سَقَطتْ بَهِية ُعلى الأرضِ بَعدَما رَقَصَت رَقَصاتٍ عَنيفَة. هَزّت أكْتَافَهَا هَزّا ً، وحَرَّكَتْ رَأسَهَا يَمْنَة ًويَسْرَة حَتَّى كَادَ أنْ يَنْسَلَّ مِنْ عُنُقِهَا. كان في حَرَكات دَوَرانِ رَأسهَا بَحثٌ مُكَثَّف ٌعن بُقعَةٍ بَعِيدَةٍ ذِي جاذِبِيةٍ قَوِيَّة، يَنْزِلُ فِيهَا ولاَ يَتَحَرَّكُ مَرَّة ًأخرَى. رَفَسَتْ بِأقْدَامِهَا الأرضَ رَفْساً كَأنَّهَا تَنْتَقِمُ مِن شَقِيٍّ أو مِن أشلاَء، تَضْرِبُ بِهِمَا وَهِيَ بَاحِثَة ٌعن قُوَى أكْبَر مِمَّا يَسْكُنُ جَسَدَهَا النَّحِيلَ كَي تَضْرِبَ أعْمَاقَ الأرْضِ بِفُؤُوسِها. كَانَتْ مُلْتَفَّة ًفِي ألبِسَةٍ سوداءَ، وَلاَ نَظْرَة ًتَسْتَطِيعُ أن تَخْتَرقَ جَسَدَهَا. اَلتَفَّتِ النِّسَاءُ حَوْلَهَا وكُنَّ الأغْلَبَ، وكَانَ بَعْضُ الذكُور يَنْظُرُونَ إلَيْهَا بِشَبَق. هذا يُمَشِّط شَاربَهُ الكَثَّ، وذاكَ واقِفٌ لا يتمَلمَل، فَاغِرَ الفَاهِ، مُرتخِيَ العَضَلاَت، وكَأنَّهُ يَسْبَحُ في مَلَكوتِ الأنثَى، والآخَرُ تَدَلَّت عَيْنَاهُ، وانْتَفَخَ أنفُهُ، وتَوَسَّطَ السَّاحَة َوكَأنَّهُ ثَورٌ يَتْبَعُ حَرَكَات المَرأة قَبل أن يَنْتَقِمَ أو يَنْتَحِر.
أخِيرا ًسَقَطَت طَريحَة َالأرض، لا تُحَرّكُ ساكِنا ً، وقَد عَلتْ وَجْهَهَا شُحُوبَة ٌوزُرقَة، وتَجَشَّأ فَمُهَا بِرَغوَةٍ بَيضَاءَ سَالَت عَلى شَفَتَيهَا؛ لَقَد غَابَتِ المَرأة. فَتَحَت بَهِيَّة ُ بَابا ًكَانتَ قَدْ قَادَتهَا إلَيه فَراشَة ٌصَفرَاءُ شَاحِبة. بَاب طَويل ٌيُطِلُّ على خُضرَةِ أشجَارٍ بَاسِقَة، أوراقهَا ذهَبِية، تَتَخَللها أشِعّة ُشَمسٍ حَنُون ٍلا تَحرقُ ولاَ
تُزعِجُ. سَارَت بهِية في طريقٍ صَغير مُلتَوٍ كَأفعَى، نُثِرَتْ على حَوافِه أزهارٌ رَقِيقَة بأوراقٍ مُلَوَّنَةٍ وبَرَّاقَةٍ. كَانت تَمشِي بِخِفَّةٍ. جَسَدُهَا شَفَّافٌ تَختَرقُهُ الأنْوِارُ، وتُرَى من خِلالِهِ عَوَالِمُ أخرَى بِألوَانٍ شَتَّى. كانَتْ تَشعُرُ بِخِفَّتِهَا وكَأنَّهَا ريشَة ٌتَطِيرُ دُونَ أن تَفْقِدَ تَوَازنَهَا. كُلُّ شَيءٍ هُنَا جَمِيلٌ، هَادِئٌ لا يُرَوِّع. تَابَعَتِ المَسيرَ، وإذا بِهَا تُشْرِفُ على نَبعٍ سَيَّالٍ تَلمَعُ مِيَاهُهُ كأنّها اللؤلُؤَ. رَكِبَتهَا رَعشَة ٌمَرفُوقَة ٌبِشَهوةِ الارتِمَاءِ في أحضَانِه. عَانَقَتهُ من بَعيدٍ بِرُمُوشِ عَينَيْهَا، تَنَهّدَت بِعُمقٍ وكَأنَّهَا تُبَدِّلُ حَيَاةَ أنْفَاسِهَا من جَدِيدٍ. اشْتَهَتِ الاغتِسَالَ، لكنْ لابُدَّ لَهَا من مَوتٍ صَغِير فيهِ كَي تَحيى من جَدِيدٍ. مَا فَكَّرَتْ في مُرَاوَغَتِهِ أو الإعْرَاضِ عَنهُ، تَقَدَّمَت ْتُدَاعِبُ بِأخمُصِ قَدَمَيْهَا مِيَاهَهُ اللَّمَّاعةِ، فَشَعَرَتْ بِالذوَبَانِ في نَوعٍ من الألَمِ المَمزوجِ بِلَذةِ الانتشاء، إنهَا اليَومَ .. اليَومَ تَعشَقُ هَذا المَوتَ، وهَا هِيَ اليَومَ سَائِرَة ٌ فيهِ، تَغْرَقُ رُويداً رُوَيداً تَعشَقُ النِّسيَانَ لِمُصَادَفَةِ الذاكِرة الرحيمَةِ.
أفَاقَتْ بَهِيَّة ُعلى أصوات الممرضات وهُنَّ يَتَّفِقنَ عَلى حَقنِهَا مَرَّة ً أخْرَى. نَظَرَتْ إلَيهن نَظرَة َحَسرةٍ وألم وقَالَتْ: "ما زِلتُ هُنَا!!" ثُمَّ أغْمَضَت ْعَيْنَيْهَا ومَاتَتْ.