الكاتب-محمد مباركي / وجدة / المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

الكاتب

  محمد مباركي    

"مات الكاتب.. لم يمت الكاتب". بهذه العبارة القصيرة أبّنه أحد الرفاق.. رفاق القلم .. مات وترك إرثا من بنات أفكار يتيمات، في ملجأ كنّاش ضخم، ضمّ مسودات لا يستطيع إنسان عادي فكّ شفرات سطورها.. مات وحيدا في غرفة فوق سطح إحدى الدور المتهالكة من منتصف القرن الماضي،  بمرحاض واحد مشترك مع الجيران، ونافذة صغيرة تطل على إحدى الأسواق الشعبية.. منها كان يتأمل، في صمت، حيوات المقهورين في صراع مع كسب اللّقمة الممزوجة بالعرق وبحّات النداء .. منها استلهم صورا، حولها مع سكون الليل إلى كلمات صادقة تعري المسكوت عنه في حنايا هذه الأقوام، التي  تسمى تجاوزا أمة محبوبة.. أمة ممقوتة.. في وحدة غريبة للأضداد!! أمة تعادل في أدبيات الميكيافليين كومة جيف.
وجد الكاتب نفسه وحيدا في يمّ يعاند تيارا بحريا جارفا من تلك التيارات الباردة القادمة من بعيد. كان المسكين يهذي في الطرقات صحبة بعض "الحمقى". ينامون نهارا ويستفيقون ليلا، و يعيشون مقولة
" نهاية التاريخ ".. كانوا يكتبون ويكتبون، وتسيل كلماتهم مع جداول الحبر الأسود تعانق الصمت والإهمال، لتتحول بعد ذلك مع مياه المطر إلى بالوعات المياه العادمة .. أغلب شبكاتها موروثة عن الاستعمار.
فكر الكاتب يوما أن يشعل النار في غرفته، بعد أن يغلق بابها من الداخل بإحكام، ويقيم مأدبة نارية تلتهم المسودات، محاكيا ذلك الفيلسوف المتصوف من القرن الرابع الهجري، لمّا "دارت عليه دوائر زمانه  ورأى أن كتبه لم تنفعه"، جمعها وأحرقها في يوم مشمس من أيام بغداد الغارقة في الخمريات والراقصة على ثورة الزنج، على أنغام عود إبراهيم الموصلي.
قال الكاتب لرفاقه يوما:
 " تعالوا لنهرق الحبر الأسود على وجوه الكذبة، ونسحق الأقلام ونغير المهنة إلى الشحاذة في الخمارات مع العتمة بعد أن نقطّع أناملنا ونحولها إلى عاهة للكسب، ونستريح" .
                                          
                                        *****************
 
جاء هذا الكاتب منفيا، يجتّر فاجعة وطن جريح.. وطن مجاور، وضع كل مثقفيه في لائحة سوداء، ازدحمت بأسماء مرشحة للموت في أي لحظة وفي أي مكان وبأي طريقة .. تترصده  الحواجز الطرقية المزيفة بالذبح ، وبالرصاص إن كان محظوظا.
ودّع "العجوزين" بدموع كالسيول الموسمية في مرتفعات " آسام "، وفرّ غربا إلى أقرب نقطة حدودية لوطن آخر، مسالم .. تخّفى في أسمال شحّاذ، ومدّ يده يستجدي المحسنين وعينه تراقب ما بقي من مسافة الخلاص.. أحسنوا له واقفا وجالسا على قارعة الطريق وقرب أبواب المساجد.. ولم يسلم من التقريع والاستهزاء.. وزحف نحو الحدود البرية مشيا حتى اجتازها، ومع اجتيازها اندثر الرعب..
 واستقبله الوطن المجاور بالأحضان والترحاب، وأطعمه من صندوق أبيض، وأمّنه على روحه.. وتحول وطنه إلى ذكرى .. إلى قصاصات أخبار ملوثة بإبادة المثقفين والبسطاء.. جاءت رسائل الأصدقاء تطالبه بالسفر إلى أبعد نقطة في هذا العالم حتى لا تلاحقه لعنة المجرمين. فقد أقسموا بأغلظ الأيمان أنهم في أثره  أينما حلّ..
شاهد صور الأصدقاء في الجرائد مكفنين بعبارات التأسي والدعاء لهم بالمغفرة.. حزن على وطن قرّب جحافل الشهداء لينال صّك الحرية.. ضاعت بين نهب الاستقلال وخناجر ورصاص المجرمين من الفئتين الضالتين.. وتساءل عن أي قناعة تبيح القتل، بعد نصب المحاكمات الفضائية.. والتهمة، كاتب يملك قلم الدمار الشامل، ينسف به أفكار الفئتين الضالتين المولودتين ولادة قيصرية.
 "من أفسد من ؟".
" هل الانعتاق هو من أفسد الأمّة أم هي من أفسدته ؟. أم هي مراجعة للنفس في أفران عالية لإنتاج إنسان من فولاذ ؟ أم هي نبوءة ذلك الشاعر العملاق "حروف التاريخ مزّورة حين تكون بدون دماء" قد صدقت في وطن عاش بين الخوف والرجاء؟".
مات الكاتب متأثرا بجراح النفي الاختياري من وطنه القريب البعيد. كان إذا اشتدّ به الحنين لوطنه، يطلب من أحد الأصدقاء أن يحمله في سيارته إلى منعطف "بين لجراف" الحدودي، ليشاهد جزءا من وطنه من وراء الزجاج. يكتفي بالتلويح لأناس مارين في عجالة غير عابئين بتلويحه.
 
في المقبرة قال أحد أصدقائه غاضبا:
- " تبّا لهم، لم يرسلوا حتى أصغر موظفي قنصليتهم".
ردّ عليه آخر:
- " سيحتفل بذكراه يوما، كما احتفل الأتراك ب "ناظم حكمت"، الذي مات غريبا في وطن الآخر في ستينات القرن الماضي..
علق آخر:
"ربما سيطلقون اسمه بعد قرن، على زقاق بحي فقير بمدينة "سيدي عبد الرحمن" على سبيل التشفي".
 
مات الكاتب وحضرت لتأبينه عدة قنوات تلفزية، أرضية منها وفضائية، إلا قناة وطنه العزيز، كانت على موعد مع خطاب السيّد الرئيس في حملته الانتخابية، تحول إلى "احْلايْقي"، أضحك فيها جمهور الأتباع بمقولة:
" قْشَاوَشْ بَخْتَ وَفْنَاجَلْ مَرْيَمْ ".
 
" مات الكاتب.. لم يمت الكاتب".



 
  محمد مباركي / وجدة / المغرب (2011-09-19)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

الكاتب-محمد مباركي / وجدة / المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia