ما كاد الطبيب يدير ظهره عنه ، حتى قام من على السرير الأبيض الصلب ، أخذ يغلق أزرار قميصه الأبيض ، كان يتعمد ملامسة أصابعه لصدره ، و كأنه يرجو كل خلية من خلاياه...ويتوسل مقاومتها وجدلها .نعم كما توقع بالضبط ؛ إنه الورم ، بدأ في الرئتين وانتشر في باقي أنحاء الجسم ، نتائج التحاليل سوف تكشف ذلك في الغد ،كان قد أغلق باقي أزرار قميصه، تكلّف رسم ابتسامة على شفتيه ، نظر إلى الطبيب : شكرا لك يا دكتور، لقد أتعبتك اليوم كثيــرا .
ودّع الطبيب ونزل على عجل ، أصرّ على المشي على قدميه اليوم أكثر من أي وقت مضى ، آه ! لكم كان أحوج إلى المشي ،مشى ومشى ...أعاد يده إلى صدره ، ربما فعل ذلك و لم يمدّها إلى قدميه المترهلتين ، لأنه كان يعلم أن صدره هو الذي كان يعاني التعب و المرض الحقيقيين ... صعد السلالم العشرة المؤدية لشقته ... أغلق الباب خلفــه ... جلس على أريكته المفضلة، نظر إلى أركان شقتــه و كأنه يودّعها لآخر مرة ؛ خاطب نفسه : لم كل هذا الحزن ؟؟ لقد كنت تعلم بأن جسدك مريض؛ بل يتآكل رويدا رويدا ... إذن ما الفرق عندك !؟ سواء أكان الورم أم غيره ، ماذا بعد ذلك؟ النتيجة هي نفسهــا...!! . لم يشأ الإجابة عــن سؤال نفسه ، حاول الهروب من ذلك بفتح التلفاز ، تنقل بين البرامج ، غناء ، قرآن كريم، مسلسلات ، مسابقات ، أخبار تحصي آخر أعداد القتلى و الشهداء و البيوت المهدمة ، لأول مرة يتجاوز قناة الأخبار بعد فتحها ببضع لحظات ،استوقفته أغنية جوليا بطرس المعروفة)وين الملايين ، الشعب العربي وين( لقد هرب من سؤال وجوده هو كفرد ليصطدم بسؤال أكبروأعمق ...
سؤال وجود الأمّــة والشعب،حينها أدرك أنه لن يستطيع الهروب من سؤال نفسه ، فأجابها بصوت صارخ تشوبه بحّة : لأنني اكتشفت متأخرا بأنني مصاب بورم مـزدوج: إلحاح السـؤال و تمـنّـع الـجواب .