صاحبة الوجه القمحي-محمد مباركي / وجدة / المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

صاحبة الوجه القمحي

  محمد مباركي    

أشارت إلي  بغمزة من عينها اليسرى أن أمشي في أثرها ، تاركا بيني وبينها مسافة قصيرة ، فانزلقتُ وراءها كتيس مجنون في الأزقة الضيقة للمدينة القديمة ، أدفع  بجسمي سيول المارة ، حتى لا تغيب عني. تابعتها بعينين فاسقتين تتهادى  في مشية الحمام ، متعمدة إثارة شبقيتي اللاهثة وراء المتعة .. أطبقت علي أسقف الأزقة المتربة بشيء من الخوف، وأنا أقرأ كبرياء التاريخ على الدور والحيطان والوجوه، وفي ذات الوقت أتابع ضالتي مرتديا لباسا بوهيميا قريبا من سائح أجنبي .
 
قرأت، كما سمعت، عن صناعة اللذة بالطرق التقليدية والعصرية في هذه المدينة المتحضرة ، وقبل أن أدمجها في برنامج عطلتي الفضفاف، القابل للتغيير في آخر لحظة ، تريثت محاولا جمع أكبر قدر من المعلومات عن هذه الصناعة في الدور العتيقة العبقة بروائح القرون الوسطى .. اقتحمت غرفة الدردشة  الافتراضية ، فوقعت في شباك العنكبوت الأنثى عبر عنوان إلكتروني  واسم مستعار " دلال " ، شغفني الاسم والصوت المبحوح الآتي من سهرة ليلية في قاعة للأفراح خارج المدينة . قالت إنها فنانة ترقص على إسفلت اللذة لمن يدفع أكثر .. تحترف أربع صنائع موزعة على فصول السنة.. تعيل أفواها صغيرة وأخرى كبيرة ، وتهيئ أخا للسفر بعيدا ، و تهيئ أختا صغرى لبيت الزوجية خارج الحدود ..
وفجأة وجدتْ نفسها المتكلم الوحيد في غرفة الدردشة ، فانتبهت إلي ، وسألتني من أكون .. هممت بقطع الاتصال بالضغط على زر الانسحاب النهائي .. أعادت السؤال ضاحكة ثم مقطبة في خبث .. تجمدت عيناي على الصورة المتراقصة في زاوية الشاشة ، ذكرني وجهها القمحي ، بغتة ، بصور بطلات الأفلام الهندية ، كيف أني  حولتهن إلى مؤنسات توقظ حمم اللاشعور في الاستحلام مع نمو شعر الصدر .. تلك أيام قد خلت ، أبكيها في وحدتي بقهر اليتم والضياع والسقوط والإثم ، ويبقى حلم التوبة بعيدا ..
 وصفعتني صاحبة الوجه القمحي بالسؤال للمرة الثالثة:
- قل لي من أنت ؟..
 انتفضت ، وكأني أسمع السؤال للمرة الأولى.. اعتذرت عن صمتي القاتل وقلت:
-  يا سيدتي ... .
قاطعتني من الجانب الآخر مفزوعة:
-  تقول سيدتي ؟ !
 قلت مستغربا:
-  ما الغريب في هذا التشريف يا صاحبة الوجه القمحي ؟
قالت باسمة كشمس الشروق:
-  يا بن الأكارم، إن أبناء وطنك وصعاليك " مدن الملح"  قد أضنوا علي بهذا التشريف ، ونبزوني بالألقاب حتى نسيت اسمي ...
سكتتْ لحظة غير قصيرة ، ثم واصلتْ بصوت مخنوق:
-  أفكر في الأفواه، أطعمها السّحت، ولا تسألني من أين لك هذا، وأحسن ما تفعل، لأن المساءلة نبع من عذابات السقوط المكره في المكروه والمغلف بمقولات الفنون السبعة . تألمت كثيرا يا سيدي ، لما علمت من أمي أن أخي شاهد قرصا مدمجا ، في مقهى، فضحني كيوم ولدتني، بكى أخي وأمي في صمت المقهورين ، ليقرر أخي السفر بعيدا ، وبأي وسيلة ، لينتشلنا من وطن الزبل.
 
ثم عادت إلي قائلة :
-  قل لي من أنت يا بن الأكارم ؟
 قلت :
-  يا سيدتي أنا ابن الفشل العاطفي ، حولته  إلى انتقام مع سبق الإصرار والترصد لشهوة جامحة عبر الأزقة والحانات والمواخير، ألهث وراء جنون اللذة كالثور.. لا أميز بين محطات الانطلاق ومحطات الوصول .. ما أصل إلى محطة إلا لأغادرها.. أسافر عبر كل وسائل النقل إلى هدفي المرسوم بألوان الشوق ..
 
سمعتها من الجانب الآخر تتنهد ، وعيناها تبرق الحنان الممزوج برقة الورد ، فأردفتُ في شوق:
- يا صاحبة الوجه القمحي ، إن قلبي ينبئني بانتهاء آخر رحلة عند قدميك، وإني قادم إليك  أحمل في حقيبتي منامتي وفرشة أسناني  وبطاقتي وجواز سفري .. انتظريني .. انظري إلى وجهي ، والتقطي له صورة بالأبيض والأسود لتتعرفي علي يوم الوصول في محطة القطار على السابعة مساء ا .. أكرر في محطة القطار على السابعة مساء ا .. سجلي ، يا سيدتي ، رقم هاتفي الخلوي  واحفظيه.. تراءى لي وجهك  القمحي  في أحلام اليقظة في الشوارع والساحات والأسواق ، ورسمت ملامحه في لوحة عملاقة جيلا كاملا ..
 
*************************                      
       
في أول يوم من عطلتي السنوية، رميت بجسمي في أول عربة من عربات القطار السريع، والهاتف النّقال يرن ويرتعش بين يدي،  والوجهة مدينة اللهفة ، مدينة الوجه القمحي . وبعد ست ساعات قضيتها بين جالس وواقف أنظر من النافذة إلى كل شيء جامد أو متحرك، وأرسم لحظة اللقاء، وأنتظر ساعة الوصول.
 
وجدتها وحيدة  تنتظرني ، بدت لي كعارضة أزياء ، ناديتها باسم قفز إلى لساني " كلوديا " ، لم تنتبه . ناديتها باسم الدردشة المستعار " دلال " فانتبهت ، وجرينا في تجاه بعضنا ، وتعانقنا طويلا وسط حشد المسافرين وأبطأنا، حتى وكزنا بعضهم  برفق لنفسح الطريق، فلم نعبأ بالوكز والكلام .
ولما وصلنا إلى المدينة القديمة أشارت إلي بغمزة من عينها اليسرى لأتبعها ، ففعلت.



 
  محمد مباركي / وجدة / المغرب (2011-05-10)
Partager

تعليقات:
فاطمة الزهراء /المغرب 2011-05-26
هل انت وؤلف قصيدة الجدار
البريد الإلكتروني : bojan-1995@hotmail.fr

خالد البدوي /المغرب 2011-05-17
كررهتني.. وكان هاذ الموقع غي ديالك .فوقاش ما فتحتو نلقاك قبالتي.خليوا المبدعين الشباب لي مكنعرفوهومش رانا ملينا الرسمية فكلشي واخا فالابداع
البريد الإلكتروني : bitissam_sousou@hotmail.fr

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

صاحبة الوجه القمحي-محمد مباركي / وجدة / المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia