المخزن و الصبي و القصبة-محمد مباركي-وجدة- المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

المخزن و الصبي و القصبة

  محمد مباركي    

مع تلك الغيمة اليتيمة في كبد السماء ، سرح خيال طفل صغير  كسديم كوني قي ثنايا حكاية وقعت، كان هو بطلها . كان يلعب بكرة صنعها من القش . يقذفها  إلى حائط مبني من الطوب ، حتى أسقطت جزءا من قناع شيخوخته الموغلة في القدم . ترك الصبي الكرة و راح ينظر إلى الجزء الغائر فيه . أدخل سبابته بحذر شديد .. لامس شيئا .. عالجه يمينا و يسارا حتى تململ في موضعه .. وجده قصبة . سحبها ببطء
 و أخرجها .. جرى بها إلى أمه متعثرا في سرابيل الدهشة و هو يصرخ :
- أمي ..أمي ، أنظري .. وجدتها مخبأة في الحائط .
وضعت الأم ما كان بيدها من غسيل جانيا ، و تلقفت القصبة . فحصتها بعينين زائغتين ، و قربتها من أذنها و حركتها عدة مرات .. لم تسمع شيئا فردتها إلى الصبي و أمرته أن يعيدها إلى مكانها ، لكنه رجاها أن يبقيها ليلعب بها .. فسكتت . و في سكوتها كل الرضا .
 خرج الصبي إلى الزقاق ، و نسي القصبة في يده و راح يقذف  كرة القش إلى الحائط و الحائط يردها إليه في تراخ .. تسلى بالرد .. رمق والده عائدا من العمل .. تغافل عن الكرة و الحائط و جرى إليه . عانقه
 و أراه القصبة .. أخدها الأب بفتور .. تأملها و أعادها إلى الصبي . و الصبي يريد أن يسأله أبوه  أين عثر عليها .. لم يفعل . قال الصبي :
- وجدتها مدسوسة في الحائط .
رد الأب مواصلا السير و قد هدّه التعب  :
- جيد .. جيد .
قالها ليتخلص من إلحاح الصبي ، لكن الصبي تشبث  بتلابيبه  حتى دخلا المنزل . أسرع الأب إلى الميضاء . توضأ و صلى ما فاته من صلوات ، و الصبي ينظر إلى القصبة تارة و ينظر إلى حركات والده تارة أخرى متعجلا أن يفرغ من ركوعه و سجوده ، لكنه أطال . جرى الصبي إلى الخارج . رأى الصبية في رأس الدرب فناداهم .. تحلقوا حوله .. أراهم القصبة و حكا لهم قصتها . زاغت أعينهم الصغيرة في لونها الأصفر الباهت و الشقوق الرقيقة التي صنعها زمن الاختباء في حائط الطوب المفجوع بتراكم الازمان . بناه الجد  ب " المَرْكَزْ " و هي طريقة تعود إلى القرون الغابرة . ساخ جزء منه في شتاء مطير و تهدمت فيه عدة دور مماثلة و مات ساكنوها .
نادت الأم على الصبي بصوت مرتفع . ترك الصبية في حيرة من القصبة و جرى إلى المنزل . طار الصبية بخبر القصبة إلى أمهاتهم . خرجت النسوة إلى الزقاق و تحلقن حول الحيرة .
 قالت الأولى  " في القصبة جدول سحر" . وافقتها  الثانية و قالت " أجل فيها امديرة " . قالت الثالثة " فيها فلوس " . قالت الرابعة " فيها وصية " . قالت الخامسة " فيها خريطة كنز " . و قالت السادسة " الله أعلم بما فيها " .
مر شيخ الحومة بالنسوة و سألهن عن هذا التجمع غير المرخص  به . أجابته إحداهن :
- ألم تعلم بالخبر ؟
صرخ فيها مستعجلا :
- أي خبر ؟!
- وجد ولد الغالية قصبة مدسوسة وسط الحائط .
همهم الشيخ بينه و بين نفسه " قصبة مدسوسة في الحائط ؟ ماذا يكون قد وجد فيها ؟ . هرول إلى  دار القايد و التساؤلات تتسايل كالعرق على صدغيه و قد ربطها بالتعليمات القادمة من الحضرة العلية
" فاس " . لما جف معين بيت المال من العملة الذهبية و الفضية أمام النفقات اللا متناهية للسلطان
 و بطانته الفاسدة من وزراء و أمناء المراسي و جباة الضرائب  و عمال و قواد . أطلق المخزن يد خُدامه في البلاد يُنَقرون عن كل عملة لها قيمة في ذاتها و يسلبون مالكيها  بالقوة .
اقتحم الشيخ على القائد مجلسه . فنهره بقوله :
- ألا ترى أننا في ..
قاطعه الشيخ بجرأة زائدة و ثقة عالية بالنفس جاحظا  عينيه :
- الأمر أكبر من الاجتماع .
دفع القايد الشيخ أمامه إلى الخارج مستفسرا بكل أطراف  جسده :
- ما الأمر؟ زيارة مفاجئة ؟ زلزال ؟ سلاح ؟ عصيان ؟ ما الأمر؟
رد الشيخ بإشارة من يده مطمئنا القايد الذي شعر بحبات العرق باردة تنزل على صدغيه المحمومين :
- أحد الصبية وجد  قصبة في حائط ا لا ندري ما فيها .
- أسرع بالقوة و واتني  بالقصبة و الصبي و والديه .
أسرع الشيخ و في عقبه ثلاثة مخازنية يلهثون و يتخابرون حول الموضوع حتى وصلوا إلى رأس الدرب إذ وجدوا النسوة الست لازلن في اجتماعهن . أمرهن الشيخ بالانصراف . لم يعبأن بأمره و أصررن على معرفة الحقيقة التي دائما تجري على يد المخزن الشريف .
طرق الشيخ الباب بقوة . فتحت " الغالية " الباب ، و صكت وجهها لما شاهدت الشيخ و المخازنية  بالباب . تراجعت و نادت على زوجها . خرج مسرعا . أمره الشيخ أن يتبعه  وزوجته و ابنه إلى دار القايد
 و ألا ينسى القصبة و أن يتركها كما هي .
وقف الجميع أمام القايد الجالس على كرسيه الأربيسكي . قال لهم محذرا :
- القانون فوق الجميع . و القانون يقول " ما فوق الأرض و ما تحت الأرض  فهو لمخزن سيدنا أدام الله عزه ".. هاه .. أعطني القصبة .
انتزع الزوج القصبة من يد  ابنه و أعطاها للقايد الذي تفحصها برهة و حركها قرب أذنه اليمنى .. انتزع سدادتها برفق و أدخل سبابته و أخرج ورقة  ملفوفة برفق شديد مخافة تمزيقها . فتحها و بدأ يتهجى ما كتب عليها . ثم رفع عينيه و ركزهما على الشيخ و قال له :
- أنت ملعون .
خرج الشيخ متجوفا  اللعنة دافعا الجميع أمامه ، يتعثرون  في أسئلة لا حدود لها عن الورقة و ما حوت .
و بعد يومين جاء خفير على بغلة شهباء ، برسالة من عامل الجهة ، جاء فيها :
 " إلى القايد حمو .
 أسرع بالحضور إلى الحضرة صحبة الشيخ الجيلالي و معك القصبة و ما حوت.
 و السلام ."



 
  محمد مباركي-وجدة- المغرب (2010-09-06)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

المخزن و الصبي و القصبة-محمد مباركي-وجدة- المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia