لما تلظـّت نار الحرب التحريرية في القطر الشقيق، نهاية الخمسينات، هاجرت الكثير من الأسر الجزائرية إلى مدن شرق المملكة الشريفة هاربة من جحيم المستعمرين الفرنسيين . لم يسكنوا خياما ، بل سكنوا دورا ، على بساطتها ، احتموا فيها من الجوع و البرد و الرعب.
ومن الأسر المهاجرة أسرة سي العربي ، بهذا الاسم الحركي كان معروفا . و اسمه الحقيقي
" بوعلام بن قدور المهاجي " ، من نواحي مدينة سيدي بلعباس . تعلم فكّ الحروف العربية و حفظ بعض سور القرآن الكريم في كتّاب قرية " ديتري " . و دخل المدرسة الفرنسية مع أبناء الأهالي ، فكان يتكلم اللغة الفرنسية بطلاقة كلغته الأم . تميز من بين المهاجرين بدماثة الخلق و بسحر شخصيته المحبوبة المؤثرة على الخلق.
كان سي العربي مطلوبا من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي بتهمة العقل المدبر و المنفذ لمجموعة من العمليات أودت بالكثير من جنود اللفيف الأجنبي في سيدي بلعباس . فهرب سالكا " طريق الوحدة " من
" بور صاي " إلى السعيدية . و نزل ضيفا على خاله بوجدة . استطيب المدينة و أهلها ، و طلب من أعضاء " الخيط " أن يلحقوا به زوجته و أبناءه ، لما جاءته رسائلهم تحكي معاناتهم من التضييق الشديد عليهم من قبل المستعمرين و أعوانه من " البياعة ".
اكترى سي العربي غرفة في حوش " يامنة بنت الطاهر " بحي الطوبة الخارجي . كان هذا الحوش مبنيا بطريقة تقليدية ، من سبع غرف بالحجر الكلسي و التراب مسقفة بالخشبة و القصب . يتوسطه فناء مربع ينتهي بدخلة و ميضاء مشتركة و باب خارجي يظل مفتوحا نهارا و جزءا من الليل . سكنت هذا الحوش المُعَدَةِ غرفه للكراء ست أسر إضافة إلى صاحبته العجوز.
لما اكترت أسرة سي العربي غرفتها في الحوش لاحظت صاحبته و الجيران تلك الحالة البئيسة للقادمين الجدد . استنفرت يامنة بنت الطاهر الجيران داخل و خارج الحوش للقيام بالواجب . و الواجب هنا في مثل هذه الأحياء الشعبية هو مد يد المساعدة للغرباء ، تبدأ بإطعامهم . فكل جار يكفي الأسرة طعام يومها على الأقل في أسبوعها الأول . و يأتي الجيران بما فضل عليهم من أفرشة و ملابس و أواني و بعض النقود . من ليلتها أمست أسرة سي العربي مكفية و انستر حالها و سُرّ أفرادها .
عمل سي العربي كسائق تاكسي على الخط الرابط بين وجدة و بركان . و ساعده عمله هذا على التحرك اليومي على طول الحدود و التنسيق بين أعضاء " الخيط " في المنطقة . كان يعمل ليل نهار وفي رأسه ألف مشكلة و مشكلة ، مما أثر على اهتمامه بأسرته . لبس قضية وطنه لبوسا و عمل على تصديرها إلى قلوب الناس . كان يردد على جلسائه و ركابه لازمة استجداء بلكنته الجزائرية " خاوتكم راهم فالنار" . فتحن قلوب الناس و تجود بالمكتوب . يجمع سي العربي الفرنكات و يوزعها على الأسر الجزائرية الحديثة العهد بالهجرة إلى وجدة . كان قلبه مدينة بحالها ، سكنتها محبة العباد . تجوع أسرته و لا يمكن أن تجوع أسرة جزائرية فطمها الاستعمار عن وطنها .
لما تحسنت حاله ،اكترى سي العربي لأسرته حوشا مستقلا في ذات الحي بأمر من أعضا " الخيط " الذين كانوا يتنقلون ليلا من غرب الجزائر إلى وجدة . يجتمعون و يتدارسون القضايا و يخرجون بقرارات و يبلغون أخرى ، و قبيل الفجر يعودون من حيث أتوا أو يبيتون في سرية و مع الظلمة ينسحبون .
كان المخزن يعلم بتلك الاجتماعات و نشاطات سي العربي عبر عيونه من الشيوخ و المقدمين ، و لم يكن ليتدخل ، بسبب ذلك التعاطف الكبير مع الثورة الجزائرية . لكن الذي حيّر المخزن و الناس في وجدة تلك الجريمة التي ذهب ضحيتها سي العربي في مكان على الحدود يسمى " الديوانا " ، إذ عثر بعض الرعاة على جثته في صباح ممطر.
علم المخزن أن في تلك الليلة الظلماء ، و مع منتصف الليل أنهى أعضاء " الخيط "اجتماعهم في عجالة ، و طلبوا من سي العربي على غير عادتهم اصطحابهم إلى " الديوانا " لمقابلة أحد قياديي الجبهة .
لم يستسغ سي العربي الأمر و لم يَدُرْ في خلده الغدر أبدا من قبل من اعتبرهم طول حياته " خاوا " .
و ازدادت شكوكه مع همهمات الرجال طول الطريق . فكر أكثر من مرة في الإفلات منهم لكن شجاعته ابتلعت تلك الرغبة في عناد الكبراء .
وقف الجميع أمام شبح رجل قصير متدثر في جلباب قصير يغطي رأسه و وجهه بعمامة . هبّ سي العربي لمعانقة الشبح على عادة " الخاوا " ، لكن الشبح تراجع خطوة إلى الوراء و استل مسدسا من تحت جلبابه و ضغط على الزناد ، فخرجت رصاصة شرسة عمياء خرقت الجهة اليسرى لصدر عريض حمل قلب رجل نسي مؤرخو الثورة ذكر اسمه في مسودات " كِذابــــــــاتهم " .