دار مسكونة-محمد مباركي / وجدة / المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

دار مسكونة

  محمد مباركي    

بات " الفقير الميلود " تلك الليلة الشتوية كلّها يفكر في الزحف القروي القسري الذي حمل القرويين من بادية أنكاد إلى ضواحي " وجدة " . المدينة البئيسة المنطوية على نفسها في ذلك الركن من المغرب غير النافع .. وجد نفسه يهرول بين أزقة أحيائها الفوضوية، يبحث عن منزل يستر فيه عياله.. باع الأرض وحمل معه حفنة من تربتها ليتشممها كلما هزّه الشوق إليها .
بثمن الأرض اشترى دارا قديمة. رمّم سطحها وواجهتها .. وفي غرة شوال انتقل وأهله للسكن فيها .. كانت مكونة من ثلاث غرف ومطبخ تقليدي وميضاء، وفي ركن من الفناء قبعت بئر عميقة ساخت أطرافها  .
قبل أن يسكنها هرق " الفقير الميلود " دم ديك على عتبة الدار طردا للأرواح الشريرة وتقربا ل " أهل المكان "  على عادة أهل هذه الجهة من البلاد .
أمر زوجته في أول ليلة باتتها الأسرة في الدار أن ينام الجميع في البيت " القبلي " ، فبسطت الزوجة حصيرا من الحلفاء وافترشت مطارح صوفية ونامت هي في الطرف الأيمن وزوجها في الطرف الأيسر ، ونام الأولاد بينهما ممددين كالسردين .
ترك " الفقير الميلود " شمعة موقدة تذرف الدموع على شمعدان نحاسي صغير، ولهيب فتيلها يرقص على رأسها رقصة الموت .. نام الجميع إلا هو. كان ينقل نظراته بين الشمعة وسقف الحجرة أين حلى للعناكب نصب شراكها للحشرات ، وفمه يتلوا أوراده الليلية ( السر الذي أعطاه شيخ الزاوية ) .. فجأة انطفأت الشمعة بنفخة قوية سمعها وأحسها، فغرقت الحجرة في ظلام دامس .. سألته زوجته من الطرف الآخر :
- لماذا أطفأت الشمعة ؟!
لم يجبها . أشعل عود ثقاب وقبل أن يوقد الشمعة أطفأته نفخة أخرى .. استعاد بالله من الشيطان الرجيم .. وأشعل عود ثقاب آخر، ومدّ يده في حذر نحو الشمعة .. لم يجدها .. طارت .. وطار عقله معها، ووقف شعر رأسه تحت طاقيته .. طلب من زوجته أن تمدّه بشمعة أخرى .. تحسست المرأة حزمة الشمع تحت وسادتها وسحبت واحدة ومدّتها له في الظلام قائلة له " أمسك الشمعة " . أحسّت بيده تمسك الشمعة .. لكنها سمعته يطلب منها أن تمدّ له الشمعة .. صاحت فيه :
- لقد مددتها لك .. أحسست بك تمسكها .. ما بك يا رجل ؟!
- لم أمسك شيئا يا امرأة . ربما أمسكها أحد هؤلاء الأولاد الأشقياء .
- بل هم نيام يا رجل .
انزلق " الفقير الميلود " في فراشه ولم يرد على زوجته وتظاهر بالنوم ولم يفتر لسانه عن قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين و " اللطيف " ( يا لطيف نسألك اللطف ) ..
كانت أذناه مثل هرّ تلتقطان أدنى حركة .. فجأة ، سمع صرير " جرارة " حبل البئر. تبعها ارتطام الدّلو بالقاع .. تسلل من فراشه، وقبض على عصاه وخرج من الحجرة على أطراف أصابعه.. نظر صوب البئر .. هزّته قشعريرة إلى درجة الارتعاد .. رأى كائنا غريبا مكفنا بالبياض الناصع قابضا على حبل الدّلو .. استدار نحوه بهدوء .. كان في هيأة آدمي ، لكن بعيني قط وأذني كلب و أنف خنزير وفم ضبع  وأطراف قرد وقوائم حمار.. رعب الفقير الميلود من هول ما رأى. وطفق يصرخ صراخا متواصلا طالبا النجدة ..
 
أحس بيد تقبض على كتفه الأيمن .. فصرخ " أطلقوني .. أطلقوني " .. لكنه سمع صوت زوجته تناديه " الميلود.. الميلود !! الرجوع لله .. استفق .. استفق .. "
استفاق .. حملق في وجه زوجته .. استعاد بالله من الشيطان الرجيم .. عاد إليه رشده .. حمد الله وأثنى عليه وأقسم بينه و بين نفسه ألا يبيع أرضه وألا يهاجر إلى وجدة وألا يسكن في دار مسكونة .



 
  محمد مباركي / وجدة / المغرب (2011-04-13)
Partager

تعليقات:
محمد مباركي /المغرب 2011-04-17
مشكور أخي الكريم على مرورك
البريد الإلكتروني : med1959@hotmahl.fr

خالد /المغرب 2011-04-16
ما شاء الله عليك يا استاذ والله حسب رايي قصة رائعة مضمونا وشكلا, أتساءل لماذا لا تقرر مثل هذه القصص للتلاميذ لأنها مفيدة جدا في مضمونها ولغتها, مثل هذه القصص تحبب للتلميذ اللغة العربية وتحفزه على المطالعة
البريد الإلكتروني : hassa_n@hotmail.net

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

دار مسكونة-محمد مباركي / وجدة / المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia