ذاكرة النسيان-نافع لكويري - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

ذاكرة النسيان

هداء الى النسيم الذي هب ذات يوم


تتجاذبك حبال الحياة من كل الجهات، كل يوم تنهض فزعا و أنت تلهث، تحضر فطورك وتلبس أي شيء تجده أمامك، تحمل محفظتك الثقيلة و تتأكد من أزرار القميص و أنت تتدحرج مثل كرة مطاطية في سلالم العمارة، و أنت تفكر في زحمة محطات الحافلات، وتدافع الناس على أبواب سيارات الأجرة الكبيرة و المهترئة كثيران اسبانية في شوارع اشبيلية. تحس بايقاع الحياة الرتيب يضرب على رأسك بقبضته القوية. تصل متأخرا كما العادة الى مدرستك. يرمقك المدير الواقف أبدا عند المدخل، كتمثال أتاتورك الرخامي في احدى ساحات اسطامبول بنظرات غريبة، و يسلم عليك بابتسامة باردة، تزيد من برودة أطرافك التي جمدتها تيارات هذه المدينة المسعورة. تدخل مسرعا الى القسم تمسح السبورة، تكتب التاريخ، تتوقف لحظة عند التاريخ الهجري، تسأل التلاميذ للتأكد، يتجاهلونك، فربما لا يعرفون حتى التاريخ الميلادي. وجوههم البئيسة، و سحناتهم السمراء، و شعورهم المجعدة، وثيابهم الرثة، تجعلك تلعن كل شيء، بما في ذلك الطبشور الأبيض الذي تبهت خطوطه بعد حرفين أو ثلاثة. تبدأ في شرح الدرس بعد أن تكون العاصفة قد هدأت قليلا. تحس طاقتك تنفذ مع مرور الوقت، و تلك العيون التي كانت ترقب كل حركاتك، منتظرة شيئا جديدا، بدأت تشيح بوجهك عنها، فتغتاض و تنقض على أول ضحية، تشبعه سبا وشتما و تلعن النهار الذي جاء بك الى هنا، و تمسك بحزمة الأدوات الموجودة على الطاولة وترمي بها في اتجاه الباب، يسرع المسكين الخطى، يجمع بعض ما وجده في طريق. ويخرج مطاطئ الرأس دون أن ينطق بكلمة واحدة. و ينعطف الى يمين الباب ليتنظر انتهاء الحصة و يقدم لك اعتذاره. ينتهي الدرس و تتخبط بين الكتب و الوثائق الادارية الموضوعة بفوضى فوق المكتب، تفتح دفتر النصوص، تستفزك تلك الخانات البيضاء، تحس أنها تضعك في خانات أضيق. تخربش قليلا على ورقة التنقيط، ثم تسرع في وضع كل ذلك في المحفظة و تنطلق مرة أخرى الى محطة الطاكسيات، لتتكدس مثل خروف وسط الكتل اللحمية، و تستنشق روائح العرق المنبعثة من ابط رجل يبدو أنه خرج للتو من صندوق قمامة. تصل الى الدار منهكا، شاعرا بغثيان يكاد يطرد كل ما في جوفك. تأخد حماما ساخنا، و ترتمي دون أن تمسح جسدك المتقاطر فوق السرير، و تحملق في سقف البيت الأبيض، و تحس بالأشياء تتلاشى شيئا فشيئا. تستيقظ بعد ساعتين و تتقلب في فراشك، تحس ببعض الانتعاش و الهدوء، تغمض عينيك و تسترجع تلك الذكرى الوحيدة التي استطاعت أن تبقى معك بكل تفاصيلها رغم مرور كل هذا الوقت. تتأمل في رسم كلمة دكرى، و لا تعرف لماذا الآن تنتبه الى تلك الألف المقصورة في آخر الكلمة. كأن واصع الخط كان يعرف أن الذكريات لا تسترجع على ايقاع واحد، بل هي تموجات ينزل بعضها الى قاع الذاكرة و تعلو أخريات حتى تكاد تنطق.
لا سبب مقنع يريحك لكنك تعرف أنها أول حب غريب يعتري حياتك. كانت تكبرك بسنوات كثيرة، و كنت في بداية اكتشاف جسدك وروحك تلتقيها في سلالم العمارة، لكنك اكتشفت أول يوم رأيتها بعد وقت قصير من سكنهم في الشقة السادسة من الطابق الأعلى من طابقكم مباشرة أن شيئا ما يتحرك داخلك، و سعادة غامرة تعتريك كلما تآمر القدر على لقائكما. كانت عيونها عسلية، و شعرها البني المنسدل على كتفيها كعنقود عنب موسمي، و جسمها المكتنز المهتز ببطء كلما حركت رجليها على السلالم، كانت تبتسم اليك ابتسامة جميلة ممزوجة بالخجل، و تحيك  بتلعثم بالغ. كان يبدو أنها لا تذهب الى المدرسة، و عائلتها محافظة جدا، فلم أكن أراها وحيدة الى اذا نزلت الى البقال أو المهتف أو المصبنة المجاورة، أما في باقي الأوقات فكانت أمها لا تفارقها أبدا. تواطأنا على اللقاء في السلالم دون اتفاق معلن، أو ربما أنا من كان يضع أذنه على الباب ليتنصت على وقع أقدامها التي أصبحت مألوفة، ليفتح الباب و يتظاهر أنه أيضا ينزل لشراء أي شيء.
بدأت  تحس  بالفرحة عند كل لقاء، و بالحزن كلما تأخرت أو غابت أو سافرت. و بدأت تعرف أيضا أن هذا هو ما يسمى الحب، هذا ما كنت تراه و تسمعه على التلفاز و تراه وأنت ذاهب الى المدرسة ... رجل و امراة يمسكان بأيديهما أو يتعانقان أو يخطفان قبلة في خلسة من الناس. كنت تتساءل عن معنى كل هذا،  و عن السر وراء كل ذلك، و تتمنى أن تعرف بماذا يحس هؤلاء الناس، أن تجرب هذا الشعور... أن تعيشه. فها هي الدنيا قد ابتسمت لك الآن، و ها هي الأقدار تأتي بهذه المراة من مدينة أخرى لتضعك على طريق الجنون.
كنت تتساءل، بعد أن لم يبق للشك في قلبك مكان، من أنك الآن عاشق، ان كانت هي أيضا تحس تجاهك بنفس الشيء، خاصة أنها  معك فقط تكثر من الحديث و الملاطفة في باب العمارة، لك وحدك امتدت يدها الى يدك في ذلك اليوم لتتضرع اليك أن لا تخبر أحدا بسقوطها على الدرج. لكن  ما العمل الكلمات تتجمع في فمك ثم تختفي، تقضي سحابة يومك في حفظ ما تقوله لها عند أول لقاء، لكن عند أول نظرة تنسى كل شيء. تخاف من الاعتراف لا لشيء الا لأنك تخاف من رفضها لك، و تتمنى أن تبقى على هذه الحالة  من القلق، على أن تهجرك نهائيا. لكن القدر لك بالمرصاد فبدون مقدمات ستطلب منك عنوانك الالكتروني، و ستجد في هذا العالم الافتراضي الأمان و الشجاعة على الأقل لن أتلعثم امام لوحة المفاتيح، و لن أرى نظرات الازدراء في عينيها و انا أصارحها بحقيقة حبي لها. بعد يومين أو ثلاثة من الدردشة حانت ساعة الحقيقة، جمعت قواي، و ركزت نظري جيدا على اللوحة حتى لا أخطئ في أي كلمة أقولها، و كتبت بأيد مرتعشة .... أنا أحبك.... ضغطت على زر الارسال، و تراجعت الى الوراء ، أغمضت عيني، بعد برهة فتحتهما ببطء وركزت نظري على الشاشة، كانت كلمتين لن أنساهما ما حييت. ببراءة كتبت.... انا أيضا....صدمت و عقد لساني لم أدر ما أقول، فصلت الحاسوب عن الكهرباء و هربت مسرعا، و أنا أرتجف، الى فراشي، غطيت رأسي ببطانية علني أخرج من رعشة البرد التي ألمت بي، و بقيت لا أدري كم من الوقت و أنا في غيبوبة لذيذة. أحسست أنني كبرت كثيرا. لقد أصبحت رجلا كاملا، وعلى الجميع من الآن فصاعدا أن يحترموك.
أصبحت هي أنت و أنت هي، روحان حللنا بدنا،الآن هي هنا، هواؤك الذي تتنفسه، روحك التي تحيى بها، قلبك الذي يخفق بين ضلوعك، ماؤك و طعامك، حلمك و يقظتك، حزنك وفرحك، جنية سكنت روحك و انتهى الأمر، هكذا قلت مع نفسك. في مواجهتك الأولى لها،بعد الاعتراف، لم تتمالك نفسك، نظرك إليها بعين نصف مفتحة، و بقوة سرمدية قلت لها ..... احبببببببببببك......... و قفزت على السلالم لا تدري أين تضع رجلك. زال الخجل الأولي، و أفرغت كل ما تعرفه من عبارات الحب و الغرام على شاشة حاسوبك، هذه الآلة التي أطاحت بقلوب قبل أن تطيح بعروش و دول.  تلقيت عبارات بسيطة، لكنها كانت تنعش قلبك، تشعرك بالوجود، تهزك هزا، تفقد عقلك و قلبك معا. لم تبق الا خطوات وتصبح رجلا، القبلة الآن هي مفتاح السر، هي التي تجعل هذا الحب يلتهب، و لكن الخوف منها أكثر من خوف الاعتراف. ماذا لو رفضت؟ ماذا لو صفعتك ؟ ماذا لو كان طلبك هدا هو أخر ما ستقوله لها؟ أي حياة ستحياها بعد أن تتخلى عنك؟  هواجس كثيرة تنتابك،لكن لابد من المغامرة، هذا ما قررتهذات مساء.
كنتما تصعدان معا على سلالم العمارة، تتحدثان في شيء عادي ربما، عندما حدث شيء غير عادي أبدا، عندما وصلتما إلىأمام شقتك، وقفتما وجها إلى وجه، تأكدتما ألا أحد يراكما، و في لحظة توقف فيها الزمن عن الحركة، اقتربت بارتعاش منها، و دون مقدمات ارتميت على شفتيها، ووضعت فوقهماأول قبلة عميقة، توردت خدودها، و احمر كامل وجهها، و عانقتك بلهفة،أحسست بجسدها الدافئ،أبعدتها قليلا، مررت بيدك على وجهها تستوعب ملامحها، كأنك تريد أن تتيقن من الحقيقة، هي هي التي قبلتها، جسد أنثوي سماوي، و ليست وهما ترسمه خيالاتك الجامحة. تركتك واقفا جثة هامدة، و جرت تلملم خجلها مثل لعبة عيد.
في مدخل الجنة ... كان لقاؤنا
ما أجمل اللقيا بلا ميعاد
في شفتيها.... كان شفاؤنا
يا ليتها ولدت في زمان ثاني
هكذا كنت تحاول أن تكتب لها بعد دلك أولى قصائدك.
و تكررت اللقاءات الخاطفة، و تكررت معها القبلات الممزوجة بالخوف من افتضاح أمرنا، الممزوجة بالفرحة و المتعة و الألم و الرغبة، و سكرنا بخمرة الريق، و ضحكنا، وتطارحنا كلمات الحب تحت الأشجار و تحت الأمطار و تحت الشمس، و تمالكنا أنفسنا، و فقدنا أرواحنا في جنون القبل الهاربة المتبوعة أبدا بغصة الشوق  الأبديإليها، إلىأنفاسها، ولهاثها،إلى صوتها،إلى نظرتها الحانية،إلى رائحتها التي تسكنني أبدا،إلى كل حركاتها و سكناتها،إلى رغبتها المتوقدة التي تزيدني جرأة.
حتى كان ذلك اليوم الذي خلت فيه الديار. كان اليوم يوم سبت، و لا زلت أتذكر لطافة الجو فيه، و كأن القدر كان يتواطأ معنا، كان يوم زفاف إحدىبنات الجيران في العمارة المجاورة، و كانت أمي و أمهامدعوان إلى الحفل، ذهبا معا و بقيت وحدي في البيت، و كنا قد اتفقنا على اللقاء في دلك المساء، و بعد أن نام أخوها الصغير، نزلت على أطرافأصابعها وتسللت إلى بيتنا الذي تركت بابه مواربا. كانت ترتجف من الخوف، و كنت مثلها و إنتظاهرت ببعض الشجاعة. جلسنا على أول مقعد صادفنا، و بدأنا نحس بشيء من الاطمئنان والهدوء. لأول مرة أحسسناأن الوقت لا يطاردنا و ان الأمن يحرسنا، جلست بجانبها أتأمل وجهها، و كأنيأراهلأول مرة، و ضعت يدي على شفتيها، مسدت شعرها، خبأت رأسها في صدري كطفل أعادوه إلى أبويه، اعترفت لها للمرة ربما الألفأننيأحبها و أهواها و اعشقها و.............. و أخبرتهابأنهاأغلى الناس، و أجمل الناس، و أحلى الناس، و اعز الناس، و قلت لها بعض ما احفظه من قصائد الغزل، و غنيت لها، و كان قلبي يرتج مع كل كلمة، و كذلك فعلت حبيبتي، و كذلك قالت... التحمنا من جديد و بسرعة انسجمت شفتانا، و تشابكت أصابعنا، و غرقنا في عالم لا منتهى له، و أحلام لذيذة بلا ألوانأو خطوط، عالم هلامي و لكنه رائع. مررت بشفتي على وجنتيها، قبلت جبهتها، قبلت شحمة أدنيها، انزلقت كمجنون إلى عنقها، أوشكت على الانهيار، و قد استبدت بها شبه غيبوبة، بقينا على هده الحال لا أدري كم من الوقت، لم يعد للزمن قيمة، و قد تعطلت كل حواسنا، و لم تبق الا حاسة واحدة متوقدة، هي حاسة الحب السحري، قبل أن تدفعني بكل قوتها، و تجري نحو الباب و هي ترسل إلى بقبلة في الهواء التقطتها و تهاويت على الكرسي و أنا مخدر تماما.



 
  نافع لكويري - المغرب (2011-07-26)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

ذاكرة النسيان-نافع لكويري - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia