التجربة المحرجة-العربي الرودالي – الرباط - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

التجربة المحرجة

  العربي الرودالي    

 كان كل شيء كالمعتاد بين الفقيه معلم الصبيان ورجل الفتوى والمشورة والخوارق من جهة، وأهل القرية من جهة أخرى..كان كل شيء كالمعتاد متدامجا متكاملا..منظومة تتوالى عقيقا مرتبا يربط انعكاس الحمرة الساري والمنساب بين حباتها البلورية على امتداد دائرة العقد.. وقبل أن يحصل ما حصل جاءت جماعة شيوخ وأعيان القرية وممثلي  أهلها فأقاموا مع الفقيه جلسة اعتيادية..المشورة لا تكون إلا معه في آخرالمطاف ، وكلما دعت الضرورة إلى ذلك.. ألفوا منه سداد الرأي والحكمة النفاذة والدليل القاطع والحل الأسطوري الخارق. لم يعتد فرض الحلول عليهم، فالحل مقنع تلقائيا.. كشف لهم هذه المرة أيضا وكالعادة عما كان قد حجب عنهم، فهللوا كالمعتاد وطربوا وأقاموا الأفراح وأنشدوا الأمداح ونظموا المعارض لكتبه و الندوات لنبوغه, حتى بدا و كأن كل طيف وكل لون وظل وكل شكل من الأشكال يتقمص شبح الفقيه.. وكانت كل نغمة و كل صوت و كل عبارة و كل دقة على الدف أو الطبل تنعش النفوس بشعور عذب يلهفه حضور الفقيه في كل المشاعر.. كان التبادل معطاء متشابكا في تداخل يسد كل الثغرات و التجوفات... وحضر العفريت..عفريت الفقيه الشهير.. حضر هذه المرة فجأة لا كالمرات السابقة.. زحزح القمقم، حركه، أسقطه، دحرجه..رغب في الخروج.. حضر فجأة مثل حصاة حين تلتطم بصفحة بحيرة هادئة راكدة فتحدث دوائر في اتساع كاسح.. سمع الفقيه ذلك وهو قابع على الحصير المفتول بأيدي أهل القرية في بهو "المسيد" الذي لا يغادره بتاتا إلا إذا اتجه نحو المقبرة لدفن الموتى.. "المسيد"، هذا الجامع الملتصق بالأرض ككل بنايات القرية, المتواضع من الخارج, الرهيب المهيب بالداخل.. اكتسب قدسية تهيمن على الأنفس والأرواح.. يتعلم فيه الصبيان وتقام به الصلاة، تفك الطلاسم وتكتب الأحراز وتعقد جلسات المشورة الجماعية، ويقصده البعض للاستشفاء عندما تستفحل الأمراض ، وتستحضر فيه أحيانا أرواح الجان الخدومة.. وعند أمس الحاجة يدعا العفريت المارد للكشف عن الخبايا في المواقف الحرجة.. جامع لكل شيء، قصده ويقصده مريدون كثيرون ممن يلتمسون المعرفة والكشف عن أسبار هذا الناموس الكوني..البهو محاط بجدران بها تجويفات هي رفوف أثبتت في بعضها شموع متفاوتة الطول والقصر، تشهد على استمرارية الإضاءة منذ أمد طويل، وصففت في أخرى كتب وألواح ومخطوطات نادرة وعتيقة، لا تكاد تحرك حتى تعاد إلى موضعها.. مخزون الفقيه المكتوب.. وفي زاوية من الزوايا باب مغلق باستمرار و نادرا ما يفتح..مخزون الفقيه الروحي .. فهو محتوى الأسرار،أسراره وأسرار القرية..  موضع مهاب ولا يجرؤ أحد على دخوله.. لم يكن الفقيه هو صانع هذا العالم.. فالبناء بناؤهم ، وضوء الشموع ضوؤهم، والأحجام أحجامهم والأسرار أسرارهم ، وكل الفقيه انعكاس لهذا وذاك..انسجام الخطوط والأشكال والألوان، نسج العلاقة القدسية، وأصبح الفقيه فقيها وصار الفقيه مهابا قابعا في البهو، ينتظر من يقصده دون أن يبادر إلى إطلالة تلمس فيها الشمس وجهه، فالظل جعل بشرته فاتحة اللون.. سمع الفقيه طنينا وقرقعات لوعاء وكأن ما بداخله يجهد نفسه للخروج..عدا وفتح مخزنه ومستودع الأسرار، ثم التقط شيئا معدنيا يشبه قنينة صغيرة الحجم، فقفز العفريت من القمقم وتنفس الصعداء بعد إزاحة السدادة، كأن به غثيان ويكاد يتقيأ أقوالا.. ظهر عليه ذلك من لهاثه وبروز عينيه وتدلي لسانه.. أدرك الفقيه معنى هذه الحالة التي نادرا ما تحل بعفريته, تنتابه ويكون خلفها أمر بالغ الأهمية والخطورة..استنطقه واستحثه على الكلام.. لقد جاء بنبأ عظيم.. ستهطل أمطار لا كالأمطار,غزيرة وقوية تبلل القرية من تحت قشرة الأرض إلى حد الغيوم.. كل شيء سيصبح مبللا حتى ما بين الفجوات وتحت السقوف وما بين حبات العقيق البلورية على امتداد دائرة العقد.. أمطار تجري أنهارا ووديانا وسواق، تملأ بركا وآبارا وخزانات، تمتزج بالمياه القديمة، تختلط بها فتصيبها العدوى، و يشربها أهل القرية و يتساقونها.. تجري في دمائهم, تخدرهم و يتغير حالهم فيفقدون صوابهم ورشدهم, وتختل عقولهم بالخبل والهبل.. وتدوم هذه الحالة مدة أسبوع..أجل يتفتت فيه العقد وينحل ، و ينقطع انعكاس الحمرة الساري و المنساب في كل الحبات البلورية.. وتكون التجربة..كيف لم يخطر له أبدا رفع بصره الى الفضاء؟ فالغيوم تتلون و تتحجم، و كل لون و حجم يعقبه مطر...استعد الفقيه لهذا الظرف، فاحتاط  محتفظا لنفسه بكمية كافية من الماء لشربه حتى يتجنب ما سيحصل لأهل القرية بشربهم  ماء الأمطار الغريبة... اعتكف يفكر.. يتفحص الخطط ويترسم الحلول الأسطورية الخارقة، وهو قابع في البهو ينتظر قدوم شيوخ وأعيان القرية وممثلي أهلها.. أصبح أهل القرية تائهين هائمين و قد انصرفوا إلى أعمال غريبة انتفى معها ما كان متعودا عليه.. حاول الفقيه اختبار الأمر المحدث، فخرج على غير عادته.. جرب أن يدعوهم إلى صلاة الجماعة، لكنهم عربدوا في سخرية.. طرق أبوابهم لجلب أطفالهم إلى "المسيد" قصد التعلم كعادتهم، فاستهزؤوا به وازدروا  وأقفلوا أبوابهم في وجهه،  و من أعلى السطوح كان ينطلق صياح الصبيان واليانعين، يهتفون على مسمع منه بأصوات استفزازية و أبواق مفزعة.. أخذ يتردد أن الفقيه لم يعد صالحا للقيام بكل الأدوار المرغوب فيها، فشاع ذلك.. و كان كلما مضى الزمن تزايد عدد المنقطعين عنه حتى صار منعزلا.. الجميع قد نفر منه.. أغفلوه.. تجاهلوه.. تناسوه وانصرفوا إلى أعمالهم الغريبة.. لو لم يعلم بما حصل لاندهش إلى درجة الجنون.. فكيف يطيق وهو لم يتعود !؟  حاول استجماع نفسه الذي أصبح قصيرا واستجدى بعض المارة ليقيموا حلقة حوله.. أخذ يغريهم بالدعاء و بعروض لمهاراته محاولا استرجاع ذاكرتهم، لكن دون جدوى.. صعب أن ينسى من الذاكرة ولو أسبوعا فقط.. لم يسعه إذاك إلا أن يعود إلى بهو "المسيد" ليجلس قابعا في انتظار جماعة شيوخ وأعيان القرية و ممثلي أهلها، علهم يحتاجون إلى مشورته فيما حل بهم، لأن المشورة كالمعتاد لا تكون إلا معه في آخر المطاف، و كلما دعت الضرورة إلى ذلك.. فإذا بهم هناك.. يتداولون في أمره.. نهضوا جميعا.. حملوه مسافة من السير ثم رموا  به  داخل ضريح القرية، حتى يتخلص من جنونه، وانصرفوا إلى أعمالهم الغريبة..هذه اللحظة لم يبق له فيها إلا أن يتأمل..وخلال ذلك خطر له أن احتياطه من مائه المعتاد بدأ ينضب، و لن يكفي لإتمام ما تبقى من الأيام..أيتخلى عنه وينحاز إلى أهل القرية ؟ أم يقلل من استهلاكه حتى تعود الأمور إلى حالها، إذا ما صحوا من سيل أمطارهم..؟ فقد تهاون في توفير ما يكفي...



 
  العربي الرودالي – الرباط - المغرب (2011-01-17)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

التجربة المحرجة-العربي الرودالي – الرباط - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia