سليمان ماترانج-محمد مباركي - وجدة - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

سليمان ماترانج

  محمد مباركي    

سليمان مدمن خمر.. يعرف كل أسماءها وأنواعها بالعربية واللاتينية. يحفظ الخمريات ويغني بصوته الجميل أغاني محمد عبد الوهاب إلى درجة الذوبان (يا وبور أُ لي رايح على فين). كان رواد الحانات من العرب المغاربة والجزائريين يترجونه و"يكرمونه" بسخاء ليغني لهم ويسكرون على صوته الرخيم المفعم بالوقار والكبرياء. وقليلا ما كان يغني لهم. كان يغني لنفسه ويفضل  ذلك في حمام "الزروقي" بالخصوص.. سُجن عدة مرات بتهمة السكر العلني والإزعاج. تعلم معاقرة الخمر منذ كان يعمل صبيا في حانة الفرنسي  ميسيو "ماترانج" في وسط المدينة الأوربية. كانت الحانة بروادها الفرنسيين والمغاربة والجزائريين هي عالمه الوحيد.. فيها أحس بالحياة سارة.. كان معلمه يعتمد عليه في كل شيء داخلها وخارجها. كان يناديه بإبني الصغير. بل اعتبره فردا من أفراد أسرته الصغيرة، حتى أن الناس كانوا ينادونه ب "سليمان ماترانج" فيزهو  بالاسم، ويحس بأن نصفه مغربي ونصفه الآخر فرنسي.
  بعد الاستقلال، حزن سليمان على ذهاب الفرنسيين. كان يقول أن الخير فاض مع مجيئهم إلى البلاد
ولما غادروا، أخذوه معهم. وكان يحتج على ما يقول بالدلائل القاطعة أمام معارضيه.. وفجأة باع الفرنسي مسيو "ماترانج" حانته لأحد المغاربة من أباطرة المخدرات بمبلغ مغر. وقبل عودته إلى وطنه طلب من خادمه سليمان الرحيل معه إلى فرنسا. لكن سليمان رفض الطلب بأدب بالغ، ظانا أن "البقشيش" الذي كان يدسه الزبائن في بطن كفه  سيستمر مع ابن البلد، المالك الجديد، الذي قـَبِلَ تشغيله في الحانة كعامل متعدد المهام ولساعات طوال من النهار والليل. وكل يوم، كان يزيده متعمدا مهمة أخرى.. كان سليمان ينام واقفا .. هدّه التعب.. تعب كثير في نفع قليل..  فشل سليمان في تحمل المهام المتضخمة يوما عن يوم.. غادر الحانة ساخطا بعد أن بصق في وجه مالكها قائلا:
 "انْتَ جيعانْ يا ولد ال...".
ضربه المالك ضربا مبرحا. حول جسمه إلى كومة من رضوض زرقاء.. كان الضرب رسالة واضحة من المالك لمستخدميه.. بكى سليمان بكاءا مريرا .. بكى العز الذي راح مع الفرنسيين حسب اعتقاده.. وجد نفسه فارغ اليدين من أي صنعة وقد فاته الأوان في تعلم إحداها.. ندم على رفضه عرض معلمه الفرنسي.. كما رفض عروضا للعمل في حانات أخرى لمالكيها المغاربة.. رفض العمل مع " الجيعانين " كما سماهم.
 
زحفت على سليمان البطالة والعوز. وفي لحظة انهيار تام، تملكه شعور جارف، وأد إحساسه بأي رابطة تربطه بالحياة، حاول الانتحار شنقا.. تمّ إنقاذه في آخر لحظة..
عاد يعمل حمّالا في السوق المغطى، حيث تبيع الحوانيت كل أنواع الخمور المحلية والمستوردة.. والقانون المنافق يحرم على أصحابها بيع بضاعتهم للمسلمين.. كان يشتري كل مساء قنينة  خمر وعلبة سجائر من التبغ الأسود الرديء (كازا) وينتحر ببطء معتزا باسم "سليمان ماترانج" ويغني:
 (يا وبور أ ُ لي رايح على فين).
 
في صباح يوم ليس كبقية الأيام، كان سليمان يفرغ شاحنة صغيرة من صناديق الخضر والفواكه..  سمع أحدهم يناديه برطانة من الخلف.. تجمد في مكانه كالصنم.. جحظت عيناه في الفراغ.. الصوت معروف.. صوت عزيز.. لم يصدق أذنيه.. رمى الصندوق الذي كان يحمل.. تشتتت البطاطس على الإسفلت.. دار حول نفسه بسرعة.. سبقت عيناه لسانه بدمعتين حارقتين.
 وصاح:
"ميسيو ماترانج !!".
وتهاوى على الأرض.



 
  محمد مباركي - وجدة - المغرب (2011-06-11)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

سليمان ماترانج-محمد مباركي - وجدة - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia