العتيق... عقيق-إبراهيم البوزنداكي - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

العتيق... عقيق

عندما دخل لأول مرة إلى الشركة لفت الأنظار بشدة بسبب ملابسه. كانت عبارة عن جلباب من ثوب براق أخضر اللون يكاد يكون حريرا وقلنسوة من الثوب نفسه، وبلغة لا هي خضراء ولا هي صفراء. نظرنا إليه جميعا مستغربين وهو يتجه إلينا يسلم علينا الواحد تلو الآخر. كان مهذبا وودودا بصفة أرتني الحقارة التامة في تصرفاتي،  كلامه نم عن ثقافة واسعة وإدراك ممتاز.
تابعه الموظفون بنظراتهم المتعجبة ليومين كاملين، كان إنسانا لا يكل من العمل، يكد و كأنه آلة مبرمجة لوظيفة تقوم بها دون توقف.
قدم لنا نفسه، مشيرا إلى أن المدير عينه في قسم الأرشيف. رثوت لحاله وأنا أعرف الملل الذي عاشته السيدة عائشة  في هذا القسم قبل أن تنتقل. تتأفف صباحا و مساء من هذا العمل الملول المضجر وتخرج لتبادل الأحاديث مع الأخريات و نادرا ما تكون متواجدة بالمكتب.
في الصباح، تأخرت كعادتي عشر دقائق كاملة، وجدت الجميع حاضرين. سألت العربي عن الموظف الجديد فقال لي: 
-    قال لي الحارس إنه أول الواصلين، حياه ودخل إلى مكتبه.
-    يبدو من النوع المتفاني في العمل.
كانت حواراتنا لا تخلو من ذكر السيد "عفيف" –وهذا اسمه- بخير أو بشر سامحنا الله. جلبابه الأخضر و قلنسوته حضرا في نكتنا طيلة أسبوع. لكن بعد أن احتككت به بسبب العمل و تبادلت معه الأحاديث في كل المجالات، أعجبت بهذه الشخصية المهذبة الرزينة التي لا تخلو من حس فكاهة بين الحين و الحين. كما ذكرت صغرت هذه النفس التي بين جنبي في عيني بعدما تأملت هذا الرجل، موسوعة متحركة. يكلمك في كل موضوع فيفحمك. دقيق في مواعيده كالموت. يعامل الجميع بنفس الطريقة لا نفاق و لا رياء.

المدير بنفسه قال إنه يغبطه، ليتني كنت هذا الرجل، هكذا قال وهو يحاورني. أسرتني طريقة التحدث التي يمتاز بها، ينظر إليك وينصت بإمعان حتى تتم كلامك، يشعرك أنه داخل عقلك يحس بمشاعرك، يجيبك باقتضاب مثير مما يستفزك لمزيد كلام.
فضلته على الجميع بعد مضي عشرة أيام، أذهب إلى مكتبه دون مناسبة لأتحدث إليه، أفيض في الكلام حتى يطردني بلباقة بالغة ليقوم بعمله. أنا لست مثله و لن أكون، أدع العمل يتراكم علي فأنشغل بالحديث أو بأمور تافهة أخرى أما هو فالعمل هو العمل.
وقت الصلاة يتوجه للقبو الذي خصصت فيه قاعة للصلاة، يصلي ثم يعود لعمله حتى تزف ساعة إغلاق الشركة. يقود دراجته النارية العتيقة ويتجه لمنزله دون أن يشغل باله بالمقاهي أو مباريات الكرة مثلنا..
اعتبرته مثاليا، جعلته قدوتي فهو مثال حي للتفاني و حب العمل و فعل الخير للآخرين. أنار  الظلام من حوله و جعل الدجية نهارا، حول مكتب الأرشيف من ملفات ممزقة و أشتات متفرقة هنا و هناك إلى شيء منظم كالمكتبات الحكومية.
لم يمر إلا شهر واحد حتى كلفه المدير بجانب آخر من العمل، هذه الوظيفة الزائدة هي مساعدة المستشار المالي للشركة وهي من صميم اختصاصه في الحقيقة إذا عرفنا أنه حائز على ماستر في الاقتصاد.
سار العمل مع السيد "عفيف" بشكل ممتاز لا تشوبه أية مشاكل، لا يشتكي منه أحد ولا يشتكي من أحد حتى أتى اليوم الذي انقلب فيه الوضع انقلابا عظيما.
في ذلك اليوم و كباقي الأيام الاستثنائية دعانا المدير إلى قاعة الاجتماعات للبت في أمر جديد، هكذا قال. التأم الجمع، كل يجلس في مكانه، ثم دخل المدير مع شخصين أجنبيين يتكلمان الإسبانية، أنيقان إلى حد المبالغة. قدمهما المدير على أنهما رجلا أعمال إسبانيان.
حتى الآن كل شيء ممتاز، نتكلم عن العمل وعن مميزات الشركة وميزات القطاع الذي تعمل به و.. لاحظت أن أحد الإسبانيين لم يعجبه تدخل السيد عفيف في المناقشة عدة مرات. نظر إليه بازدراء يظهر جليا في الحركة التي قام بها. يقلب شفته كلما نظر باتجاهه كأنه يريد أن يقول: كيف لهمجي يلبس لباس القرون الماضية أن يشاركنا في نقاش متحضر حول مواضيع عصرية؟
أغضبني هذا الأمر جدا ولولا بقية من العقل لقلت له أن يذهب إلى الجحيم، فالسيد "عفيف" رجل مثقف وحاصل على العديد من الشواهد وكفاءته لا تناقش، ربما ليست لديه أية كفاءة هذا الجلف الإسباني. خفت أن أفقد العمل فآثرت الصمت حتى تنجلي الأمور.
بعد أسبوع اتضح أن الإسباني المسمى "أنخيل" و الذي جاء ليتفقد الشركة قد أصبح الحل و العقد بيده بعدما اشترى اثنين و خمسين في المائة من الأسهم. أصبح هو السيد المطاع.
صحيح أنه لم يغير من سياسة العمل ولم يقم بتسريح موظفين و جلب آخرين، الشيء الذي فاجأني في الحقيقة فقد توقعت أن يغير نصف الموظفين على الأقل، لكن بعض الأمور تبدلت. التأخير أصبح ممنوعا كليا، خمس دقائق تكلفك تقريعا بالإسبانية الشنيعة التي لا أحبها وخصم اثنين في المائة من راتبك. المدير يراقب الكل بعيني صقر ولا تفوته صغيرة و لا كبيرة لأن الضغوطات لا تترك له مجالا للتنفس. السيد "عفيف" صار عرضة للتحرشات بسبب لباسه.
خلال الاجتماع الثالث الذي استدعانا "أنخيل" بشأنه، اتضح أنه يتكلم الفرنسية وعربية متقطعة بلكنة غريبة، قال للسيد عفيف صراحة و بوقاحة غير مهنية على الإطلاق:
 - غير هذا الشيء الذي تلبسه فهو ليس لباس عمل.
لم يجبه السيد "عفيف" رغم أنني لمحت تجهما واضحا في ملامحه. تركه يصول و يجول دون رد على الإطلاق. شيء استغربته.
في الحادي عشر من الشهر الماضي قدم السيد عفيف استقالته بعدما طلبه السيد "أنخيل" في اجتماع معه في مكتبه، جاء ليودعنا حتى قبل أن يعرف هل قبلت استقالته أم رفضت؟ سلم علينا بحرارة.
حاول المدير التنفيذي أن يتكلم مع السيد "أنخيل" في الموضوع فكان جوابه:
-يريد الاستمرار، عليه إذن أن يبحث عن بذلة وربطة عنق و إلا فلا عمل لديه هنا بعدما قدم استقالته.
حاولت أنا الآخر مع السيد "عفيف" أن ينفذ ما يطلبه منه ولكنه كان عنيدا وقال لي كلاما غريبا:
- هو يريدني أن أنزع الملابس التي أنا أحبها و ألبس الملابس التي هو يريدها. هذا ضرب من المستحيلات. الكفاءة ليست باللباس و إنما بالكد و المثابرة والعمل الجدي. ماذا يريد؟ هذا بلدي و هذا لباسه. غدا أو بعد غد سيقول لي بأن الصلاة تبطئ في عمل الشركة  و أن القاعة التي خصصناها لذلك ستصبح ورشة أو شيئا من هذا القبيل. لن اقبل بهذه الأمور. أتذكر يوم أن سألتني عن لباسي هذا لماذا فضلته؟ يومها قلت لك إن العتيق عقيق أي أن الأصالة شيء ثمين،الآن أيضا أؤكد ذلك و أقول لك بأن كل شيء يسير نحو الأسوإ بوجود أمثاله. ثق أن البلد لا تحتاج أطرا خارجية وإنما تحتاج إلى بعض الجد..

كلامه أثر بي و جعلني أعيد التفكير في كثير من الأمور، و أيا كان الأمر فقد فقدنا شخصا جيدا بيننا، أراد الخير لنفسه ووطنه. كان سيقدم أشياء كثيرة للشركة، بجده ومثابرته. كان سيكون القدوة التي تري الآخرين أنهم على خطإ. لكن السيد "أنخيل" حكم عليه من لباسه وقذف به خارجا ككومة عظام بالية.
العتيق عقيق، تذكرت الأمر عندما جاء إلي "أنخيل" متباهيا بنفسه وأناقته حاملا ملفا تعرفت عليه على الفور، قال لي بالحرف الواحد:
- أنت لم تعد تريد أن تعمل يا ابن الكلب، هذا الملف مليء بالأخطاء، ستعمل أو ستخرج من هذا الباب ثم لا ترجع..
أردت الرد عليه، لكنني تذكرت ما فعله السيد "عفيف" في مثل ذلك الموقف فسكتت، أمسكت الملف في يدي. خرج مصفقا الباب وراءه بعنف زائد..
لا تظنوا أنني لن أرد الشتيمة، بل سأفعل و لكن ليس بلساني وإنما العتيق عقيق.
في اليوم الموالي وكان يوم جمعة، جئت إلى العمل مبكرا على غير عادتي، عندما رآني الجميع شهقوا من المفاجأة. ذلك لأني لبست جبة كجبة السيد "عفيف" و قلنسوة وفي قدمي بلغة وعلى لساني كلمات:
تشبه بالرجال إن لم تكن مثلهم، فالتشبه بهم فلاح.
لكن ما يبدوا أنني أقدم استقالة غير مكتوبة وغير شفهية و إنما استقالة من نوع خاص جدا... العتيق عقيق..



 
  إبراهيم البوزنداكي - المغرب (2010-12-10)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

العتيق... عقيق-إبراهيم البوزنداكي - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia