قراءة في ديوان مرافئ السراب"للشاعر د. لطفي زغلول :-د. مصطفى عطية جمعة - فلسطين
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

قراءة في ديوان مرافئ السراب"للشاعر د. لطفي زغلول :

  الشاعر لطفي زغلول    

         -   فلسفة الحياة ، وعبق الانتماء ، وتجليات الشعرية

                  - قراءة تأويلية في البنية والتشكيل الجمالي
   يطالعنا الشاعر لطفي زغلول في هذا الديوان بقراءة جديدة للتجربة الحياتية والرؤية الشفيفة لأحوال الوطن وقضايا الإنسان . ولأن الشاعر من أرض فلسطين الغالية علينا ، فإن كل التداعيات التي ترتبط بفلسطين : القضية / الأزمة / المقدس/ الإنسان ، تتداعى في أعماقنا ، فكون شاعرنا من فلسطين ، يجعل حضور القضية فاعلا في تلقي النص ، وكونه يعيش على أرض فلسطين ، متمسكا بها هوية وإقامة وعملا وعطاء وإبداعا ، يعطي المسألة بعدا أعمق ، إنه بعد الانتماء ، ففرق أن يكتب شاعر عن قضيته خارج الوطن ، وبين أن يكتب آخر عن القضية وهو غائص حتى الثمالة في أزمة الداخل الفلسطيني ، واعتداءات المحتل الصهيوني ، ومراوحة الأمور مكانها .
نرى في هذه التجربة الإبداعية ، نضج لطفي زغلول ، وهذا النضج يتأتي على مستويات عدة ، تتصل بعطائه الإبداعي ، ومنظوره وفلسفته في الحياة ، وهنا نجدها مكتملة الأبعاد ، بالنظر إلى سن الشاعر ، وتجربته الحياتية والإبداعية، ورؤاه الفكرية والفلسفية ، مما يجعلنا نضع هذا الديوان في قمة التوهج الإبداعي في مسيرة لطفي زغلول . إن للنضج مستويات ، وللتوهج علامات ؛ يمكن أن نبسطها في ملامح عدة :

أولها : تناغم الرؤية الكلية مع المعطيات النصية:

ويبدو هذا في تأمل الذات لحصاد العمر وتجربته ؛ وهذا يظهر في صهر تجربة الحياة ، بعدما عرف الشاعر عشرات الطروحات الفكرية ، ورأى رايات ترفع لتحرير الوطن ، وحل القضية ، وظل كل شيء مكانه : الوطن والقضية ، وازداد الإنسان تعاسة على تعاسته ؛ فالعمر يزوي ، والأيام تتشابه ، وكما يقول :

وها هو فصلُ الكهولةِ
تسقطُ أوراقُهُ .. تتثاءبُ أحداقُهُ
ورياحُ الشمالِ
تعربدُ أنفاسُها .. لا تبالي
وتأمرُني .. أن أشدَّ رحالي . ( ص15 )

الحياة مثل السنة ، والعمر كفصولها ، وعندما تكون الكهولة ، متساقطة الأوراق، متثاءبة الأعين ، فهي دال على فصل الخريف ، الذي هو نهاية السنة ، وآخر حلقات دورة الطبيعة ، إذن فهو دال على نهاية العمر . وتصبح الأوراق رامزة لأيام الحياة ، والأحداق علامة على تأمل الذات لتجربة الحياة وفصولها ، ولفظة " الأحداق" تشي بأن الذات الشاعرة تحدّق متمعنة في أيامها المتساقطة . هنا شفافية الذات وهي تعلن أن لا أمل في الاستمرار ، ويكون الترحال نحو غروب الذات عن الوجود ، ولا يشترط دلالة الموت ، بقدر ما هو طرح فلسفي عن جدوى الاستمرار في الحياة ، مادامت " رياح الشمال " معربدة ، والشمال يعني الكثير ، ويمكن تأويله على الغرب الأوروبي والأمريكي ، الذين تضافروا في غرس نبتة الصهيونية في أرض الوطن الفلسطيني . ويقول شاعرنا في مراجعته الذاتية :

وما زلتُ في شرفةِ الإنتظارِ
أسائلُني .. هل يجيءُ الذي لا يجيءُ
وما زلتُ يسبحُ بي
في بحورِ الخيالِ .. خيالي
ويلهثُ خلفَ السرابِ سؤالي ( ص17 )

إنها كلمات تقطر شاعرية ، فقد بات حلم الحرية والتحرير للوطن والإنسان والأمة مجرد سؤال ، بعدما كان مشروعا ؟ هذا السؤال يضيء دلالة مهمة في الديوان كله ، فقد أغفلت الذات الشاعرة ملامح الحلم ، وتشكيلاته ، وهذا ما كنا نجده في شعر المقاومة ، وبات هذا الجيل الذي هتف كثيرا لشعارات ورايات عدة، يؤمن أن الحلم صار منزويا ، وبهتت ملامحه ، وتداعت معطياته ، فاختزل الحلم إلى سؤال ، والسؤال بسيط واضح : " هل يجيءُ الذي لا يجيءُ ؟ " فهو يحمل النفي مقدما في طياته . ومن ثم أصبح السؤال سرابا ، وهذا مفتاح الرؤية الكلية في الديوان ، تلك الرؤية التي حملها عنوان الديوان " مرافئ السراب " فهو عنوان يحمل تناقضا يصل إلى حد النفي والعدمية ، فالسراب رؤية الماء في الصحراء ، فإذا وصل إليه العطشان وجده جفافا ، يكوي الذات حرقة وعطشا ، وهنا نجد أن الإضافة بين لفظتي " مرافئ والسراب " إضافة تعطي دلالة الضياع للمكان ، وفقدان الرؤية في الطريق ، لأن السراب معلوم مقدما ، وليس في الطريق محطات / مرافئ ؛ يمكن أن يرتكن إليها الإنسان .
وتتواصل الرؤية حيث تصبح الذات الشاعرة مسافرة منفية مغتربة :

متى يترجّلُ هذا المسافرُ
عن صهوةِ النفيِ والإغترابْ
إلى أين تحملُهُ الذارياتُ
وهذا المدى أبحرٌ من يبابْ  . ( ص27 )

فهذا المقطع يتناغم مع الرؤية الكلية للتجربة ، ويتأتى التناغم من عنوان القصيدة "المدارات سراب " ، فهو تناغم لفظي مع عنوان الديوان ، بتكرار لفظة سراب ، ولكنها تتعمق بنظرة كونية حيث تأتي لفظة سراب خبرا للمبتدأ "المدارات" حاملة دلالة التوكيد المتولد عن الإسناد في الجملة الاسمية ، والمدارات تحيلنا لفضاء كوني ، كونِ الذات الشاعرة التي وجدت أن رؤيتها تتخطى المكان والإنسان والزمن ، ليصبح الرؤية عبثية تشمل الحياة والعمر . وفي المقطع السابق ، نجد السؤال أساسا في تشكيل مطلع النص ، وهو يتلاقى مع السؤال الاستفهامي " هل يجيءُ الذي لا يجيءُ ؟ " ، ولكن السؤال يأتي بدلالة الزمنية : " متى يترجّلُ هذا المسافرُ ... ؟ " وتعطي " متى " دلالة الزمن في المستقبل ، وعندما نقرأ ختام السؤال : " عن صهوة النفي والاغتراب " ، ندرك أن الدلالة معلقة ، عدمية ، فالنفي والاغتراب لفظتان معبرتان عن فقدان الوطن (المكان والهوية ) . ولننظر جيدا إلى طبيعة الصورة في هذا السؤال ، إنها صورة منتزعة من أعماق تراثنا ، فالعربي مرتبط تاريخا وثقافة بالجواد / الفرس ، فكأن الشاعر يعبر عن فقدانه للعروبة التي تغنينا بشعاراتها كثيرا ، وبات العرب مشغولون عن فلسطين : المقدس والإنسان والقضية .

الثاني : تناغم الفضاءات النصيةوالعناوين مع الرؤية الكلية :

 اكتسى الفضاء النصي في الديوان بالرؤية الكلية ، ويبدو هذا في بنية التقسيم الذي شمل القصائد ، وهذا واضح في عنونة الفضاءات ( الأقسام ) التي جاءت على النحو الآتي : " قصائد بلا وطن ، خلف ظلال السراب ، نهارات بلا شمس ، قصائد في الزمن الضائع " . هي تؤكد نفس دلالة العنوان ، والدلالة الإجمالية للديوان ، إنه ملمح غاية في الأهمية ، لأننا أمام تجربة مكتملة الطرح والرؤية ، لا يكاد نص ينبو عنها ، وبعبارة أخرى ، فإن نصوص الديوان تعزف جرحا واحدا ، بأوتار مختلفة . في الفضاء الأول : " قصائد بلا وطن " ، تأكيد على أن الوطن لا يعني مكانا فحسب ، إنما هو نص / قصيدة فقدت موطنها ، أي هويتها وانتماءها . وفي الفضاء الثاني " خلف ظلال السراب " يكون هناك تماه بين عنوان الديوان ودلالة نصوص هذا الفضاء ، وهو يحمل النفي والتناقض بدلالة مبدعة ، فإذا كان السراب مجرد حيلة ضوئية من الشمس لا وجود لها على الواقع، فكيف يكون للسراب ظلال وهو منفي الوجود ؟
وفي الفضاء الثالث نهارات بلا شمس " ، نرى استخدام المفردات الكونية في تأكيد الدلالة النصية ، فالنهار والشمس مفردتان كونيتان ، وحيثما تكون الشمس ، يكون النهار ، فإذا وجدنا نهارا دون شمس ، هذا يشابه قولنا : ضاءة بلا مصباح ، أي الإظلام ، فنفي الشمس عن النهار يعني الإظلام ، وهذا يعطي رؤية كونية لنصوص الديوان .

وفي الفضاء الرابع " قصائد في الزمن الضائع " ، ونلحظ أنه يكمل الدلالة في الفضاء الأول ، فإذا كانت القصائد فقدت الوطن / مكانا ، فهي تفقد الزمن أيضا ، وبذلك تكون الرؤية مكتملة الطرح ؛ تشمل المكان والإنسان والكون والذات .
ونفس الأمر نجده في عنونة القصائد ، ويكفي أن نستعرض أبرز عناوين النصوص لنلمس التناغم واضحا ، ولنذكر بعضا منها :
( وطن غدا خيمة ، يغتالك الانتظار ، الليل أصبح منفى، نحر الصمت أيامه ، ارتحال الحساسين ، كيف أعود إلى محرابي ، كان ... صهوة كبر ، صار النوار يبابا .)
   فالعناوين تشي بدلالات مشتركة ، منها : الفقدان ، النفي ، الاغتراب ، اليباب/ الجفاف ، الارتحال ، الاغتيال ، الانتظار . وهي دلالات متناسقة مع فضاءات الديوان ، والرؤية الكلية التي تطرحها النصوص .

الثالث : تناغم المفردات النصية مع الرؤية الكلية :

ونعني بالمفردات النصية : الرمز والصورة والمفردة والتعبير ، حيث نتلمس قاموسا شعريا مشترك الملامح والدلالات . يقول في قصيدة " العطش الأفعواني"

الثعابينُ .. تختالُ زهواً غروراً
تلوِّنُ بالنارِ أعراسَها
ينزفُ العشقُ بينَ يديها
جراحاتُهُ مطرٌ سادرٌ في شآبيبِهِ
الثعابينُ لا تعرفُ الإرتواءَ
جنونٌ هوَ العطشُ الأفعوانيُّ
........
تئنُّ الأفانينُ .. تصرخُ أينَ الحساسينُ
هل نحرَ الهولُ إحساسَها . ( ص28 )

هذا مقطع غاية في الشاعرية والشعرية ، فالثعابين رمز كل ما هو شر ، وهذا الرمز يضرب في أعماق الثقافة الإنسانية ، وهنا نجد رمزين على التضاد : الثعابين والأفانين ، الأول حيواني زاحف سام قاتل ، والثاني نباتي رقيق مثمر ، وهذا جديد ، أن نجد الضدية الدلالية : حيواني ، نباتي . وقد اكتسب الرمزان دلالات إنسانية ، فالثعابين تحمل القبح والسوء ، وبالنظر لرؤية الديوان الكلية ، تشمل الصهيوني ، والعربي الخائن ، ومن باع القضية . والأفانين ، تشمل الأرض التي تنبت الشجر ( الوطن ) ، والإنسان الطيب الذي يغرس الشجر ، ويرعاها ، وأيضا من يحمل الأغصان لتكون سلاحا ضد محتل أفاك . " العطش الأفعواني " ، عنوان النص ، وهو أيضا جزء من المقطع ، دال على سرمدية الشر ونهمه ، الذي لا يعرف حدا ، لذا جاء العنوان مؤكدا عليه ، مدينا لفعله . أما لفظة " الحساسين " فهي تعمق دلالتها التي وردت في نص آخر ، حيث يقول شاعرنا في نص " ارتحال الحساسين " :

كانَ سربُ الحساسينِ
يصدحُ آياتِ أشواقِهِ ليلةً ليلةً
كانَ يعشقُ هذا المدى. ( ص19 )

الحساسين طيور تزقزق بالسلام والأمن في الوطن ، رمز يكمل دلالة الأفانين ، وهي الوجه الآخر له ، فالطيور تغرد وتعيش وتحيا على الأغصان . وهذا يؤكد ملمحا في تجربة لطفي زغلول : تكرار المفردات النصية وتعميق دلالاتها ، في الديوان الواحد مثل لفظة الحساسين ، وفي تجربته الشعرية كلها كما في استعماله اللون الأخضر بكثرة ، ويعمق من وجه آخر التناغم النصي ، بتناغم المفردة والرمز في نصوص الديوان ، ونصوص التجربة الشعرية كلها .
ويقول شاعرنا أيضا :

كانَ يشدو على فننٍ
من أفانين هذا المدى
لم يكدْ شدوُهُ يعتلي صهوةَ العشقِ
حتّى ترجّلَ .. غابَ زماناً
تدثّرَ طوعاً بغيرِ عباءتِهِ
لم يعدْ ذلك الطائرَ
المتزيّي بثوبِ براءتِهِ

   الأفانين هنا ، تكتسب دلالة جديدة ، دلالة المدى ، الزماني المكاني ، ونرى في هذا المقطع تأكيدا في الفرضية المتقدمة ، فالشاعر يكسي ألفاظه معاني جديدة، في سياقات نصية جديدة ، وهي معان لا تتنافى مع بعضها ، بل تتكامل . ونفس الأمر نجده في الصورة ، كما يقول : " لم يكدْ شدوُهُ يعتلي صهوةَ العشقِ" فاعتلاء الصهوة ، تستدعي مقولته التي مر ذكرها وهي : " متى يترجّلُ هذا المسافرُ عن صهوةِ النفيِ والإغترابْ " ، وهنا لا نجد أي تضاد دلالي ، بل تجانس واضح ، فاعتلاء الصهوة مضاف في الأولى إلى العشق وفي الثانية إلى النفي ، وفي كليهما يستدعي تراث العربي الذي يجيد اعتلاء صهوة الفرس .
                                   *****
 
تستوقفنا بعض النصوص ، نرى فيها كثيرا من المباشرة ، وخطابية تدين الواقع ، كما نرى في نص " هو السلام .. وحده " ، حيث نقرأ :

وقيلَ لي في نشرةِ الأخبارْ
هوَ السلامُ وحدَهُ
لا غيرُهُ الخيارْ
وإنّهُ الطريقُ .. حتّى آخرِ المشوارْ
وقيلَ لي .. إن صفعوا الخدَّ اليمينَ
أدرِ اليسارْ
إغفرْ لهم .. فاللهُ من أسمائهِ الغفّارْ

يفارق هذا المقطع – كبنية نصية وجمالية – أسلوبية الشاعر نصوص ديوانه، فهناك خطابية واضحة ، ولكن مع التأمل في بنية النص ، نجد أنه مفتتح بلفظة "وقيل لي .. " ، وهذا يعني أنه ينقل ما تردده أبواق الدعاية العربية ، ومطبلو الأنظمة التي سالمت المحتل ، وسلمته القضية ، وباركت له الأرض ، وبالتالي فإن الخطابية هنا ما هي إلا سخرية شعرية من مقولات الدعاية العربية ، وهي مقولات وجدت من شيوخ السلطة تأييدا ، في المسيحية " إن صفعوا الخدَّ اليمينَ
أدرِ اليسارْ " ، وفي الإسلام : " إغفرْ لهم .. فاللهُ من أسمائهِ الغفّارْ " ، إنها إدانة لتحالف السلطة مع علماء الدين .

                              ********
إن تجربة لطفي زغلول في هذا الديوان غنية الدلالة ، عميقة الطرح ، متناغمة الإيقاع والرؤية ، تثبت أن توهج الإبداع يزداد بحنكة الأيام ، وعبق السنين .



 
  د. مصطفى عطية جمعة - فلسطين (2010-10-29)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

قراءة في ديوان  مرافئ السراب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia