الأصوات-إبراهيم البوزنداكي - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

الأصوات

  إبراهيم البوزنداكي    

أخيرا حركتني الممرضة، أو بالأحرى سكرتيرة الطبيب، لأستيقظ من نعاس أغشاني و أنا أنتظر نوبتي هنا في عيادة الطبيب النفسي. سالت الأحلام اللذيذة و المرة من خلال سويعة النوم هذه و كأنني نائم منذ دهور.رافقت الفتاة ببلوزتها البيضاء، أتأمل عنقها العاجي وشعرها المسترسل على كتفيها في حنان، لعل المشهد ينسيني بعضا من آلامي النفسية التي أثقلت روحي وحولتها إلى كومة من أوهام وهموم وأحلام.
ترسبت تلك الهموم إلى قعر النفس مجمدة كل ما وجدته في طريقها من مبادئ و أهداف. حولت كلما وجدته إلى عقد أبادت ما كان معي من عقلانية أمشي بها في الطريق الصحيح، حتى جاءتني الأصوات.
تأتيني عندما أستعين بالصمت لعلي أحظى بقليل من السكينة لتنبلج الأفكار، تأتيني و أنا أستجير بالظلام مبتعدا عن نور يجعل من عوراتي مشاهد للمتفرجين و لقطات للمتشفين، تأتيني جالبة معها صخبا يعلو رويدا رويدا حتى يصبح ضجيجا يطن في داخل رأسي حتى أكاد أصاب بالجنون.  أصوات لا تشبه أي نوع من الأصوات سمعته، لا هي للبشر و لا للحيوان، مزيج من هذه و تلك، تتقاتل داخل رأسي و كأنها ذئاب تتجاذب فريسة وقعت بين أنيابها. تأتي همسا يشبه فحيح الأفاعي ثم تعلو و تعلو حتى أمسك برأسي بين يدي و أتأمل الجدار متفكرا في عواقب نطحها به.
دلفت إلى مكتب الطبيب الفخم، صافحني برتابة مقيتة و كأنه يستثقل مصافحة المرضى و ذويهم، جلست على المقعد الجلدي الوثير و أنا  أتأمل قطع الزينة الغالية المنشورة في كل جوانب المكتب و أقول لنفسي: إن أنا إلا قطعة أخرى بالنسبة لهذا الطبيب. جانبني الأدب و حسن المعاملة و أنا أنطق قبل أن ينطق سيادة الدكتور الذي أفنى حياته في الدراسة و خرجت من بين شفتي كلمات مبهمة مشتتة جعلته يستوي في مقعده بعد أن كان متكئا ناظرا إلي نظرة أحسست و كأنها تجاوزت الثياب و حتى الجلد و البشرة لتنفذ إلى الدواخل و كأنها أشعة إكس.
نفضت عن ذهني هذه السخافات و شرحت للدكتور سبب الزيارة متحدثا بصورة متقطعة تتحشرج الكلمات و تتأرجح ثم تخرج و كأنها آتية من بلاد بعيدة عبر أسلاك قديمة متآكلة، ينصت إليها الدكتور بانتباه شديد و كأنني البروفيسور ألقي محاضرة في علم النفس أجلب إليها كل جديد لا يعرفه لأثير كل هذا الاهتمام.

وصفت له الحالة التي تتلبسني بين الفينة و الأخرى معتمدا الإشارات أكثر من الكلمات، حالة جعلت أعصابي و أنا أتذكرها مشدودة و رفعت من درجة حرارتي و كأنني قطعة كعك في فرن مكرويف ضخم. سألني الدكتور عندما سكتت عن الكلام:
- هل استشرت طبيبا من قبل؟
أجبته و أنا أضفي على كلامي صبغة إقناع اكتسبتها أيام كنت أفتتح حلقيات في الحرم الجامعي تتطلب مني أن أقنع نفسي بفكرة ليقتنع من حولي بصدقها الذي لا تشوبه الشوائب. قلت:
- ما كان لي أن أستشير غيرك في هذه المدينة فأنت أبو الطب النفسي هنا.
لوهلة خيل إلي أن الإطراء أصاب صميمه لتنتفخ أوداجه ولكنها كانت قصيرة لدرجة أن الأمر بدا و كأنني أتوهم.
لاحقني بعدها بتلك النظرة التي تخترقني اختراقا عجزت معه عن الكلام للحظات بدت رغم قصرها و كأنها سنوات من الغيبوبة والجمود. عندما أدرك هذا الارتباك من ملامحي استحثني بسؤال آخر أكثر أهمية:
-منذ متى بدأت الأصوات بالظهور؟
كنت أظن أنني دققت في تفاصيل القصة فلا يحتاج من يسمعها إلى مثل هذه الأسئلة الفرعية، لكنه هو الذي يمثل الطب هنا، ولا بد لي من الامتثال. سهوت لدقيقة كاملة و هو ينتظر الإجابة بصبر طويل النفس ثم أجبت:
-منذ عام كامل و أنا أقاسي الأمرين عندما تهاجم تلك الضجة رأسي.
أشار إلي بيده أن أستفيض في الكلام عنها، فبدأت أحكي القصة من جديد بدءا بالليلة التي أتتني فيها الأصوات. فصلت تفصيلا مملا و أنا أسرد القصة و كأنني حفظتها عن ظهر قلب. لم ينبس طوال سردي و اكتفى بكتابة أشياء في مفكرة كانت أمامه بين الحين و الحين.
قال لي بعد مدة من الصمت:
-لماذا لا تأتيك الأصوات إلا عندما تخلد للصمت و تلتحف بالظلام؟
-لست أدري. هذه الأسئلة هي ما جعلتني ألتجئ إلى خبير.
أشار إلي أن أقوم معه إلى منضدة الفحص. استلقيت بصعوبة و أنا أفكر في الأيام العصيبة التي قضيتها بالمستشفى الحكومي عندما مررت بأزمة الكاحل. قام بجس النبض و قياس الضغط ثم وضع آلة فوق رأسي وهو ينظر إلى شاشة كانت أمامه. لم أفهم كل الأمور التي قام بها و التي بالمناسبة لم أشعر به و هو يؤدي بعضها لأنني أغمضت عيني وبدأت أنصت لعل الأصوات تزورني و أنا في عهدة الطبيب. لا شئ.
نهضت عن المنضدة بتثاقل عندما أمرني  واستويت جالسا فوق المقعد الجلدي من جديد. أطال النظر في وجهي و كأنه يريد قول شيء صادم أو كأنني تحولت إلى لوحة سريالية جديرة بالتأمل. قلت لأنتزعه من الجمود الذي اعتراه:
 -خيرا سيدي الدكتور.
ابتسم ابتسامة أخافتني أكثر مما أراحتني ثم قال بهمس:
- خيرا إن شاء الله، لكن خبرني بماذا تخبرك الأصوات؟
 
مع هذا السؤال انتقضت الانتفاضة الأعنف وارتعشت يداي  كأنني مسن عجوز مصاب بمرض باركنسون، تجمدت شفتاي و لم  أقو على إخراج حرف واحد. كان هذا هو السؤال الذي خفت منه: ماذا تقول الأصوات؟
إنها اللحظة التي حذرتك منها الأصوات، لحظة قول ما تقوله. لاحظ الطبيب ذلك الارتباك الذي كبلني، شجعني ببضع كلمات و أعاد نفس السؤال، لكن حالتي لم تتغير. بذلت مجهودا شاقا من أجل أن أحث نفسي على الكلام
و أنا أقنعها بشيء واحد: أنت وحيد في الظلام، أنت تحدث نفسك، هذه المخاوف لا داعي لها، اطرحها كما تطرح أي شيء قذر بقوة الاشمئزاز.
أفلح الأمر جزئيا على الأقل و بدأت الحديث:
- تقول الأصوات أشياء عبارة عن ألغاز مستعصية الفهم، لكن و هذا هو الغريب أفهمها و أنا في تلك الحالة المرضية و رأسي توشك أن تنفجر، أفهم الكلمات تلك بوضوح ثم أنقاد لها و كأنها غرزت داخل مخي ليتحرك وفق ما تقوله...
قاطعني فجأة و كأنه يستفسر عن شيء استشكل:
- تقول لي إنك تنفذ ما تقوله الأصوات؟
-بحذافيره يا سيدي، لم أستطع أن أقاوم و لا لمرة.
- حسن، ما آخر شيء أمرتك به الأصوات و نفذته.
هنا اتسع بؤبؤ عيني بشكل واضح، وارتفعت حرارتي و كأن الحمم تتأجج بداخلي مع إحساس الجفاف و العطش. علت تلك الابتسامة الخبيثة التي عرفت بها وجهي، رأيت علامات استغراب كثيرة على ملامحه، لكنه بقي في مكانه جامدا كتمثال. قلت ناهضا من مكاني محركا يدي في كل الاتجاهات:
- قالت إن البوصلة التي كانت تساعدني على معرفة الطريق توقفت. آن لي أن أستعير بوصلة جاري.
أدار عينيه في محجريهما وعقد مابين حاجبيه، سكت لبرهة وهو على هذه الحال. اعترف قائلا:
- في الحقيقة لم أفهم.
- هذا ما قالته و ما فهمته حينها أما الآن فأنا عاجز مثلك تماما.
- لكن مالذي قمت به، بما أنك تنفذ ما تقوله؟
  اعتصرت ذاكرتي و أنا أحث قشرة مخي على تذكر ما قالته الأصوات في المرة ما قبل هذه دون فائدة تذكر، و كأن كل ذلك عبارة عن حلم أستيقظ منه. لا أثر له في الحياة و هذا وجه الخطورة. أقلقه صمتي بشدة مما جعله يعيد السؤال بصوت أعلى. انتبهت من الشرود وسمعت نهايات كلامه. فهمت ما عناه فأجبته:
- لقد جئت إليك قبل أن أقوم بشيء خاطئ في حق الجار فهل ستساعدني؟
ابتسامته الهزيلة المرسومة على وجهه الأرستقراطي تشعرني أن رأسي تحت المقصلة التي تنزل ببطئها المثير مصدرة ذلك الصوت الحديدي الذي تلتقطه أذناي معلنة قدوم زائر لا يرغب باستضافته أي حي . ما هذا العذاب؟ لماذا أستاء من كل شيء ومن لا شيء؟
- طبعا سأساعدك لو ساعدت نفسك أولا، لماذا اختلفت هذه المرة. لماذا لم تنطلق للتنفيذ فور فهمك للأمر؟
كان سؤالا في الصميم، لم أكن أريد أن أخبره بهذا ولكن لابد مما ليس منه بد.
- لقد تناولت نصف دزينة من الأقراص المنومة. تم نقلي إلى المستشفى. نسيت كل شيء.
هاهو ذا يحرك رأسه ثانية، يدعي فهم مشاعري. هذا هراء، لم يفهمني أحد قط. الآن صرت أضحوكة المجتمع و الطبيب يحرك رأسه ذات اليمين و ذات الشمال، أماما وخلفا، وأنا احترق بداخلي لتذكري أن الفشل يلاحقني. فشلي الذريع حتى في محاولة الانتحار..
-أنا آسف لأنك بلغت هذا المستوى، لكن بقليل من الجهد ستصبح شخصا آخر من دون أصوات.
- سأنفذ كل ما تأمرني به لأتخلص منها.    
 
        *   *   *    *    *     *

في الأيام التي تلت الزيارة لم أستطع النوم إلا لساعات قليلة كل ليلة، عكس مرضى الأعصاب الذين توصف لهم منومات يبدو أن سيادة الدكتور وصف لي شيئا يمنع النوم. لا مرحبا به، تقول أجفاني عندما آوي إلى الفراش. أتكوم في وضع جنيني يقلق كل من يراني، أنتظر الأصوات لتأتي، لتخبرني بألغازها المشفرة التي أنطلق فورا لتنفيذها و كأنني روبوت من نوع ممتاز لا يعرف الرفض أو التعنت أو مناقشة الأوامر. لا شيء، غابت الأصوات عن حياتي أخيرا، غيوم داكنة هي كل ما أرى عندما أغمض عيني، عكس ما كنت أراه قبل أن أزور الدكتور. واحات بيضاء، لا أثر فيها لأي لون آخر تمتد لمدى البصر ثم تأتي الأصوات من كل الجوانب فيتعذر معرفة الأحلام من الواقع المعاش. سيرة أخرى انتهت والفضل يعود بعد الله لفطنة الطبيب النفسي.
  
موعدان مع الدكتور كانا كافيين لأجزم أنها رحلت، تركت رأسي لتبحث عن مأوى آخر. بعد الموعد الثاني بدت لي الأمور مختلفة، بدت لي تلك الأصوات و كأنها ذكرى بعيدة مرت منذ زمان. بدأت أتذكر الأمور التي قالتها و  التي قمت بها، كانت قرارات صائبة، جميعها. دونت كل شيء في مذكرة صغيرة. الأشياء التي فعلتها نجم عنها أشياء جميلة، بالنسبة لي و لغيري أيضا.
نظرت في المفكرة الصغيرة و استشرت نفسي مرارا إن كان هذا ما قمت به فعلا، أم أن الوعي و اللاوعي يتناقضان فيما بينهما فينتج عن ذلك هذا الخلل الذي تعاني منه الذاكرة. لا إنها الحقيقة فيما وقع، أكاد أجن، أصبت بخلل دماغي على الأرجح..
رجعت إلى حياتي العادية الرتيبة التي خلت من أي جديد. رحلت الأصوات و كأنها لم تكن يوما قد زارتني. في لحظة ما تأسفت لأنها رحلت. كانت ر فيقا ممتازا رغم أنها تسبب لي ذلك الكم من الألم. كلما تذكرت أحد الأشياء الذي أمرتني به و الذي نفذته دون أن أعرف عواقبه استغربت واستبشرت كذلك.

بعد مرور عام على اختفاء الأصوات، راجعت القرارات التي اتخذتها في حياتي قبل أن تأتيني و بعد أن رحلت. كانت قرارات يائسة وفاشلة إلى أبعد الحدود، كلها بلا استثناءات. كانت الأصوات طوق نجاة لم أستطع التمسك به، أفلته بإرادتي الحرة. هبة إلاهية أخرى لفظتها دون وعي. أيها التعيس، ما كان يجب أن تطرد الأصوات، أو أن تحاول الهروب من قدرك. ما أنت إلا مخلوق ذو حكمة تتناهى في الصغر، لماذا لم تقبل قرارا من صاحب الحكمة المطلقة؟
عودي أيتها الأصوات أرجوك، فأنا ناي عقيم يفتقر إلى عازف من دونك. ها أنذا في ظلام وصمت يحجبان عني الدنيا. ألست مختارا لأن تكوني برفقتي؟
نداء وبكاء لم يفيدا شيئا، أنت مغلف بأشياء يتوجب عليك إزالتها. أشياء قذرة تصيرك قذرا تنفر منك الأصوات. عد إلى الطبيب و ليعكس فعل الدواء أيها البئيس.

عندما دخلت إلى العيادة، لم أنتظر كما فعلت في المرة الماضية، بل دخلت بعنف منقطع النظير و السكرتيرة تحاول جاهدة منعي و الناس من حولي ينظرون و أنا أقتحم مكتب الطبيب صارخا:
- أعد إلي الأصوات أيها الطبيب، اعكس فعل الدواء الذي وصفته لطردها لتعود..
مسح الطبيب قطرات العرق على جبهته الكبيرة ودعاني للجلوس وفي عينيه نظرة خائفة متقلبة.... حائرة



 
  إبراهيم البوزنداكي - المغرب (2011-02-22)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

الأصوات-إبراهيم البوزنداكي - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia