الشارع المجنون-علي بختاوي-البرازيل
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

الشارع المجنون

  علي بختاوي    

أرق . أرق . أرق .. منذ وصولي لم أنم جيدا . لم يهدأ لي بال . ومن هذه الليلة سيبدأ عندي عدد السنين والحساب . الكنيسة المقابلة لبيتي في الطابق الأول من العمارة تطبخ في صخب رهيب . حناجر غليظة الصوت . أدعية يصاحبها بكاء مرفوع على سلالم من دموع الى السماء . عبثا وضعت مخدتي على أذني لأطرد ضجيجهم وموسيقاهم المدوّية الصاخبة . الله ليس أطرشا . سميع بصير بالعباد . فلماذا هذا الصراخ ؟ . لماذا يهتكون عفّة الليل لماذا ؟ . بعد ربع ساعة . استقامت ماريا في وقفة رجولية :
- ألا تتركونا نتناول عشاءنا في هدوء . إبنتي قفزت فزعة من رقادها .هي التي لم تنم نهارا كاملا بسبب حرارة الصيف والجو المشحون بأزيز السيارات و الدرّاجات النارية ذات المحرك الذي يصم الأذان .
- هذه طقوسنا للرب . للروح القدس  . آه . أنت لا تدرين أنه الآن أنزل عليك غضبه . سخطه . لعنته ..
رفعت أصبعها الوسطى . ركزتّها في وجه الكاهن غبريال . ثم وضعت يدها اليسرى فوق فرجها المستور بقطعة قصيرة من الحرير الأحمر . هه . ! . ماذا يجري قدّامي ؟ . أي شيء أسمع ؟ . عبثا بسملت . باطلا قرأت الصمدية . تعاميت فصرت أعمى . الفخذان يشعان تحت لمبات الكنيسة . القلب يتدلى مثل حبّة تفاح حمراء اللون . آن له أن يسقط . هو سيسقط لا محالة . أعرف أنني بعد ساعات سأندم . و أرجو من الله الصفح والغفران . غبريال ينتفض كديك رأى دجاجته تتمنّع . تكتكت . تنقر الأرض مقدمةً محجمةً . هل صارت حجابا بينه وبين طفل الله الذي يدّعيه ؟ . بعد أكثر من عشر دقائق ينفض رأسه فتهتزّ خصلات شعره الكستنائي . الأملس . الرطب . يحاول قدر الإيمان الذي قدّر له أن يكسبه على مراحل من حياته . النأي . الهروب الى أعماقه . أين يرقد المسيح في دمه وعروقه . صمْتٌ من جانبي .. إنخفضت الأصوات . تلاشى الصراخ . السكينة تلف الشارع الطويل بمحلاّته  وصالوناته وباراته . فقط شتائم متعاقبة . متبادلة . في حقيقة الأمر قليلا مايشمت غبريال . أو يسب أو يأتي بفعل جارح . غير أن ماريا تمادت . استغلظت كلماتها . نسمة ليل صيفية هبّت . مرّت على الوجوه المعروقة . الحائرة . المتسائلة في تردد ليّن . ارتاح لها الجميع . حلّت الطمأنينة . زار الشارع المجنون سكون مهيب . تقدمّتُ من غبريال . كان لزاما عليّ أن أتقدّم . شيء ما دفعني .  رأيت شيئا غامقا قاتما يتلوّى في عينيه . من أكبر السارقين والنشطين في المتاجرة بالمخدرات والسطو والإغتيال كان . صرّح لي بعظمة لسانه أكثر من مرّة . أنه اغتنى . ملك سيارة و منزلا من ثلاث طوابق . افتتح محلات هنا وهناك . اما التحابب مع امرأة ما فذلك مالم تصبه يداه . قال أن حكّة هجمت على عضوه فإنتفخ ثم برزت ثآليل عليه . جرّب أكثر من دواء . زار كل اطباء البرازيل ولم يفلح في اكتشاف نوعية السقم . الأمل الوحيد الذي يحدوه الآن ويهدّيء من بلوته هو الصلاة للروح القدس . التضرع . البكاء . قراءة الإنجيل يوميا .. لعل وعسى .
-    غبريال
-    نعم علي
-    إهدأ . إهدأ قليلا ياغبريال . من يدري . ربما كانت متيّمة بك فلم تجد طريقا غير هذا .
بان الخجل على طيبة ملامحه . برقت عيناه . رمشَتْ . اهتزت شفتاه . حاول تثبيتهما لكنه لم يقدر . الحب يصنع بأهله الأعاجيب . في اللحظة التي اختفت فيها ماريا ربتّ على كتفيه . قلت ماكان عليكم أن تتركوا طنجرتكم تطبخ حتى تصل رائحتها الى الجيران . الصلاة مناجاة . رحيل الروح في راحة و سكينة الى الله . أنا كذلك قلقت . رجّني فزع رهيب . أغلقت ضلفتي نافذتي الزجاجية غير أن صوتكم الضاج  . المدّوي . موسيقاكم المدمدمة . خبط أرجلكم على الأرض . زعيقكم المصاحب لزوبعة من التصفيقات . كل هذا جعلني أقف في السطر الأول من القصة . طبعا أحترم دينكم والمسيح عليه السلام  كرسول . لكن أنت تدرك حرمة الجار.  راحة المريض . استراحة العامل على سريره بعد نهار من الكد والجهد . إسمع ياعزيزي غبريال . أنت .... ؟
صرخ في وجهي :
-   لا تناديني بعزيزي أو بإسمي . أنا إبن الله . أرجوك أخي . ناديني بهذا الإسم . هل فهمت . ؟
- الله لم يلد ولم يولد ياغبريال . كتابكم لا يورّث الخطيئة . كل شاة سوف تعلّق من رجلها . إذا كان آدم  قد وُلد من غير أب و أم . الأولى أن يكون ربا . ثم أنّ الإنسان يريد النسل لسببين . إما أن يكمل نقصه في الوجود . أو أن يكون له ولدا حتى يورّثه . والله مالك الملك . على أية حال لكم دينكم ولنا ديننا ..
- لست متأهبا أو على إستعداد حتى أناقشك الآن . ماريا هي السبب . أخلطت كل شيء
- لا . لم تقل ماريا إلا الحقيقة ..
- طبعا أنت في صفها
- أنا في صف الحقيقة
- دعني أكمل صلاتي للرب الذي هو رأس الكنيسة . ملاكها الطيب الحنون . المجد لإبن الله ..
ناداني والد ماريا . من خلف قضبان بابه الحديدي ناداني . '' غدا . نعم غدا . سأرفع شكوى الى الجهات الرسمية هنا في الريو دي جانيرو . عليك أنت و ... وتساءل رافعا عينيه الى نافذة بيتي : هل هذه التي تطل من النافذة زوجتك . ؟ ''  لا . مجرد صديقة .  '' .. '' آه  العفو . ! . إذن ستمضي أنت مع ثلة من الجيران في الشكوى و إن أردتَ ابصم الآن . وأكتب إسمك .. '' . . لكني زائر خفيف . أيام قليلة و أغادر هذه العمارة . '' . ضغط على شفته السفلى . بدا فمه خارجا الى الأمام . بدا أطول و أكبر حجما من أنفه الأفطس الصغير . حازما تظاهر . يداه تنفتحان و تنغلقان على شكل قبضات متعاقبة . من هذه الساعة سيلعنني . سأبدو في نظره مجرّد منافق أدخل لسانه . أفشى سمًّا و انسحب . سيؤكد لماريا ذلك . وفادة هذا المسلم الى هنا أمر يجب الوقوف عنده .. من خلف ظهره . أمام طاولة تناثرت عليها أوراق الكارطة كانت ماريا جالسة . أنفاسا متتابعة تمجها من سيجارتها . رجلها اليسرى فوق أختها تلعب في الهواء . ترى في ماذا تخمن . ؟ . في غبريال .؟ . فيّ أنا . ؟ . فيما جرى بيننا من كلام .؟ . لابد أنها تفكّر في مسألة يعسر حلّها . يصعب التحديد . القطع . الجزم بأنها حسدتني على إيثاري ''لفبيانا'' بدلا منها . الأيام السابقة تؤكد كم مرّة لمحّتُ لها . أشرت . لساعات واقفا ترصدّتُ حركاتها . إطلالة تقاسيم وجهها المضمخ بنسمات المساء الصيفية . مداعبة طفلة في الثالثة من عمرها . بنتها على ما أظن . أجبت نفسي يومها في حيرة غامضة . كانت تكتفي بالنظر إليّ . مرّات تمتص حلوى مثلّجة . تقلّب قطعة الحلوى بين شفتيها كما لو أنها تقلّب عضوا منتصبا . صراحة لو كانت مستعدة نفسيا وشعوريا لي لأستجابت لدى أوّل لمحة . النصرانيات لا يعرفن للحياء او للخجل سبيلا . فسرّتُ ترددها على أنها متزوجة . لكن فيما بعد عرفت من لسان غبريال أنها مطلقة منذ شهور . لابد أنه شغفها حبا . و إلا ماكانت أثارت تلك الزوبعة . في مطبخ صغير لا يتسع سوى لثلاث منضدات وكراسي بلاستيكية بيضاء . محكمة الصنع . اخترت لوجودي مكانا . هنا القبض عليهم سهل . من اليسر بمكان اقتناصهم . واحدا  واحدا .  غبريال . لوكس . أندريانو الأسود و زوجته البيضاء كالزبدة . ونفر آخر من أهل الكنيسة . ماريا في قبالتنا تماما . لا يفصلها عنا سوى باب حديدي مضلّع بأعمدة مدوّرة . بين العمود و الآخر نفس المسافة والقياس . تستطيع أن ترى . تسمع . وربما تحلّل حتى ملامح وجوهنا تحت ثريات النور المتدلّية من سقف المطبخ . والد ماريا يراني لأوّل مرّة بعباءتي العربية البيضاء اللون . عليها نقوش عربية خُطّت وفُصّلت بإتقان . ''نحن العرب نبث رائحتنا في كل مكان . لكن ظلمنا أنفسنا كثيرا . كثيرا جدا '' . قلت ذلك قبل أن يفدوا . يهلّوا . يحلّوا . فيحلوا لهم الجو . للمرّة الاولى يرونني في عباءتي . إختلاف الثقافة والدين والتقاليد  يملّح الجلسة . يعطي للفضفضة مذاقا استثنائيا . في اللحظة التي وفد فيها لوكس وغبريال تغيّر حالي . حضرني حزم و لين . شيءما يشبه الصلابة و الرخو . الإنسان مجبر على إحترام أرض الآخرين . حتى و لو جاؤوا بطقوس و أعراف ليست على مقاسنا . ومهما يكن الحال نحن أرواح و الأرواح عزيزة مكرّمة لدى خالقها .. في اللحظة التي نوى دماغي الذهاب بعيدا . استقام غبريال في وقفة تضارع وقوف عسكري يحترم من أعلى رتبة منه .
-    أمازلت هنا ؟
-    مازلت هنا
-    ظننت أنك مللت انتظارنا فذهبت
-    أنتم تقدسون الوقت و المواعيد . أليس كذلك يا..... ؟
-    غبريال . قلها . كان ممكنا أن أكون معك متسامحا منذ تعارفنا في هذا الشارع المجنون حسب تعبيرك
-    أحيانا تكون السماحة احدى وجوه الإنتقام
-    ياأخي دعك من كلام الفلاسفة . مهما كان حالهم مثلنا و ربما كنا أفضل منهم
ورفع كأس الكوكاكولا عاليا مصوّبا عينيه نحو لوكس صارخا:  ''في صحة صاحبنا العربي'' .. اليد الممدودة كي تضع الكأس في قبضتي بقيت لثوان معلقة في الهواء . شاردا . ساهما كنت . منقادا نحو الرسو الى شاطيء تعبت في الوصول إليه . '' أين أنت ؟'' . في محبة ولهى سألني غبريال . أجبته أني هنا . هل كان يراقبني خطفا .؟ . يأكل الدود عيني اذا لم أقل أن ماريا شعّت ابتسامتها من بعيد . لمن كانت تبتسم .؟ و لماذا في هذه اللحظة بالذات . ؟ . ربما عباءتي دعتها تبتسم . أقول ربما . يعني ليس قطعا . خمنت وبجسارة . لما لا أدعو ماريا لتشاركنا هذه الجلسة . ؟ . هل تأتي ؟ . و اذا رفضت كيف يغدو حالي . ؟ . لابد أن أكون شجرةً كلّما تقدم الفأس لقطعها إلا عطّرته برائحتها الطيبة . نحنحتُ . مضمضت فمي برشفة من مشروب الكوكا ثم ناديت : ماريا . !
-    وي . !
-    أريدك في أمر
-    دقيقة
خصرها متواطئ مع ردفيها . لذلك كلما تقدّمت خطوة إلا تمايلت من تحت الحزام يمينا ويسارا . حين أطلقت عينيها لتتحسس أمن الطريق بان نهدها مستوفزا . نافرا كحمامة تطل برأسها فوق مئذنة نحو السماء . الأمان . الأمان يارجلا رمته الدنيا الكلبة هنا . إطلالتها منح الجلسة توابل أخرى . تضاءل نور الثريات بسبب اشراقة هلّت من إبتسامتها . بعينين دهشتين يرمقها غبريال . حين حدست ذلك أعطته ظهره . وهي تنتظر حتى تنقشع فقاقيع وشنشنة الكوكا رمتني بنظرة هادئة . ما من نظرة من قبل إمراة إلا وراءها مايجلب التعاسة والتشرّد . ''غريب مارأتني عيني اليوم . دائما أسأل نفسي هل تخلى عن عباءته يوم وطأت قدماه أرضنا . ؟'' .. تركت الصمت يرين . لم أجبها . أن تكون علامة استفهام أمام إمرأة يعني جرّها من حيث لا تدري إلى المكان الذي تريده أنت لا هي . أومأت الى غبريال بغمزة كي يقترب . زم شفتيه . أفرد إبهامه عن حافة الكأس وتركه يتمايل يمينا و شمالا . رفض . للمرّة الثانية ألححت . لججت . هوى بعينيه الى البلاط . سحب قدميه نحوي تحت نظرات لوكس . على بعد خطوة وقف . ''يارجل قد أحرجت من تجهل مزاجه و سلوكه . لماذا تدخل أنفك فيما لا يعنيك . مرادك كان أن تأتي فأتت . تخلى قليلا عن بداوتك . هذا النوع من التسامح يكون هناك . مع زيد وعمر . لا معك و ماريا وغبريال . ومن يدري . غدا تصبح أضحوكة يتسلون بها . متى تستيقظ . متى تفطن . البقرة أمامك فاحلب في إنائهم . هل نسيت كلام أجدادك ؟'' . مددت يدي الى يدي ماريا . جذبت بيسراي كف غبريال . حاول التملّص فضغطت على يده . أربكته إبتسامتي . استدارت ماريا قائلة : اذا ضربك احد على خدّك الأيمن فأعطه خدك الأيسر . أليس هذا كلام المسيح ياغبريال . ؟ . كان الانجيل بغلافه الأسود تحت إبطه . سحبه ثم قبّله . ثم استدار وعانقها في نشيج مسموع . أما انا كنت أتأمل ساقيها الأبيضين . استدارة ردفيها . قدميها الصغيرتين . و أهمس في خاطري هي الآن في كفي ...!  



 
  علي بختاوي-البرازيل (2012-01-30)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

الشارع المجنون-علي بختاوي-البرازيل

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia