر وحكاية حلاقة الرأس التي لا تهم إلا صاحبها وحكومة السيد عباس الفاسي، ثم الختم بالسفر المبارك إلى فاس والشاون. وهي يوميات مهداة إلى روح العربي الذهبي، بعد عام في ضيافة سيدي ربي في ملكوته.
وإلى أصدقائي الذي تحملوا معي عبئ هذا الشهر والشهور الفائتة:
إلى محفوظ، الحجمري، الشريشي، صدوق، الساوري، عبد الحق، سعيد، المحجوب، خالد... وممن نَسِيتُهم لأني أُعِزُّهُم.

- ثَانيا

ماي شهر التحولات والتقلبات، فيه تنمو، بعد الحصاد، كل الكلمات الرَّاقِدَة وكافة الإشاعات التي تطوف بالنفس والخاطر.. ويعودُ الوجدانُ إلى تَفَقُّد رُسُومِه وحيطانه بحثا عن مواقع ظليلة يتجنب فيها الصهد القادم.

يوم السبت - ثالث ماي 2008: مفاوضات لا تنتهي

فجر ماي، يجري مثل نهر متعجل بمياه تغتسل بدفئ غير طارئ.كنت بسوق السبت (وهو من أكبر أسواق الشاوية لبيع جميع أنواع البهائم، يؤمه الفلاحون والتجار) إلى جانب محمد بن عبد السلام، نحتسي الشاي ساخنًا وفي أيدينا كسرات خبز محشوة ببيض، داخل قيطون لمعلم صالح في الجهة الشمالية من رحبة الأبقار. ومن حين لآخر يرفع بويا رأسه في الثلاث بقرات المعروضة للبيع، كلما أقبل مشتر يُقَلِّب ويسأل.
الزمن في سوق السبت متعدد، نموذج فريد لتقاطع الأزمنة الخاصة المتحققة في نفس الزمن الفيزيقي، فكل مساحة فيه مزدوجة الصورة والدلالة، فارغة ومتلاشية، توهم بالذوبان والفراغ لكنها في الحقيقة عامرة بالحياة والتعلم.
محاطا باثنين من معاونيه، يجلس بويا محمد بن عبد السلام في مكانه المعتاد، يراقب ويبيع ويشتري ويفاوض، وعندما يقتضي الأمر يحكم، لأنه الأمين المكلف بفض النزاعات كما يحكم، باعتباره الأمين الذي يعمل على فض النزاعات وحل المشاكل السابقة والآنية التي تقع بين رجالات السوق، الجميع يشهد له بالقدرة على استخراج الفتوى مما يسمعه من الأطراف المتنازعة، دون الرجوع إلى قوانين وضعية تعجز عن فهم طبائع السوق، وسوق السبت على الخصوص.
كنتُ دائما ولا زلت أعتبرُ سوق السبت مدرستي الأولى لاختبار درجات قوة وضعف الحقائق، فقد دخلتُه وعمري تسع سنوات مُحاجا ومُفاوضا. ومن غرائب المنطق الذي يحكم الجدل فيه، أن الكلام الذي تقوله يكون في نفس الآن لك وعليك.. معنى ظاهر يتيم ومعاني متعددة ولقيطة في الباطن تتناسل. وما زلت كلما أحسست بالحاجة إليه وإلى أحكام بويا على الخَلْقِ.. أَشُدُّ إليه الرحال تلميذا راغبا في الجلوس إلى أمام كبار المرجعيات.

الأحد رابع ماي: رفيسة وبحر وعرق

عدتُ إلى الدار البيضاء مساء السبت لقضاء الأحد مع أهل البيت. استفقت في الخامسة إلا ربعا، قرأت فصلا من (ما بعد الكتابة، نقد إيديولوجيا اللغة)، كما قرأت ثلاثة بحوث لطلبة الإجازة. وابتداء من الساعة التاسعة خصصت باقي اليوم للسيد المحترم علاء والفقيرة إلى الله مريم وأختها الكبرى زينب.. وفي الواحدة كان غذاؤنا الرفيسة بناء على طلب جماعي..
بعدما نمت لساعة كاملة، كانت رغبتي في الرفيسة ما تزال قوية.. ركبنا السيارة كما أرادت الفقيرة مريم وقد طلبت ذلك منذ أسبوع بحركاتها في العوم، فاتجهنا نحو شاطئ عين الذئاب بمكان نعتبره ملكنا. لعبنا الكرة وركضنا لأزيد من ساعتين وأثناء عودتنا في حوالي السادسة كانت رائحة الحلبة قاسية علينا وعلى من يقترب منا.. فكان لا بد من الذهاب إلى الحمام، وقد رافقني علاء أما مريم وزينب فستستحمان بالبيت.
في التاسعة والنصف كان الجميع قد أنهى مراجعة دروسه، وإتمام ما تبقى من يوم السبت وهو قليل، ثم خلدنا إلى النوم
.
الإثنين من الأسبوع الأول دائما: الاجتماع المفتوح

أول من يستفيق بالبيت أنا وعلاء، ثم تلحق بنا السيدة الأولى، تليها زينب فيما تتأخر مريم حتى السابعة والنصف.
قرأت فصلا آخر من كتاب (ما بعد الكتابة..) ومقالة عن تاريخ النقود بالمغرب. ثم دونت عددا من الأفكار في خمس صفحات.. وختمت الصبيحة في السابعة والنصف بالاطلاع على البريد الاليكتروني. (اطلاعي على البريد يكون ثلاث مرات في الأسبوع ولا أتجاوز في كل مرة أكثر من نصف ساعة، قراءة وردودا).
في الثامنة والنصف خرجت من البيت متجها نحو الكلية. أنجزت حصة النقد مع طلبة الماستر. وفي العاشرة والنصف حتى الواحدة يبدأ الاجتماع المفتوح بالمكتب. أجلس رفقة عبد اللطيف محفوظ وكل الزملاء الآخرين من المختبر، نستقبل طلبة البحوث والدراسات العليا وبعض الزوار من كليات أخرى... نناقش ونهيئ ونقرر ثم نتشاور بالهاتف مع زملائنا الآخرين من خارج الكلية، أو أتكلف باللقاء معهم في جلسات بالمقهى.
(والاجتماع المفتوح معناه أننا نبدأ أول اجتماعاتنا في بداية أكتوبر ولا نغلقها ألا في نهاية يونيو.. ويعتبره محفوظ اجتماعا واحدا يدوم سنة دراسية كاملة. ولولا إلحاح سَعْد ومَرْيم وسيدته الأولى لجعلنا له الصيف أيضا ملحقا لهذا الاجتماع العجائبي !)
بعد زوال نفس اليوم قدمت حصة في الأدب الإفريقي لطلبة سنة الإجازة، بعدها شاركت في اجتماعين، الأول بمقهى الشاوية بوسط المدينة، والثاني بساحة السراغنة، وكانا لأجل استكمال ترتيبات اللقاءات الثقافية القادمة.

الثلاثاء: رشاقة الجونديير


خرجت من الدار البيضاء مع أول خيوط الفجر متجها نحو سطات، في موعد مع بويا لمباشرة انطلاق عملية الحصاد.
التاسعة صباحا خرجنا متعجلين، كنا أربعة، على متن سيارتي، هاتفت للمرة الثانية أحمد سائق الجوندير"آلة الحصاد"، فأخبرني أنه بعين المكان بلاد النويلة.. لحصاد أزيد من عشرين هكتارا من الشعير.
اليوم كله قضيته وسط حرارة صيف مستعار وغبار الشعير الحارق.. اشتغلت – كما تعودنا منذ الصغر– في حمل الأكياس والتبن، أمر أعتبره جزءا من حبي للأرض وتعبيرا عن الذوبان الحقيقي في الصيرورة.
يوم كامل من الجهد الحقيقي، لا مكان فيه للسرد أو الوصف، غابت فيه النظريات وتلاشى البوليميك الخاوي والعامر والسرديات والمؤتمرات، وقْالِ ليِ وقُلْتْ لَكْ ، وكل ما نلوكه يوميا بدون ملل. تليفونات ترتيبات، آلو الحجمري آلوا الساوري آلو الشريشي آلو عبد الحق، سعيد، وليد، عبد العزيز... نحن في الحقول عراة أمام الله.. إحساس بالطهرانية التي أتلمسها في أعماقي والعنف الداخلي الذي أحسه لم يبرد إلا حينما جيء لنا بقصعة كسكس قبل العصر بساعة.. أكلنا في صمت وبنهم شرس.. لأكتشف أننا لم نغسل أيدينا قبل الأكل ولم نبسمل كما تعودنا.. ولكننا شعرنا (أو بالأحرى، يمكن أن أتحدث فقط عن نفسي) شعرتُ بارتياح فعدتُ إلى البَسْطِ مع الفلاحين بعدما انزوى والدي بعيدا قرب السيارة.
كنا بالبيت في حوالي التاسعة والنصف ليلا... وجدنا أمي قد هيأت لنا عشاء دسما.. كانت غاضبة بود على ما أنا فيه... ارتميتُ بملابسي لأستفيقَ في الصباح الباكر وذهبتُ إلى حمام أقراب.. فعدت إلى رشاقة أحسستُها.

الأربعاء نفسه: أحلام القيلولة

التاسعة صباحا كنا بمقهى بوشتى وجدنا الشيخ العبدوني وعددا قليلا من رواد هذا المقهي الذي يجلس فيه من يحب شرب الشاي المعتق، فلاحون بالأساس وبعض باعة سوق السبت والشناقة، ولم أر مثقفا أو رجل تعليم جالسا هناك.
جلسنا، أنا وبويا وعددا من الرجال نشرب الشاي ونتكلم أو نتفاوض. في الساعة الحادية عشرة والنصف ذهبتُ عند القائد الذي لم أجده لتقديم شكوى باسم محمد بن عبد السلام ضد السلطات التي هدمت لنا حائطا وإسطبلا وردموا لنا بئرا دون وجه حق في أولاد سليمان بالعزيب القديم. عدت أخبرت والدي فأرشدني أن أكلم الأستاذ أحمد نور اليقين، وهو محام مثقف ومستقيم وذو علم قانوني غزير.
في منتصف النهار ترجَّلنا عند العدل بعد مكالمة منه يخبرنا بأن الذين سيبيعوننا أرضا فلاحية مجاورة لأرضنا قد وصلوا.لم نمض عنده أكثر من نصف ساعة.. قُضِيَ الأَمْرُ واسْتَوتْ..
أهم شئ في النهار تلك القيلولة الجميلة بعد وجبة كسكس من دقيق القمح. استفقنا في الثالثة فأوصلت والدي إلى حقولنا حيث توجد ضيعتنا، وهي على بعد خمس كلمترات من مدينة سطات بمنطقة عين نزاغ.
عدت فهاتفتُ "مي فاطنة" وهي سيدة تملك أرضا بأولاد بوزيري، كنا اتفقنا معها أن تبيعها لنا، دون أن تُشعِر الذين تكتريها لهم منذ سنوات.. أو تكشف لهم عن هويتي، ورتبتُ معها أن أرى الأرض ثم تؤسس لها عقد استمرار ملكية.
وصلنا خميسات الشاوية بعد خمس وعشرين دقيقة من مدينة سطات.. توقفنا أمام باب الخيمة، فخرجت امرأة، هي زوجة السيد الذي يكتري الأرض. رفضتُ أن أدخل البيت ما دام لا يوجد صاحبه أو رجل فيه، وقد ذهبوا جميعهم - كما قيل لنا- إلى حصاد حقل بمنطقة نائية ولن يعودوا إلا متأخرين.. فألححنَ عليَّ، وقد قدمتني إليها باعتباري ابن أخيها. دخلت بيتا واسعا ورحبا مفروشا بزرابي تقليدية. الجلوس أرضا بهذه الطريقة نعمة من الله. امرأتان وثالثة ممددة في ركن تجاوز عمرها المائة،كما ستقول لنا مُستقبِلتُنا. تكلمت مي فاطنة معهن وقد صاغت حكاية محبوكة اقتنعن بها ونحن نشرب الشاي ونأكل البطبوط والسمن.. ثم خرجنا فأرتني الأرض وعدنا أدراجنا إلى سطات.
الخميس بالدار البيضاء :يُومَكْ آرَاسِي

قضيتُ صباح يوم الخميس كله في مكتبي بالبيت منذ الخامسة صباحا حتى الثانية عشرة والنصف تكلمت من هاتفي مرتين ثم أغلقته.. سألتُ
في شأن ترتيبات لقاء ثقافي بعد زوال نفس اليوم يتدخل فيه ثلاثة باحثين من الماستر الذي نشرف عليه.
انعقد اللقاء وبعد انتهائنا تكلمنا مع الباحث المكلف بانجاز المتابعة الصحافية للقاء وإرسالها لعبد اللطيف محفوظ من أجل مراجعتها قبل إرسالها إلى عبد الحق وخالد والمحجوب وسعيد (وهو الفريق المكلف بالإعلام في المختبر). خرجنا من الكلية إلى مقهى الحوزية، جلست وعبد الرحمن غانمي نتمم ترتيبات تخص لقاء 23 ماي...
الساعة الثامنة افترقنا. اتجهت نحو ساحة السراغنة. اشتريت جرائد يوم الجمعة وبعض الفاكهة. وضعت كل شئ في السيارة، ثم عدت إلى أمر مهم خصوصا وأني مسافر في الصباح الباكر إلى فاس ثم الشاون.
صرتُ أبحثُ عن حلاق لم يسبق لي أن زرته.. وهي حكاية تَخُصُّني .
كنت قبل سنة 2001 لا أحلق رأسي إلا بمدينة سَطَّات عند عبد القادر، ما وقع بعد هذا التاريخ جعلني لا أسلم راسي لحلاق واحد، وصرت في كل مرة أبحث عن حلاق جديد لا أعرفه ولا يعرفني.
ما وقع، أمر مرتبط بحكومة التناوب التي نُصبت في مارس 1997 حيث كانت انتظاراتُنا كبيرة وطموحة، وأحسستُ مثل غيري، أنه علينا انجاز جزء من وعودنا للمغرب والمغاربة. وبعد ثلاث سنوات من عمل الحكومة.."راب"و"تهدربَ" كل شئ وسقطت أحلامنا في الطاس، وتبين لي أننا كنا سلَّمنا لهم رؤوسنا مثل يتامى/رهائن تعلموا فينا الحكم الحجامة والتفنطيز والتعنتير... أحسستُ بخذلان كبير فلم أجد ما أحتج به سوى الانسحاب من ساحة الحجامة، سنة2001، بعدما أخذت قراري بتحرير رأسي...
وهو أمر قد يبدو فيه نوع من العبث، ولكني أراه منطقيا بالنسبة لشَعري وشُعوري. ولم يحصل منذ تلك السنة أن زرتُ الحلاق الواحد أكثر من مرة.. وسيلزمني أربعمائة سنة إن أنا أردت أن أَمُرَّ على كل حلاقي الدار البيضاء.
تذكرتُ بأنني صُغتُ هذا الاحتجاج بطريقة شبيهة بما فعلت، في روايتي مجازفات البيزنطي، وأنا أصف شخصية العيساوي. قلت في الرواية:
"أصبح العيساوي واحدا من أهم الرواد الأربعة بمقهى بيزنطة، يجيد الحكي وبيع الكلام، وينتقل إلى حرفة أخرى، جوالا بالمدينة والأسواق يبيع الفرح والضحك رفقة جحش مدرب، وبقي حتى أصبح الجحش حمارا غير قادر على لعب الأدوار القديمة التي تعلمها قبل ثماني سنوات، آنذاك قرر التقاعد عن أي عمل، وقد شجعه على قراره هذا تزامن عجز حماره مع إعلان أول حكومة تناوب في المغرب (مارس 1997)، والتي استراح لها العيساوي كثيرا لأنها ستجعل المغاربة جميعا يتحررون من الفقر والخوف والقهر، وتذكر أيضا ذلك المناضل اليساري الذي عَبَّدَ له الطريق للذهاب إلى الهزيمة في حرب 1967، فخمن أن حكومة التناوب ستفتح باب التطوع للجندية إلى فلسطين والعراق.
اكتفى بالجلوس في المقهى رفقة أصدقائه الآخرين يراقب التلفزة ويتابع أنشطة الحكومة ويستمع بإمعان إلى الوزير الناطق باسم الآخرين والى وزير الشغل والى الجميع... وبعد سنتين من الانتظار نطق بحكمته الشهيرة: "قالت الجرانة: هَا ذَا مَا آخُرْ؟ !... لم يعد ينظر أبدا إلى التلفزة، وبدأ يحكي حكاياته وأخبار سلالته." (رواية مجازفات البيزنطي)
انتهى الحلاق من عمله. وقفتُ. نظرتُ في المرآة إلى رأسي. نقدتُه وشَكرتُه في الآن نفسه ثم انصرفت إلى البيت. في الليل كلمت، هاتفيا الحجمري والساوري وغانمي لاستكمال ترتيبات مختلفة.
هذا ما وقع لي مع حكومة التناوب في طبعتها الأولى بدار المخزن، أما ما يجري في هذا الشهر مع حكومة السيد عباس الفاسي، وهي طبعة أخرى عن نفس الدار، ستجعل جميع المغاربة ينتفون رؤوسهم نتفا في مندبة لا تنتهي.

الجمعة:الطريق إلى فاس


شوقي إلى مدينة فاس يعطيني الإحساس بأنني معتمر إلى مكان عزيز.كنت زرت المدينة للمرة الأولى سنة 1983، أما المرة الثانية في هذه، استفقت لها في الخامسة إلا ربعا، وخرجت من البيضاء رفقة الشريشي ومحفوظ في اتجاه مدينة فاس، عبر الطريق السيارة. وفي الثامنة والربع وصلنا فندق نزهة الموجود بساحة الأطلس. تناولنا وجبة الفطور ثم توجهنا إلى كلية ظهر المهراز حيث ستبدأ أشغال ندوة "المغرب في نصوص الرحلات الغربية" والتي سَهِرَ عليها الصديق والباحث عبد المنعم بونو.. وهناك التقينا بعدد من الأصدقاء.
كانت ندوة ممتعة في جلستين، صباحية وزوالية، تعرفت خلالها على نصوص وأصدقاء من تخصصات مختلفة، كما تعرفت على نص رحلي لكاتب كولمبي اسمه لويس كاردوزا زار مدينة طنجة سنة 1927وهو في العشرين من عمره، مؤلفه بعنوان "فاس مدينة العرب المقدسة" والذي نُشر لاحقا بغلاف يحمل صورة الكاتب وهو يدخن السبسي. وقد قدم عنه الأستاذ سعيد سبيعة ورقة مهمة مما جاء فيها قولة للويس كاردوزا، وهي عبارة عن اعتذار شبيه باعتذارات شعراء الملحون في خواتم قصائدهم:
"السفر بالنسبة لي بمثابة انفجار فكري وعاطفي (...) ودنيئ أن تسافر من اجل أن تكتب فقط".
ما زالت آثار احتفالات 12 قرنا على تأسيس فاس.. بادية للعين والخيال. وعَبْرَها رأيتُ ثلاثة أحداث حاسمة في تاريخ سلالتي لها علاقة بهذه المدينة.
الأول في ذهاب جدنا الأول مؤسس الشاوية الحديثة، علي الشاوي، قدس الله روحه إلى فاس سنة 1768 ومنها جاء حاكما أزليا على الشاوية.
ثانيا ويتعلق بجدنا خليفة الشاوي الذي كان من أعيان المزامزة الكبار. قرر الذهاب إلى فاس، وكان ذلك سنة 1873، طالبا المصاهرة من أحد الأعيان في ابنته.. عارضا عليهم الاموال والضياع.. فرفضوا عروضة وقبلوا تزويجه الدرية شريطة الا تكون لها ضرو، وان يتكفل جدي خليفة، بفرقة موسيقية للملحون تكون في خدمة ابنتهم.
شرط مجنون، علم في ما بعد انه كان طلبها من أجله أساسا وليس من أجلها. فقد أسكن الفرقة الموسيقية ببيت قريب وتحمل أكلهم وشربهم وأجر أسبوعي. مهمتهم تأدية أغاني في الملحون كل يوم مرتين، بعد الظهيرة وبعد العشاء، يجلسون بلباسهم الرسمي في بهو الرياض والسدة الاولى لجدي رفقته في غرفة علوي لها شرفة من أرابيسك الموشرابي.. يستمعون في استرخاء وقت الظهيرة وجلوسا بعد العشاء .. ويُحظَر على أي كان ،وسط الرياض بِخُصته الفيحاء، أن يرفع رأسه.
ثالثا هو أمر يتعلق بي شخصيا.

يوم السبت، الشاون تستكمل الدورة.


ودعنا جبل تْغَاتْ وجبل زلاغ. وتركنا فاس خلفنا مبللة بأمطار مثل غزل شفاف. أمطار ستفاجئنا قوية في كل مراحل رحلتنا إلى الشاون خلال أزيد من أربع ساعات.. مررنا خلالها على عشرات الأودية والجبال، قبل أن نصل إلى مدينة وزان.
استرحنا لساعة فيها ثم واصلنا سيرنا، نحن الأربعة (انضاف إلينا عبد الرحيم مؤدن) حتى طالعتنا رائحة سحرية من جبل طالع من جبل تمسد رأسه /أو رؤوسه أبخرة ضباب يتثاءب..
قضينا النصف الثاني من يوم السبت في الندوة وفي ضيافة شرف الدين ماجدولين، ثم انتقلنا إلى جزء من جنة محمولة على جبل في فندق دار الشاون.. سهرنا حتى منتصف الليل نتعشى ونتكلم رفقة الأصدقاء الذين شاركونا في الندوة.
صبيحة الأحد تجولنا قليلا في المدينة القديمة بالشاون قبل أن نشد الرحال من جديد نحو الدار البيضاء.

ما تبقى من أيام الشهر


شهدت الأيام الموالية عدة أحداث. فقد عدتُ والصديق العزيز محمد عطيف إلى عقد جلسات متواصلة أصدرنا خلالها عددا جديدا من جريدة السي دي تي..كما حضرتُ ترتيبات الإضراب الوطني العام الذي دعت إليه المركزية النقابية الكونفدرالية .د.ش يوم 21 ماي وعرف تحولا في الحياة اليومية والإعلامية والسياسية .فعدد من الجرائد تضاربت تقييماتها، أما حكومة عباس الفاسي فإنها دعت من خلال مركزية نقابية أخرى إلى محاربة الإضراب وجعله يوما وطنيا للعمل.
في هذا الصدد قال لي احد الأصدقاء النكتة التالية في الموضوع : يوم الأربعاء 21، صادف أن كان السيد عباس الفاسي، الوزير الأول بمدينة مراكش وأثناء تفقده للحركة بجامع الفنا التقى بشاب مراكشي وسيم.
قال عباس:كِِيفْ عَاملْ آوَلْدِي. يَاكْ انْتَ اليوم خَدَّامْ؟
قال الشاب المراكشي باحترام وتقدير: نعم آسعادة الوزير الأول. أنا خدام اليوم ودائما.
قال عباس: الله يرضي عليك آولدي. وفاش أنت خَدَّام.
قال الشاب المراكشي الوسيم بنفس الاحترام: خَدَّام آسيدي في المرسى ديال مراكش ؟
تعجب السيد الوزير الأول عباس الفاسي وقال مستفسرا ومستنكرا: وهل توجد مرسى وبحر بمدينة مراكش؟
غير الشاب من لهجته وقال بدوره مستنكرا بصوت مراكشي: واشْ كايْنَا آسيدْ الوزير الخَدْمَا في مراكش حْتىَ تْسَوَّلْني؟
يوم الجمعة 23 عقدنا مائدة مستديرة نقاشية حول الخطاب النقابي بالمغرب، شاركتْ فيها خمس نقابات بالمغرب.



 
  شُعَيب حَلِيفِي (المغرب) (2008-06-12)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

مُذَكِّّراتُ كاتب-شُعَيب حَلِيفِي (المغرب)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia