ذكرى-أسـية عازم - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

ذكرى

من خزانة الزمن الماضي،سحبت كتاب حياتها وبدأت تقلبه صفحة صفحة،استعادت شريط ذكرياتها لقطة بلقطة، توقفت عند أحد اللقطات التي مازالت راسخة في ذاكرتها ولم تستطع السنون محوها.
كان اليوم ربيعيا كل شيء ينبض بالحياة، الماء والشجر، والأرض لبست أحلى قشيبها ففيها الأحمر والأصفر والأخضر، وشقائق النعمان تعانقت والياسمين  وكأنهما حبيبان في أوج عشقهما. هي الأخرى لبست أحلى ما في خزانة ملابسها، تنورة مزركشة بألوان زاهية تسر الناظر وتلهب المشاعر لتعلن عن قوام ممشوق حباه الله بكل مواصفات الأنوثة.
احتارت بين سترات كثيرة "ترى أيها اختار؟ وما الذي يلائم التنورة القصيرة؟" وأخيرا استقر رأيها على أحد الأقمصة التي تظهر كتفين يشعان نظارة.
جلست أمام مرآتها وبدأت مراسيم التجميل التي تتقنها كل امرأة، وضعت الكحل في عينيها مبرزة لونهما البني القاتم، ثم وضعت أحمر الشفاه وأسدلت شعرها بعد أن مشطته، لتتجه صوب غرفة الجلوس معدة مائدة شهية تزهو بالأطباق  التي يحبها، هي تعلم جيدا  أنه يعشق ما تحضره أناملها  رغم عدم تصريحه بذلك، فهو دائم السكوت شغله الشاغل هو العمل ومشاهدة مباريات كرة القدم أو أحد البرامج الثقافية، وكلما حاولت كسر هذا الصمت بمناقشة بعض المواضيع سرعان ما يغلق باب الحوار ويتجه صوب غرفة نومه واضعا رأسه على مخدته، مستسلما لأحلى غفوة تاركا إياها والفراغ. هذا الفراغ القاتل الذي لم تتخلص منه رغم زواجها. كانت تظن أنها بهذه الخطوة ستجد من يؤنس وحدتها، شخصا تتبادل وإياه أطراف الحديث في مواضيع لن تخجل من طرحها ومناقشتها معه، لكن شتان بين الحلم والواقع، فليس كل ما نحلم به ونتمناه ندركه. كثيرا ما عبرت عن رفضها لهذا الوضع مرة بالحوار الصريح الهادئ ومرة بالصراخ والغضب.
حاولت تغيير مسار هذه العلاقة التي تتجه لا محالة إلى الانفصال، ولتتفادى  هذه النهاية بدأت تذوب هذا الصقيع بفكرة ملتهبة نسجت خيوطها منذ الصباح الباكر، وها هي الآن تطبقها عساها تنجح، فكل رجل له مفتاح خاص به يمكنك من الدخول إلى عالمه هكذا كانت تقول لها صديقتها.
جلست على الأريكة تنتظر عودة زوجها ورائحة عطرها الفواح تعبق في كل زاوية من البيت، أغمضت عينيها وتاهت في أحلام سكنت منذ أعلن الزمن أنها أنثى في عالم الرجال، وبينما هي منهمكة في أحلام يقظتها سمعت صوت ضجة خفيفة بجانب الباب ففطنت أن الحبيب والصديق والزوج والأب والعشيق قد أتى، نهضت من مكانها وتوارت خلف الباب وما أن وطأت رجلاه عتبة المنزل حتى وضعت يديها فوق عينينه مغمضة إياهما، في محاولة منها كسر بعض الحواجز والرجوع إلى عالم الطفولة ولو لبرهة من الزمن، فك يديها بسرعة ونهرها بقسوة: " ما هذه الحركات الصبيانية ألا تعلمين أنك امرأة ناضجة" ثم اتجه صوب غرفة نومه غير آبه بالتغيير الطارئ على الزوجة التي أمضت ساعات طوال أمام المرآة.
راح نحو رفيقة دربه التي يمضي معها جل أوقاته بدأ يقلب القنوات واحدة تلو الأخرى إلى أن استقر على قناته المفضلة، تابع باهتمام شديد أحد مباريات الدوري المحلي وما أن انتهت المباراة حتى جر ساقيه نحو غرفة الجلوس فوجد مائدة مزهوة بأشهى الأطباق التي يحبها، تساءل مع نفسه" ما مناسبة هذه المأكولات؟ أهو يوم عيد غفلت عنه؟" نادى على زوجته لكن لا مجيب... بحث في المنزل ولم يجد إلا ورقة كتب عليها :" زوجي العزيز، عندما تنتهي من مشاهدة المباراة لا تنس إغلاق التلفاز وتناول الغذاء ولا تبحث عني فلن تجدني لأني لست من عالمك وفشلت في إيجاد المفتاح، أنا أحتاج إلى زوج أكلمه ويكلمني ولا أستطيع المواصلة في هذا السكون المرعب".
طوت صفحة الكتاب وعينيها مغرورقتين بالدموع، هكذا انتهت قصة حبها الجميل، حب لم يعش طويلا فقد قبر بين جدران الصمت.



 
  أسـية عازم - المغرب (2011-07-18)
Partager

تعليقات:
سعيد موزون /المغرب 2011-07-27
عمل سردي باسق وقصة باذخة ومعبرة تختزل معاناة أنثى وتصرخ في وجه الاسى لعل الحياة تحظى ببريق أمل في وسط تحكمه الماديات وتغيب عنه المشاعر الطيبة جملة واحدة ,تحياتي أستاذة آسية ودمت للابداع
البريد الإلكتروني :

وردي /المغرب 2011-07-27
كلام مووزن مقفى في نص ادبي يشع نظارة مثل كتفي الحلم الذي تقطفينه من باكورة التمني.حين قرأت النص احسست بشلال من الرقة تنتاب اناملي، تاملت مليا في الحروف، وادركت سحرها على القلب والروح.بالفعل نصك جميل، والاجمل فيه تلك الرؤى التي تنبجس من فجاج السرد المتألق... اتمنى لك التوفيق.
البريد الإلكتروني : sofimosta@yahoo.fr

karim /ourzazate maroc 2011-07-20
قصة غاية في الروعةوصل الكتابة اتمنى لك كل التوفيق
البريد الإلكتروني : karim-v@hotmail.com

د . الوارث الحسن /المغرب 2011-07-19
قصة مميزة و متينة السبك تنم عن جدارة اسلوبك و روعة مخيلتك واصلي اختي اسية
البريد الإلكتروني : yasloti_69@hotmail.com

وفاء /المغرب 2011-07-18
قصة جميلة،أحسست بنفس المرارة،شكرالك
البريد الإلكتروني : fofo_1993@live.fr

علي رفيع /بني تجيت ،إقليم فجيج/المغرب 2011-07-18
قصة رائعة جدا تختزل أزمة الحوار المفقود بين الرجال والنساء في عالم العولمة المتوحشة والفردية والأنانية والمادية التي أصبحت تضايق الإنسان في أن يعيش إنسانا حرا طلقا سمحا كما هو مطلوب منه،هذا من زاوية أما من زاوية الشكل أو توظيف التقنيات السردية بشكل أدق أراك متمكنة منها كما زاد من جمالية هذه القصة العنوان الذي يختزل أحداث القصة،ناهيكم عن حسن تبئير الشخصية الرئيسية.بالتوفيق مزيدا من العطاء في العمل التربوي والإبداع الأدبي.ختاما أقول إنها بالفعل قصة تبشر بمستقبل قصصي واعد ،كما أنها بالفعل أجمل ذكرى للقارئ العربي والمغربي خاصة ,تحياتي
البريد الإلكتروني :

ادريس الرقيبي /المغرب 2011-07-18
هو المفتاح الضائع إذن..بناء محكم اختي آسية..رائعة انت حين تمسكين بتلابين السرد..دام لك كل الالق.
البريد الإلكتروني : abou-otman68@windowslive.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

ذكرى-أسـية عازم - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia