انتحار ميت-إبراهيم البوزنداكي - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

انتحار ميت

هاهو قد وصل إلى المكان المقصود بعد طول مسير. من أعلى الجرف نظر إلى الأسفل ليرى الصخور الكبيرة تتفتت عليها الأمواج مبدية صلابتها العجيبة أمام محن الزمان. هذا ما يفتقر إليه، تلك الصلادة التي تتمتع بها هذه الصخور، لكنه اليوم عزم على وضع حد لآلامه المتنامية. تذكر كلمات الشيخ الأعرج الذي وجده جالسا على المقعد الصخري و في يديه الإطار الخشبي يزيحه إلى اليمين و إلى الشمال: سلبوني كل شيء إلا هذه النافذة أطل منها على العالم وأنا في كوني وحيدا لا ينازعني فيه أحد، ما قيمتك في العالم سوى ما تملكه أو تجيده أو تعرفه. أنا ليس لدي شيء من هذه جميعا فإذن أنا ميت. مسجون أنا في كون آخر ليس فيه صخب أنظر إليكم من نافذتي كمشاهد أو كشاهد. هل كان ذلك الشيخ مخبولا أم أنه وجد فعلا كونا خاصا به لا يحتاج فيه إلى تقييم كل شيء و كأنه مادة تسير للاندثار؟ 

من على الجرف نظر ثانية إلى الموجة الآتية بنعومة و سلاسة تلامس الرمال و كأنها تداعبها دون أن تجرف إلا اليسير من حبات الرمل التي لم تتماسك و لم تملك أي جلد في مواجهتها. هو هذه الحبة التي جرفتها الموجة لتضرب بها رؤوس الصخور. لم يملك سوى الاستسلام لعواصف الدهر و تقلباته و نوائبه. هو جبان يصفه به الداني و القاصي ليس بصريح العبارة و لكن بإشارات أدل من العبارات و أبلغ منها. طأطأ رأسه ليقول نعم لهذه الخاطرة التي مرت سريعا و كأنها لقطة ضوئية من آلة تصوير قديمة. يئس من تضميد الجروح دون أن تندمل، تنزف في كل مرة دون أن يستطيع إيقاف النزف فيغلبه الجرح بآلامه.

تمعن في منظر الشروق البهي الذي مثل لوحة عجزت أيادي الفنانين و الرسامين من تشكيل مثلها بصباغاتهم و ريشاتهم مهما تأملوا. منظر ساحر كهذا يقود صاحبه دون شعور منه إلى الإحساس برهبة داخلية تعتريه فيسبح الخالق في نفسه إن لم يكن بلسانه. منظر البحر جاثيا أمام قدمي هذا الجرف الهائل يغسلها مدا لتتسخ في جزره ليعود من جديد لغسلها و كأن خدمة هذا الجرف هي وظيفته السرمدية التي يؤديها منذ خلقه الله إلى أن يفنى دون أن يملك إلا الانصياع . الجرف جامد عملاق و كأنه جندي يؤدي التحية لمن هو أعلى منه رتبة، يعطي بقدر ما يأخذ و الشمس ضاحكة مستبشرة ترسل أشعتها لتبدد ظلمات  الليل   الذي يغطي الأفعال المشينة و يسربلها بلحافه الأسود الفاحم.
"من لي بعد أبي؟"  أحس و كان دماغه طار من رأسه، صار له جناحان يخفقان، هو ذا فوق رأسه يودع مقامه الزكي الذي لبث فيه لسنوات طوال. أيها الطائر لو علمت ما واجهني في تلك السنوات التي أمضيتها بداخل مقامك، لو أحسست بلذع كلام من حولي و هم يقدحون في و يعيرونني لذبت من فرط المرارة و الألم. أنا آكل إذن أنا حي، أنا أعمل فأنا حي، أنا أملك المال فإذن أنا حي. أنا ميت لأنني لا أعمل و لا أملك المال و إن كنت آكل. أنا أفكر إذن أنا موجود، أنا أشك فأنا موجود. أنا أشك أنني موجود. 

قبيل أسبوع دخل إلى البيت كعادته في التاسعة مساء، اتجه إلى غرفة نومه إذا به يصطدم بزوجة عمه و كأنها تترصده و في وجهها أمارات الغضب، قالت وتكشيرة وجهها في اتساع:
-لماذا لا ترحل عنا فحسب، أنت عاطل و مدمن، لا تصلح لأي شيء، الموتى أفضل منك. لماذا لا تغيب وجهك عنا؟
-خالتي فاطمة، اتركيني أستريح الآن و سنتحدث في الأمر فيما بعد.
-ليس هناك فيما بعد، ستجمع خرقك الآن و تخرج من بيتي.
"طردتني من بيتها دون أن تعطيني أي فرصة، وعمي؟ عمي الذي اعتقدت انه يحبني كان يطل من خصاص الباب و هي تطردني دون أن يحرك ساكنا. من لي بعد أبي؟"
ألقى نظرة شاملة حوله فالتقطت عيناه ذلك البريق الناشئ من انكسار أشعة الشمس على صفحة الصخور الملساء فبدا لمعانها و كأنه نور ملائكي يستعجله في الالتحاق به هناك حيث لا صخب ولا كدر ولا كبد.
"أي وجه شيطاني قادك إلى هذا المكان الجميل لتقوم فيه بمثل فعلك الشنيع القبيح؟ "
البحر ما زال متثائبا بعد ليلة هجر ذاق فيها التوق و الأرق. هجر الأحباء يفوق ألمه كل الآلام. هذا الجرف يصغي إلى أنين البحر و شكواه فيهدئه و يعزيه فيذرف البحر بين يديه و على كتفيه و هو يعانقه عبرات لا تلبث أن تجف.
"أنت كهذا البحر إلا في وجود من يعزيك في مصابك أو من تشتكي له آهاتك و حزنك. أنت وحيد. هاهو ذا البحر يناديك    و يناجيك بألطف الكلمات لتذهب معه في عناق طويل ناعم ينسيك كل آهات حياتك القصيرة. هو ذا الجرف يهتز من تحت قدميك ليحثك على الذهاب في رحلة البحث عن السعادة و عن الروح. "
بدا  علو الجرف كدرجة، إزاحة لقدم و يصبح ساميا هناك. صياد على قاربه يلاعب لجة البحر بمجداف ذي جانب واحد. مداعباته تجعل البحر يهتز و كأنه يضحك من هذه الدغدغات التي لا تنقطع. لم يعد حزينا هذا البحر.

"لم حزنك يشملك و يلفك دون أن يغادرك و الناس و الأشياء حزنها متفاوت مؤقت، يتعاقب مع الفرح و كأنهما ليل و نهار. أنت ليلك سرمدي يأبى الزوال و الانقشاع. لم؟"
"في اليوم الذي تشاجرت مع سعيد  الأقرع سبك و عيرك  بكلام لم تفهم حينها قصده، قال لك " يا ابن الخيرية" فما التفتت لذلك و حسبته من بنات الغضب و فوران اللحظة."
تذكر المشاحنات التي جاءت بعد ذلك عندما سبوه باللقيط و ابن الخيرية مرارا و كيف كان يضرب دون رحمة عند ذاك. ذاكرته صارت ضبابا من جهة الأشياء الجميلة و لا تجلو إلا عندما تؤرقه الذكريات السيئة التي حفرت حفرا في قشرة الدماغ. أي عذاب؟ 
يتذكر اليوم الذي أخذ فيه بتلابيب أبيه وخناقه وقال له: -لماذا ينادونني بابن الخيرية؟ أجبني.
كان في نية الأب أن يخبره قبل ذلك و لكنه لم يستطع، خاف أن ينقلب عليه و يتركه للوحدة القاتلة في عمره هذا. تمنى أن لا ينكشف هذا الأمر حتى يلاقي ربه و لكن هاهو ذا الابن يسائله في الأمر فماذا عليه أن يفعل؟ 
ناوره: -هكذا تحدثني؟ بعدما شببت و تقويت و صرت رجلا تشنق على أبيك الذي رباك و كساك. لحم كتفيك اللذين تتباهى بهما من كسبي.
هذه الكلمات التأنيبية أثرت فيه حتى أنه أطرق برأسه حياء وأدرك أن الأمور لا تسير كما نريد لها أن تسير. أبوه كان إنسانا ملتزما يحب الخير و يعمله. لكن أما كان من حقه أن يجيبه؟
لم يجبه يومها، لكن بعد مضي أشهر، عندما حم و أحس بالمرض يحاصره ناداه و أنينه يعقب الكلمات. طلب منه أن يستريح ولا يجهد نفسه في مثل هذه الحال لكنه أصر أن يخبره. خرجت من بين شفتيه تلك الكلمات التي لم يستطع أن ينساها حتى اللحظة:
-كنت قد سألتني لماذا نادوك بابن الخيرية و هاأنذا أجيبك تبرئة لذمتي قبل أن أسلم الروح، لأقابل ربي سليم الطوية من جناية تبنيك و ادعاء أبوتك. أنا لست أباك و إنما  جلبتك من الخيرية قبل موت زوجتي بعامين. ربيتك و اعتنيت بك و فعلت ما استطعته لتعليمك. إن كنت تسألني عن والديك الحقيقيين فما المسؤول بأعلم من السائل. ذلك أن القيمة على الخيرية وجدتك ملفوفا ببطانية على عتبة الباب.
قاوم البكاء بقوة قاهرة عند سماعه الكلمات، ما كان يقال له من سبات و شتائم يعتبرها من أقبح ما قيل في حقه و حق أبيه صحيح إذن. قاوم الانهيار أمام يدي الرجل الذي منحه الأمل و الأمان. ظل ساكتا لمدة أيام و هو يعتني بأبيه. نعم هو أبوه و إن لم يكن من صلبه. لم يدم مرض أبيه إلا شهرين ثم التحق بالرفيق الأعلى.

يتذكر كل ذلك ووجهه يميل جهة الشمس التي بدأ حرها يلسع بشرته ليتأكد أنه مازال صاحيا. كان أهل الرجل يعرفون أنه ليس ابنه من صلبه لذلك ما إن مات حتى أخذوا المنزل و باعوه، و اقتسموا الثمن وتركوه شريدا. عمه "صالح" هو الوحيد الذي أشفق عليه فأسكنه في غرفة من غرف منزله بالدور الأرضي. كان حينها يعمل بمكتبة أحب العمل فيها حقا لأنه قريب من الكتب. "شتى أنواع العلوم بين يديك و أنت لاه عنها بسيجارة رخيصة و كوب قهوة، تنتقي بين الحين و الآخر كتابا من الرفوف لتمسح عنه الغبار ثم تعيده". در عليه العمل بعض المال فكان يعطي لعمه و زوجته خاصة و أنه ليس متلافا كغيره من شباب الحي.

"هو ذا البحر يتنفس و كأنه يتنهد أسفا عليك و على ترددك و خورك. هو ذا الجرف صامد تحت ثقلك يناشد فيك بعض العزم الذي خرجت به من جحرك مع الفجر"
"طائرك الذي كان بالداخل يملي عليك ضروبا من حيل الحياة قد أيس و طار. لم يعد لك ما تبقى من أجله في عالم وسخ صار فيه المال هو الحياة. اقفز فهناك ستلتقي بما هو أحلك من قطرانك"
ومضات من التاريخ تمر بين عينيه و كأنها شريط متقطع غير محبوك. هاهي مرارة طرده له من قبل زوجة صالح -وليس عمه- عندما سرح من العمل تعود إلى حلقه. نبش في سجن رأسه عن ذكريات جميلة يغسل بحلاوتها تلك المرارة التي سرت من حلقه إلى جوفه فما وجد غير ذكريات الجامعة التي أفل عهدها دون الوصول لشأو. كائنات الماضي تنطق بين يديه الآن و تحيل إشراقة الشمس إلى نور أبيض  يحيطه سواد يغشاه و لا يتغلب عليه. هو ذا وجه "وردة" المتورد يطل عليه بنظرة يملأها شوق إلى لحظة لقاء.
تلك النظرات التي أوقعت أقوى الرجال شكيمة أوقعته في حب فتاة لا يعرف أحدا لم يعجب بها، لكن الأقدار تجمع الأضداد كما تأتي بمفارقة الأنداد. كانت ابنة رجل غني مرموق تلاحظه من عينيها بتلك النظرة و كأنها تنظر إلية من قمة شاهقة و هو في سفحها يتطلع حتى تفارق قدماه الأرض ثم لا يراها إلا نقطة مضيئة بعيدة.
"كلام طويل يحتاج منك قوله لأشهر بلياليها، "وردة" كانت شطحة مضت تمنيت بعدها لو زالت الجبال والقمم وتسطحت الأراضي لا مرتفع و لا مرتفع عليه، لكن هيهات."
"تبتعد عنك الألوان تصير لديك قدرة على البقاء بلا ألوان، كانت نارا لم تشتعل وكنت ماء غير جار راكدا يبول فيه الأطفال، كيف يشعل الماء النار؟
أغيثوني قد جننت، أين أمي؟ لو كنت صبيا لصرخت وصرخت أيا أما تركت وليدا وحيدا ألك قلب من حديد؟ أم أن الحديد يخجل أن يكون لمثلك قلبا؟ "
عاد إلى رؤية البحر و الزبد يعلوه كأنه كشكشة الاختناق، مستسلما مرتبكا غير خفاق يعلوه زورق الصياد ممسكا في يده الصنارة ينتظر منه أن يجود. طاف ذهنه بالدنيا أله فيها مأمول أو حبل يتمسك به؟ لا.
" لو فيك حس رجولة لوهبت هذه الرأس لتلك الصخور، أتعس الرؤوس ما أفرغها من رأس لا تهديك علما ولا مجدا ولا ترى بعينيها غير ظلام ملفوف بظلام. اقفز فسنام المجد أن تدع ما لا تستطيعه إلى ما تطيقه، فالدنيا لديك كركوب بقرة من أبقار البراري  أو حلب كلبة"
" ليتك كنت حيضة أو سقطا أو بقيت في عالم الغيب لا تشهد ظلما ولا يهضم لك حق. أنت تائه في زوابع الغبار لا تلتقط أنفاسك إلا لترى القادم متاهات أخرى حيث الحب متصدع مكسور"  
" مراياك التي كنت ترى فيها الأمل متجسدا راسخا يشمخ يوما بعد يوم، تكسرت إلى شظايا يبدو فيها الألم قطعا متجاورات ينسيك بعضها بعضا"
"ساءت أيامك بعد موت الرجل الذي اعتبرته الأسوة وقبة الأخلاق و أنت بداخلها لاه، سرير رفع من تحتك و أنت مضطجع على جنبك سارح في أحلامك فإذا بك عار يقرصك البرد ولا دثار يغطيك"
"هذا اليوم ستسكت عصافير قلبك عن الغناء وتذوي وروده بعدما أينعت، هذا القلب الذي قوضته الحادثات فمات كسيحا جريحا"
أطال النظر إلى الموج يأتي ويعود، و النوارس تحوم حول الشاطئ لا تفارقه إلى رحيب الأرض وفضاء السماء. ما كل هذا الغرام؟ عجب من نفسه لم تر ما رأته اليوم، عندما راقه الفراق أتت أسباب التعلق. سالت دمعات من جانبي عينيه عندما لفه الحزن فمسحها بكمه مغمضا.
"هي ذي خفقات الطائر الذي هجر عشه تعود من جديد، متردد هو الآخر أيهجر إلى غير عود؟"
مد يده إلى جيبه مستعيدا ذكرى كتابة آهات ماجت في نفسه فانطرحت حروفا على ورق. يكاد يقطر قلبه دما وهو يقرأ ما كتبه سيلا من كلمات ينعتها الحزن من بعيد:
"ما لقلبك أبى الابتسام وصار كل دأبه الانقباض؟
يئس اليأس منك فلا حياة تحياها ولا موت يغشاك، لبثت مرضوض الفؤاد  بعد أن غصب الموت أباك فذقت مرار الحرمان وذقت أوجاع الفقدان"  
"هي ذي حياتي لا ملاذ، يعرفني كل الناس ولا يعرفون أبي، طوقني الزمان بالرزايا فما اعتصمت بالصبر إلا ازدادت حتى لا أقوى، فها قد أتى اليوم الذي انتهى فيه احتمالي"
"من أحب صار حفنة من تراب أعوده فأنادي:
كيف تركتني وأنت تعرف أني لا أقوى على المسير دون عكاز؟
إليك الآن أسير إليك أشتاق فتوقي يجرني إلى متعة الالتحاق ولذة العناق.."

لم يستطع أن يكمل القراءة فطوى الورقة في يده كآية أخرى على العجز الذي لا يفارقه. أخذ نظرة شاملة أخرى لمحيطه قبل أن يركز على أسفل الجرف حيت الرمال تستقبل أشعة الشمس فتضفي عليها لون الذهب.
انتابته في تلك اللحظة هواجس واعتراه خوف شديد مع نسمة البرد التي هبت لتلطم أذنيه في نعومة. سرى فيه ذلك الخوف الطبيعي من الموت أو من لحظة الانتقال وهكذا تكون دائما لحظة الختم مرتبكة فوضوية. سمع صوت موال من طائر غريد، موال حزين أحبه ليكون موسيقى خلفية للحظة لن تعاد.
رجع للوراء خطوات معدودة ثم عدى بما أوتي من جهد نحو حافة الجرف ليهوي من حالق وعلى شفتيه ماتت صرخة عظيمة. في يده اليمنى شد بقوة على ورقة الكلمات وترددت في صدره الأنفاس الأخيرة.
"هي ذي الصخور تقترب، السرعة الجبارة لقوة الجاذبية لا تدعك تختبر سعادة الطيران قبل أن تتبخر، قبل أن تندمج بالأم التي منها أتيت"
الريح بفعل السرعة حاصرته حتى لكأن أذنيه تسمعان هتافات من جانبين، أهي هتافات الانتصار أم هتافات الهزيمة؟ لم يعد يهم، انضم كل شي لنقيضه عند النقطة التي وصلها.

مرت أحداث حياته في ذهنه و كأنها شريط يمر بسرعة مهولة قياسا بعقله الذي طاش تتبعه. يتوقف الشريط عارضا لقطة  تدوم ثانية أو ثانيتين ثم يعود إلى السرعة الخرافية. مزيج من الألوان و الأصوات، حفيف أوراق تقلب، أذان من نوع ما، مزامير صوتها حاد يأتي من جوف أذنيه ليعود إليها داخلا. اختلطت الأشياء بعضها ببعض. سمع صوتا خافتا يأتي من بعيد و كأن بينهما مسافة طويلة، العجيب أنه تعرف الصوت، إنه صوت أبيه يردد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. تتبع الصوت، حاكاه وردد الشهادتين. أحس أن روحه فرحت وانتشت بنطق لسانه، ارتجفت شفتاه لترددها من جديد لكن جاذبية الأرض لم ترحمه. ارتطم بالأرض بعيدا عن الصخور واكتسى كل شيء بالسواد.
أحس بطمأنينة غريبة، هو ذا يسبح في كون من بياض لا صوت فيه. أهذا هو الموت؟ لماذا نخاف الموت إن كان بهذه الروعة؟ أصر شيء ما في وعيه أن هذا لا يمكن أن يكون هو الموت. لا يحس بأي شيء و كأنه روح حرة طليقة. يقولون إن بعض الناس عندما يكون بالغيبوبة يستطيع أن يرى جسده من أعلى. لماذا لا يقدر إذن على مغادرة هذا البياض الذي يحيط به من كل جانب؟
لبث مدة لا تغير في البياض الذي يحيطه ثم اكتسى بنوع من الصفرة التي تميل إلى الأخضر، الآن كل شيء واضح، هو ما يزال محبوسا داخل جسده. أراد البكاء بشدة ولكن البياض له قبضة من حديد. هاهي ذي أصوات مختلفة تسمع كخليط ثغاء خراف جائعات. اتضحت رويدا رويدا. هذا صوت عمه يخاطب شخصا آخر:
-ياله من تعيس تقول إنه في غيبوبة ألا يمكن أن يفيق؟
-الغيبوبة حالة غامضة يمكن أن تدوم يوما أو أسبوعا أو شهرا أو سنوات.
-تقول إن إحدى فقرات عموده الفقري مكسورة، ألا يمكن أن يقف على قدميه عندما يفيق؟
-أنا آسف، لنأمل الأفضل و ليشفيه الله و ليغفر له زلته.

"هربت من موت شنيع إلى ما هو أشنع، هاأنت ذا في غيبوبة محبوس داخل الجسد الذي كرهته. أردت الموت فوهبك الله موتا دون الموت. ذق أيها العاصي فقد رمت الموت فحباك الله بميتات قبل الموت النهائي، ذق.."



 
  إبراهيم البوزنداكي - المغرب (2011-05-07)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

انتحار ميت-إبراهيم البوزنداكي - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia