فاشل جدا-محمد مباركي / وجدة / المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

فاشل جدا

  محمد مباركي    

كنا دزينة من الشباب النزقين . تتفاقم شقاوتنا مع حرارة الصيف بين الحيطان المتربة لقرية صغيرة تغط في الرتابة القاتلة مع انتهاء أعمال الحصاد و الدّراس و ضرب نوادر التبن . كنا نسبح في جانب من سرير النهر ، في حفرة نحن الذين تجشمنا عناء حفرها و إعادة حفرها متى توحلت . نسبح نهارا و نجتمع في البيادر ليلا . نحتسي الشاي و ندخن التبغ الرديء و نبحث عن ندماء مثل الملوك ، و نسخر من الدنيا و لا نفكر في ما هو آت .
كل ليلة نبني سمرنا على فلتة لسان من أحدنا أو حكاية أو مغامرة أو كذبة . و أغلب سمرنا كان يدور حول شخصية " الشريف سي لحسن " . إذا مرّ بنا عائدا من مسجد القرية بعد صلاة العشاء ، كنا نقف له إجلالا كما تقف الأعاجم  لملوكها  . و نبادره بالتحية . لم يكن يفطن لهذه الألاعيب . كان يظننا صادقين . و نحن إنما نفعل ذلك فقط لنفوز من حضرته بجلسة يقول فيها ما يقول. و ينجو الواحد منا من بناء سمر الليلة عليه .
" أهلا بشباب القرية " . يقولها " الشريف سي لحسن "  مبتهجا ، و هو يلاعب حبات مسبحته . يلاعبها فقط . نفسح له المجلس . لكنه كان يعتذر بجملة كنا نسمعه يكررها دوما :
- اسمحوا لي يا شباب  أريد الخلود إلى النوم لأقوم لصلاة الصبح .
كنا نعلم انه يكذب ، فهو لا يقوم لصلاة الصبح أبدا . يؤديها متراخيا وقت الضحى . كنا نقسم عليه بالأيمان الغليظة أن يجلس . يرد علينا متظاهرا بالامتعاض :
- خمس دقائق فقط !
تتمطط الخمس دقائق تلك إلى الهزيع الأخير من الليل . نتوسل إليه أن يحكي لنا عن مغامراته لمّا كان في فاس يتابع دراسته في جامع القرويين ،و الذي تخرج منه بميزة " فاشل جدا " . ففي الوقت الذي كان فيه أقرانه من أبناء المنطقة يجلسون إلى علماء الكراسي العلمية يحصلون العلوم الدينية ، كان هو يتسكع في أزقة المدينة القديمة و مواخير الملاّح . يصرف المال ، الذي كان يبعثه له  والده ، على نزواته .
لم يحفظ " الشريف سي لحسن " سوى حزبين اثنين من القرآن الكريم . أهلاه ليصبح معلما عريفا بعد الاستقلال لما كانت البلاد في حاجة ماسة للمعلمين . بعدها انخرط في حزب " عتيد  " ، و بقدرة قادر ترقى إلى معلم رسمي . كان سي لحسن دائم الافتخار بنسبه الأثيل . يحفظ شجرة نسبه عن ظهر قلب ،
 و يستظهرها متى طُلب منه ذلك أو لم يطلب . و كان قد  ورث عن والده أرضا فلاحية من عشر هكتارات . بعد أن عاد من فاس بلا شهادة و بتلك الميزة ، أكرهه أبوه على الزواج من بنت عمه ، و أقام له عرسا دام سبعة أيام حضره القاصي و الداني . و بعد وفاة والده طلـّق زوجته و دخل بذلك مع عمه
 و أباء عمه في عداوة لم ينفع معها صلح . و لتنال منه مطلقته ، كانت تحكي للنسوة عند " بئر الجماعة " ضعف فحولته . و كان يرد هو على هذا الاتهام بالسباب و وصفها ب " الخانزة و المعفونة " . و كان النمّامون في أثرهما ، ينقلون الصدق و الكذب من القول ، حتى اقتتل سي لحسن مع أبناء عمه في يوم مشهود .
كانت أعذب ذكرياته التي سردها علينا مرات عدة ، ذكرياته مع عشيقته اليهودية " فرتونة " في ملاح فاس . لم يقض معها إلا شهرين ،لكنه حكا عن مغامراته معها سنتين . لم يكن يرتد إليه طرفه أثناء تصويره الدقيق لفسقه . مستعملا كلمات داعرة . يتقزز بعضنا من سماعها . كنا نرسم من كلامه ، في خيالاتنا ، فيلما إيروسيا . لم يكن يترك أدق التفاصيل . كان الملعون يصدمنا .
كنا نتآمر على تصديقه ليلا و تكذيبه نهارا و نلعنه سرا و جهارا . و تبقى أطرف حكاية هي تلك التي كنّا نتوسل إليها أن يعيد حكايتها . قال أنه لما ملّ من عشيقته اليهودية ، اشرأب بعنقه النحيف المشابه لعنق ديك منتوف لإحداهن . كانت على قدر هائل من الجمال المورسكي  و النسب الأثيل . قال :
 " لو أمرتني يا أولاد أن أحملها على ظهري لأطوف بها  العالم لما توانيت لحظة " .
بعد مضايقاته لها ، شكته لإخوتها . قال : " كنوا غلاظا شدادا مثل زبانية جهنم " . ترصدوه في إحدى الأزقة الضيقة للمدينة القديمة و انهالوا عليه ضربا حتى أغمي عليه . و من يومها هرب مطلقا فاس
 و أحوازها ، و عاد إلى القرية و الكدمات و الرضوض تملأ كل جسمه النحيل .
كان سي لحسن يكرر جملة حفظناها : " يتذكر العربي أين ضُرب و أين  شبعت بطنه.



 
  محمد مباركي / وجدة / المغرب (2011-01-15)
Partager

تعليقات:
حسين /وجدة 2011-01-16
قصة رائعة بموضوع ممتاز ومغزى ذو دلالة واضحة ، تستحق أكثر من تهنئة ، لكن أخاف أن يكثر شخصيات أمثال السي لحسن في الواقع ...
البريد الإلكتروني : hou_149@hotmail.com

أحمد السباعي /السمارة المغرب 2011-01-16
نص راق جدا يستحق صاحبه التهنئة عليه
البريد الإلكتروني : sbaai1984@hotmail.com

ابروح /maroc 2011-01-16
هذه قصة رائعة عن شخصية كاريكاتورية في لباس مسرحي تعكس فشل سي لحسن في كل شيئ الا الكذب والنفاق واظن انها اقرب الى سرد عن سيرة شخصية جميلة يتعذر تصنيفها قصة تقليدية
البريد الإلكتروني : aboroh @hotmail.fr

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

فاشل جدا-محمد مباركي / وجدة / المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia