عزلة الكاتب..-محمد عبد الفتاح-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

عزلة الكاتب..

  محمد عبد الفتاح    

- هامش أول: أحيطكم علما أن راوي الرواة شخص مبحوث عنه من طرف الكاتب، فإذا ظهر لكم على متن هذه القصة فرجاء إلقاء القبض عليه، وتسليمه إلى الذات الكاتبة بتهمة إساءة الأدب، و لأنه سيفسد هذه القصة بتدخلاته غير المرغوب فيها٬ كما أنصحكم  بألا تعيروا كلامه المشوش أهمية، أما عن هذه القصة- وكلها من نسج الخيال وأي تشابه/ تشابك بين أحداثها مع الواقع، فهو من قبيل الصدمة !- هي بلغة السينما والتلفزيون لا صلة لها بالواقع، بل هي تخريفه من تخاريف راو لعين، قصصه مروية قصداً بشكل لا يعجب النقاد ، لذا أنصحكم بداية بعدم قراءتها!...
1/_العزلة:
         برغم كل الجراح، في غفلة من الزمن، نجد أنفسنا لا زلنا قادرين على الابتسام، الضحك يعتصر الأمعاء، يزيل شيئاً من الوقار٬ يسبب ألما في الرأس٬ لهذا يفضل صاحبنا الابتسام٬ أحياناً يخيم الصمت كموت مترصد خلف مقبرة فيطل شبح ابتسامة بألوان لا حصر لها: اِبتسامة سوداء، وأخرى صفراء، دبلوماسية، محاباة، بلهاء، مقيتة، ظافرة، شامتة، مصطنعة، خادعة، ساخرة، خبيثة، متملقة، على الذقون، برجوازية، باردة، إغراء، شحيحة، ابتسامة بلا معنى، وتلك ابتسامة عن سبق إصرار ضداً على هذا الزمن الرديء٬ المهم أنهم يبتسمون في مطلق الأحوال٬ ولهذا يبتسم في وجوههم، يوزع ابتسامته في كل الجهات، على كل الوجوه٬ يتعجب من هذه الكائنات الضالة الضئيلة. لها وجوه آدمية! غير أنهم يقتلون الإنسان بداخلهم. إحذر لا تسلم رقبتك إلى هؤلاء، إنعزل على قدر استطاعتك. إنهم يبيعون أنفسهم بفلس واحد! إن صادفت أحدهم في طريقك غير خط سيرك. إن وجدت أحدهم قبالتك ابتسم وعجل خطاك.. أعلم يقيناً أنك جد حزين وتتمنى لو يعود بك الزمان إلى الوراء. لكن ذلك غير ممكن ، غير مجد، الإنسان أخطاء!كيف ستصحح أخطاءك الكثيرة ؟ الفشل أحياناً يصنع الإنسان! هل تستطيع أن تصنع نفسك من جديد !؟ شيء واحد، حافظ على ابتسامتك المعهودة، القلوب العاشقة هي التي تتقن فن الابتسام، الابتسام سلاحك الوحيد ضد الأصدقاء والأعداء...! تنبجس الخواطر في رأسه، يترصد مشيته٬ يقيس خطوها٬ ينبغي أن يحافظ على وقاره، يرفع رأسه عالياً..دوما يوزع ابتسامته، حتى على أولئك الذين يحس نحوهم بفتور!..
_ هامش ثان: يقولون والعهدة على الراوي، أقصد ذلك الراوي الذي يروى أحداث هذه القصة، وسيصر على إتمامها عن آخرها، مع كل صرخاتي واحتجاجي  في وجهه بأنه لا فائدة من انتصابه حارساً للكتابة٬ هو عنيد ومكابر، الناس يهربون من المتاعب وهو يلاحقها٬ الحكي أمره متعب، وشاق٬ أنظر إلى نفسك أيها الراوي البئيس، لقد خارت قواك وشحب وجهك٬ من جراء هذه الهواية التي أدمنتها في مطاردة ضمائر الحكي، وتوصيف الشخصيات٬ وترصيف الأمكنة٬ وتحيين الأزمنة، ورسم الأحداث، متعللا بأن الكتابة لحظة قبض تنتشلنا من العدم،  يا سيدي كلنا للعدم !...تنتصب في شموخ واعتداد، تؤخر ما يستحق التقديم، تقدم ما يستحق التأخير، تصنع شخوصاً على مقاسك، توجه الحكي إلى الوجهة التي ترغب، تدخل السرد أنفاقاً لا يمكن الخروج منها، مستغلاً علاقتك المشبوهة مع الكاتب !...
       شخصياً سمعت بقصص مشابهة٬ دارت أحداثها في أماكن متفرقة، مع ذلك لم يعطها أصحابها كل هذا الحجم، حين تتكلم عن شخوصك بكل هذه العنجهية، وهذه الأنفة وهذا الكبرياء٬ قد أصارحك القول بأن أحداثك المروية - مع كل الغضب والجرح الذي يمكن أن تسببه هذه العبارة - لن تصلح لشيء إلا لاحتساء كأس شاي ساخن٬ أو قهوة سوداء٬ في أحد المقاهي المتراصة على جنبات الشارع العام، ينتهي مفعولها مع كل رشفة، أو بطقطقات كعب عال مر متهادياً متبختراً استحلب الشهوة من أعين القوم! ...
    2/_الكاتب:
         برقت عيناه، قال لنفسه:- "أنا اليوم مرتاح"!. نفسه قالت له:- "لا تمن نفسك كثيرا بهذا الارتياح، إن هي إلا لحظات قليلة وينقلب كل شيء"!..
        لكن ما بينه وبين نفسه أصر على مواصلة ارتياحه .ارتخت أعصابه واسترخى فوق أريكته، أشعل سيجارة، راقب دخانها، وشردت أفكاره بعيداً...
وهناك في تلك المنطقة من ذهنه التمعت فكرة ما ... 
استوفز عقله وطرد الفكرة سريعاً. وعاد إلى ارتياحه...
      برقت عيناه من جديد. وقال لنفسه :-"أنا اليوم مرتاح" !. نفسه قالت له:- لا تمن نفسك كثيرا بهذا الارتياح، إن هي إلا لحظات قليلة وينقلب كل شيء!".
        أصر على مواصلة ارتياحه. وارتخت أعصابه من جديد، ومن جديد تصارعت أفكاره وتشنجت، حتى استقرت على فكرة مرتبطة بحدث ما. حاول أن يطرد الفكرة. قاوم بشدة هذه المرة حتى تخلص منها وعاد إلى ارتياحه..
لكن نفسه قالت له:- "لا تمن نفسك كثيراً بهذا الارتياح!. إن هي إلا لحظات قليلة وينقلب كل شيء"!.
      استرخى في جلسته.حاول ألا يفكر في شيء !.قاوم أفكاره، الأفكار تلح على عقله وكيانه.تسري في أعصابه، الأفكار استشاطت غضبا من هذه الرقابة الحمقاء، وعادت تهجم بشراسة على عقل الكاتب، وهو عبثاً يحاول أن يطردها..كل فكرة تتصارع كي تأخذ حيزاً من هذا الدماغ الإنساني !..
تحول صراعها إلى كلام.. صراخ.. ضجيج.. ثم فوضى عارمة...
      ساد بينها نقاش عميق.. عقيم... ثم تصالحت فيما بينها وصرخت بصوت واحد:-''الفكرة لا تموت!''..
سرحت الأفكار في أعصابه بهدوء عجيب، فارق ارتياحه، ارتسمت بكل شراسة في عيني الكاتب...                          
     نهض الكاتب مسرعاً وشرع في كتابة قصة جديدة، قصة وقحة !...        
_هامش ثالث: لاحظ بأن  شخصياتك لا رابط بينها٬ مجرد شخوص لا نعرف علاقتها  ببعض٬ المطلوب منك الإبانة٬ لأن تقنيات الحذف، والوصل، والفصل، والإلغاء، والمسح، والتورية، والإسقاط، والإثبات، والإسهاب، والإطناب، والحفر، والنبش، والنقش، والإضاءة، والإضافة، والإيضاح، والتعتيم، والتهويم، والتقسيم، والتقزيم، والتقطيع، والكولاج، والبورتريه، والسبر، والشرح، والطرح، والتفسير، والتقصير،  والتشدير وكافة ألاعيب السرد والحواة، لايبق لها من مجال، فكيف بالله عليك جمعت ما لا يجمع٬ بهذه الكيفية الظالمة٬ حتى جعلت من كل هذه الفسيفساء الشخوصية، شخصيتين لا أكثر٬ فكيف تدفع عنك هذه التهمة؟
       3/_الكتابة:
       انطلق يحلم بإصداره الأول، يتخيله في صور شتى، لوحة الغلاف على واجهة الكتاب، و صورته في الخلف، ومقطع مختار بعناية يعكس عمق شاعريته..كان الحلم يكبر في خياله بنوستالجيا حلقت به حتى أنسته مايرتبط بهذه الخطوة من تكاليف المطبعة والنشر والتوزيع وفراغ اليد... مضت فترة والفكرة تلح عليه، إلى أن قفزت إلى عقله فكرة طريفة: محطة المسافرين !. هي فقط فترة حول ونصف، يقضيها في المحطة، يحمل الحقائب، يبيع السجائر، وسلع أخرى يستهلكها المسافرون..كانت هذه فكرته في تحصيل المبلغ، وبالفعل كان..طبق فكرته وانقضت المدة وبتقشفه تجمع لذيه مبلغ من المال يكفي للغرض، لكنه حين أراد كتابة قصيدة، غزت ذاكرته أشياء غريبة: ضوضاء الحافلات، أبواق السيارات، أصوات الباعة وسائقي الحافلات.. أراد تدوين أفكاره فاكتشف أنه أصبح يجهل الكتابة!..
4/_ الحزب:
         يجمع الكاتب أوراقه التي جعل فيها كل مبادئه وأفكاره وقناعاته ويدخل في صراع مع السلطة، يتوسل بابي ذر الغفاري وينتهي بغيفارا، ويعيد كتابة التاريخ من جديد، يضعه العقيد المجيد في زنزانة خاصة، يذوق الكاتب كل ألوان التعذيب. في غمرة صراعه مع السلطة ضاعت حبيبته، يجمع قناعاته من جديد ويخوض صراعه من خلال حزب سياسي، لا يمكنه أن ينشط إلا من خلال حزب ينشط في اليسار، وفي الحزب اليساري لا يمكنه أن يكون إلا على يسار الحزب دائما، سيرقص على حبال ذائبة، كزهرة لوتس لا تنبت إلا في الوحل ينتهي الكاتب جالسا بالقرب من الزعيم، الزعيم من فصيلة الفيلة النادرة يجلس برباط عنق وكرش ضخمة وعينان جاحظتان، وبصفته كاتبا ومثقفا يحظى صاحبنا بمعاملة خاصة، ويعده الرفاق في حالة اقتناص حكومة بتعليق قصائده على باب المجلس البلدي!..
_ هامش رابع: سنتفق على أمر من أجل فض هذا الخلاف السريالي بيني وبينك، سنستبدل الأمر كله بلعبة الألوان٬ ومن كل الألوان وأطيافها القزحية والحربائية، سنختار لونين لا ثالث لهما، الأبيض والأسود٬ أليست كل الألوان انعكاساً لهما، وأن العين هي التي تسقط على الطبيعة كل هذه الألوان التي نراها، حسنا٬ سنفترض بشكل تلقائي أن الأبيض ماهو في النهاية إلا الجانب الطيب في الإنسان، وأن الأسود قدرنا الأزلي الذي يعكر صفو الحياة٬ سنقول اختصاراً أن البياض- عدا كونه دعوة صريحة لاقتحام الورق - هو جانب الفن، وسنفترض أن السواد مطلق الشر، هذا دون أن نغفل أن لعبة التصنيف ظالمة، فالبياض مهما أحال على النقاء والفضيلة لابد أن يعتريه سواد٬ والعكس صحيح، لذا وجب التنبيه٬ هل توافقني على هذا الطرح الذي صرت إليه ؟..
     لحظة فقط أريد أن أنبهك أن علاقتك ساءت جدا مع الكاتب٬ لذا فالمطلوب منك التزام قليل من  الهدوء، وترك أمور الشقاوة الصبيانية والتشويش٬ حتى لا يحصل ما من شأنه! هل نبدأ ؟
    5/_ الجنرال:
          بكل العناية التي حرص بها على إخفاء حقيقته عن الناس، يبوح الجنرال أمام المصباح، في العمل قالوا:"إن وجود المصباح في بيت كل واحد من رجالنا أمر ضروري، لكن احذروا، ليس مسموحاً لكم بالاعتراف بجرائمكم وإراحة ضمائركم حتى وأنتم على فراش الموت، إلا أمام هذه المصابيح!"..
     مع نفسه يمارس الجنرال غواية الاعتراف.. مصباحه شاهد على كل اعترافاته، كاتم أسراره، وحده من يعرف حقيقة الرجل وتاريخه المشهود..
       قال الجنرال لمصباحه وهو يوصد باب غرفته:‹‹سجل أيها المصباح اعترافي لهذا المساء››. جلس أمام المصباح، أخرج صورة الكاتب من جيب سترته المثقلة بالنياشين، اعتدل في جلسته، استجمع أفكاره، استعرض شريط الأحداث كيف مرت عليه  هذا اليوم، أشعل ضوء المصباح، ركز شعاع الضوء على وجهه جيداً، وبدأ يطلق اعترافاته الجديدة!..
     6/_الناقد:
           أوصى بأن تحرق كل كتبه بعد موته، لأنه حسب زعمه لا خير في كتابة تورث صاحبها كل هذا الفقر!...
     بعد يوم واحد من موت الكاتب- الذي عانى طوال حياته من الفقر والتحقير والإهانة، وعاش ذليلاً منبوذاً- أصبح الكل يتحدث عنه، وعن فتوحاته الأدبية، وأدواته الفنية، وبلاغته الصاروخية، و استعاراته الكاميكازية، ومجازاته غير المسبوقة، وتحدث عنه شيخ النقاد، الناقد الحاقد الذي له تاريخ حافل في تحطيم عشرات الأقلام في مهدها، مستعيناً بكل قشور الموز الأكاديمية، ومناهج التحليل الصابونية، مؤكداً فرادته وألمعيته ونبوغه، وأفرد له زاوية أسبوعية ضمن صحيفته المباركة التي جعلها ميداناً دامياً يشهر من خلالها نياشينه وأحقاده ضد كل من لا يتفق مع ذائقته الفنية، متسلحاً بشعاره الخالد:‹‹لكي ينجح كاتب يجب أن يموت أولاً!››، والكثير من الجمعيات تطوعت ونشرت له كتبه..
       مات الكاتب وتحدث عنه الكل، حتى أولئك الذين قضى معظم حياته في حروب صغيرة معهم، دبجوا في رحيله المفاجئ عشرات المراثي!...
وفي غفلة من الزمن الضائع ﺃجمعوا على إقامة تمثال للكاتب في أشهر ساحة في المدينة...
  7/_التمثال:
    وقعت عيناه على التمثال بقامته الفارعة ولحيته الكثة، لهج لسانه بالشكر، قال مع نفسه:"إن الأماني تتحقق"، اقترب من التمثال، وبرقة تحسسه بأنامله، كان تمثالاً من لحم ودم، أدرك وسط دهشته بشاعة المشهد! ...
 راقب عن كثب كيف أقاموا موانئ الصليب على مشهد من الناس، وقاموا بطقوس الصلب والدموع!..
_ هامش أخير: أرى أن النعاس بدأ يتسلل إلى عيني الكاتب. وقد يستغل راو الرواة هذه الفرصة التاريخية للهرب، إن دوره مركزي هنا في حكي الأحداث، رغم خرجاته التي تصيبنا أحياناً بالدهشة. هو ثوري، ولكن الكاتب اعتاد على ثوراته البيضاء ما دامت تحدث على الورق فقط!..ومادام لايصادر حقاً ليس من شأنه، حسناً. سنقتنع مؤقتاً أن هذه نهاية  افتراضية .لأني أرى راو الرواة وهو يوزع بياناً تنديدياً ضد الكاتب يدين فيه مدة اعتقاله التي طالت أكثر من اللازم...المهم. تصبح على خير!!..



 
  محمد عبد الفتاح-المغرب (2012-01-31)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

عزلة الكاتب..-محمد عبد الفتاح-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia