مونودراما "معكم انتصفت أزمنتي"-قاسم مطرود-لندن-المملكة المتحدة
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مسرح

مونودراما
"معكم انتصفت أزمنتي"

  قاسم مطرود    


إهداء
إلى أمي التي سارعت في الرحيل، قبل أن أجهش بالبكاء على ركبتيها، معتذرا عن جرح الغربة والفراق، أهديك محبتي وشوقي واعتذاري
 
الشخصيات
 الرجل
“من وسط المسرح نسمع صوت محرك سيارة معطل،يحاول تشغيل السيارة،بقعة ضوء على وجه السائق الذي يبدو عليه التعب والضجر والذي يحاول ثانية وثالثة تشغيل سيارته الواقفة في طريق عام،حيث يتم الكشف عنها وعن الكرفان الذي تجره خلفها وفيه العديد من النوافذ والستائر الشفافة،وهي متوقفة على شارع طويل وخلفه مجموعة من الأشجار الكثيفة على طول الطريق التي تشغل الجزرة الوسطية بين الشارعين، ومن خلف الأشجار نلمح شارع آخر خالي من السيارات إلا من أعمدة الإضاءة الخافتة                                                        
الرجل:
 يا لهذا النحس"ينزل من سيارته ويغلق الباب ماسكا بيده مفاتيح السيارة " ما الذي افعله الآن، لا اعرف كم تبعد اقرب نقطة مساعدة وأين هي الآن، والسيارة متوقفة" يفتح باب السيارة ويدخل ليشاهد مؤشر البنزين " أنا على يقين تام، فيها الكثير من البنزين والمشكلة ميكانيكية، وخوفي أن يكون المحرك قد توقف"فترة صمت قصيرة"لا خيار أمامي سوى الانتظار عسى أن يمر سائق ويمكنه مساعدتي،ولكن وبعد قليل سيعم الظلام المكان كله"يذهب إلى الكرفان..يفتح الباب الخلفي.. يدخل وبعد لحظات يخرج ومعه كرسي صغير وصحيفة.يجلس على الكرسي قبالة الجمهور وظهره إلى الكرفان..يطالع الصحيفة. يتوقف عند الصفحة الأخيرة"رجل في مثل حالي لا تثيره الصفحة الأولى وهموم السياسة فان همي كبير أنا أيضا، الصفحة الأخيرة ربما فيها ما يسعدني في هذه اللحظة أو ينسني المشكلة بعض الوقت " يطالع.. ثم يقرأ "
- فرق الإسعاف تقتل المرضى لبيع جثثهم"ينظر إلى الأمام بعد أن يتوقف عن القراءة"هذا موضوع مسلي"يتابع قراءته "
- تقول السلطات في مدينة لودز البولندية إنها حصلت على أدلة وافية تثبت بان فرق الإسعاف فيها تعمدت التعجيل بموت المرضى لتسليم جثثهم إلى متعهدي الدفن لقاء رشاوى"يضع الصحيفة جانبا..ينظر إلى الجمهور لنصف دقيقة وبصوت منخفض "يا لخيبتي، انتظر المساعدة في هذه القفرة،ما لذي حصل للإنسان،هل يوجد قلبا بهذه القسوة،لماذا لا استوعب العالم علـــى حقيـــقته،"يعود إلى طبقة صوته الأولى" الموضوع مهم أريد معرفة المزيد"يقرأ "
- وكانت تقارير صحفية محلية قد قالت أن فرق الإسعاف قد حقنت المرضى بعقار بافولون المرخي للعضلات لتسريع موتهم"يأتي ومن بعيد صوت سيارة إسعاف،حتى يضاء الشارع الخلفي لمضي السيارة في طريها ويختفي الصوت تدريجيا..يصمت الرجل بعد أن يتملكه الخوف ويكمل قراءته بصوت شبه مكتوم"وقامت بعد ذلك بإخطار متعهدي الدفن الذيـــن استلموا الجثث لقـــاء اجـــر"يتوقف عن القراءة وبصوت منخفض أيضا..يكون الصوت قد اختفى نهائيا  وكأنه يحدث شخصا جالسا إلى جانبه"إذا جاءتك سيارة الإسعاف وعرضت عليك المساعدة، امتنع أيها الرجل وقل لهم انك تنتظر صديق حميم هنا"يعود إلى قراءة الصحيفة "
- وأكد الناطق باسم شرطة مدينة لودز ما جاءت به الصحف المحلية" يتوقف عن القراءة"الخبر صحيح ولم ينفه الناطق باسم الشرطة " برهة.. يحدث نفسه"لو انك طالعت الصفحة الأولى وغرقت بهموم السياسة لكان خيرا لك من هذه الأخبار المفرحة في صـــفحتك الأخيـرة"برهة"لكن فضولي يجعلني اجري وراء معرفة ما جرى في مدينة لودز البولندية"يقرأ "
- تقول التقارير أيضا أن الأطباء في قسم الطوارئ بمستشفى لودز قتلوا عددا من المرضى في السنوات العشر الأخيرة،وذلك بحقنهم بجرعات مميتة من عقار يسبب الاختناق،عد أن وافقت أسرهم على استخدام شركات دفن معينة"يتوقف عن القراءة..ينظر يمينا ويسارا ثم إلى السماء “بدا الظلام يخيم عليّ ولم يمر أي سائق على هذه الطريق، سوى سيارة الموت هذه اعني سيارة الإسعاف أكمل الموضوع أيها الرجل قبل أن يلفك الظلام"يقرأ"
- وقالت أن شركات الدفن قامت بعد ذلك بدفع مبالغ تتراوح حول 300 دولار لهؤلاء الأطباء للجثة الـــواحدة "يتوقف عن القراءة "يا للخسة مقابل 300 دولار يقتل إنسان،من أين لكم هذه القسوة وهذه القلوب"يطوي صحيفته"أظن أني اطلعت بما فيه الكفاية على ما يسر القلوب"ينهض.. يدخل إلى الكرفان ليعيد الصحيفة ويحضر منضدة صغيرة ويضعها أمام الكرفان وهكذا يحضر كرسيا ويضعه إلى جانب الطاولة وخلال هذا المشهد يقول الحوارات التالية"كيّف نفسك أيها الرجل على هذا المكان،ما أنت فيه ليس جديدا عليك،الغربة علمتك كيف تهز الصعاب وتعيد ترتيب الأشياء"يخرج من الكرفان كيسا فيه علبة عصير وبعض الأكل..يضعه على الطاولة ويبدأ بتناول الأكل بعد أن يجلس قبالة الجمهور"وأخيرا عدت من حيث ابتدأت"فترة صمت قصيرة..يتذكر"قبل أكثر من عشرين عاما، بكيت كثيرا بعد أن احتضنت أخوتي وأمي وحقيبة سفري معلقة على ظهري لم اعد احتمل وجودهم وتحقيقاتهم معي، كل يوم علي الذهاب هناك لمشاهدة وجوههم التي كانت اسما للموت، كل يوم علي أن امضي على ورقة وااكد لهم وجودي وباني مازلت في المدينة ولم أغادر حدودها،ولست بعيدا عن عيونهم،كانوا يخافون مني وأخاف منهم ولا يربطنا ببعضنا سوى ذلك الخوف الذي فاحت رائحته وحول أيامي إلى بؤس مدقع"برهة"احتضنتك يا أمي وقد سقطت حقيبتي بعد ارتعاشي وتجهشي بالبكاء وقلت حينها
- سأهاجر يا أمي، مكاني ليس هنا وروحي هائمة، سأبحث عن طريقي في أمكنة اجهلها تماما،لكني سأضع أقدامي على ترابها وسأعرف حتما حجم خطواتي هناك،بودي معرفة لماذا لا يستوعبني مكان"برهة"اعرف أيتها الحبيبة باني ساترك لك جرحا غائرا،ولكن أرجوك تحملي جنوني واختناقاتي"يتوقف عن الأكل، بعد أن يسمع صوت شاحنة على الطريق..ينهض وينظر إلى الشارع الآخر وبسرعة تمر السيارة وتختفي..يقفز إلى الأعلى وهو يصيح "
- هه هه لحظة أريد مساعدة"يعود إلى مكانه وهو في كامل حزنه  الحزن يقتحمني والأمل يفر مني"برهة"وها أني يا أمي الحبيبة ويا أخوتي قررت العودة إليكم ومعي ما يكفي لفتــح مشروع كبـــير سيلمّنا جميــعا " برهة " ولكن السيارة متوقفة وترفض العودة إلى الوطن والليل يخيم عليّ ويثني قراري "برهة"ترى كيف أنت الآن، تركتك وبعض الشيب قد اندس في شعر راسك الأسود وابتسامتك التي كانت معي طوال كل تلك السنين، أمي لكن السيارة متوقفة والليل طال والظلمة تزداد والرؤية تنعدم " فترة صمت قصيرة"لم انقطع عنكم أبدا، وأنا أجوب المدن والغربة تنخر روحي، لم اترك مدينة إلا وكانت تحت أقدامي باحثا عن ذاتي التي فقدتها هناك، اشتغلت في المطاعم والمدارس والمساجد والكنائس وميكانيكيا وسباكا وسائق تاكسي وسمسارا حتى استقر بي المقام وتزوجت ورزقت بولد وكنت أرسل لكم صورته وأسمعكم ضحكاته وكيف كان يلفظ اسمك أيتها الحبيبة والذي هو أجمل الأسماء وابلغها "برهة" عشرون عاما وأنا ابني عالمي الجديد، أسرة صغيرة ومعهم تشكلت روحي وسحنتي.واخذ كل يشق طريقه في الحياة فقد أبدل ولدي الوحيد لغته بلغة أخرى وصار يتحدث غير لغتنا ويفكر ويحلم باللغة الجديدة إنها معادلة صعبة ولكن هكذا تشكلت الحياة "برهة"رسمت له الخطوط العريضة لمسار الطريق وقلت له هذا ما اعتقده صحيحا وذاك في تصوري خطا وعليك يا ولدي الاختيار ولكن وبعد عشرين عاما ذاقت بي الأرض أيضا ودورانها بات يزعجني وصرت أشم رائحتكم عن بعد وأفكر بكم كل ليلة،"برهة" لكن السيارة متوقفة والمسافة بيني وبينكم مازالت طويلة،هــناك دون عمل تموت ومع العمل تموت أيضا، لا بقاء لك إن لم تدفع بلائك بنقودك، لذا كان علي العمل طوال اليوم وأعود إلى بيتي جسدا عاشقا للفراش والنوم العميق، ويوم بعد آخر تبلدت روحي وصرت أتوافق مع منبه الساعة التي ترن في الخامسة صباح كل يوم، كم كنت اكرهها يكني وفي نهاية الأمر استجيب لها وانهض ملبيا ندائها، وبعد اقل من نصف ساعة أتحول إلى إنسان آلي يعمل ليكسب المال في نهاية اليوم ويودع جسده ذلك الفراش الحلم، لم يتعدى اتصالي بزوجتي وأولادي غير التحية في العودة إلى البيت وتمنياتي لهم بصباح جميل وأنام، يحزنني يا أمي أن أقول لك باني انفصلت عن زوجتي وأودعتها ولدي الذي كبر كقرص الشمس وأمنّت لهما ما يكفيهما أعوام طوال، هجرت وطني هربا من تعسف السلطات باحثا عن ذاتي ومستقرا لروحي الهائمة، إلا أني"بحزن"لم اعثر على ما أردت، تصورت باني سأقبض على ما فلت من يدي وأنا في الوطن، إلا أني لم امسك على ريشة من جناح ذلك الطائر الذي هو أنا، في بلدي ضعت وفي المنفى، اختفت آخر ملامح لي مع أسراب الطيور، وقررت العودة إلى الوطن، إليك والى الشوارع التي ودعت"برهة"ترى هل مازال زقاقنا كما هو، الناس تحب بعضها البعض. هنا تحجرت القلوب والكل يركض ليل نهار جريا وراء وهم الحياة، لقد تعبت من الركض ومن حساب كل شيء"برهة"أريد الجلوس إلى جانبكم واحكي لكم قصتي التي لا تنتهي"برهة"ولكن لماذا أتعبكم بقصتي وترحلاتي،جل ما أريده يا أمي هو الجلوس قربك والبكاء حتى تجف الدموع وأسلمكم ما حصدت من مال واتـرك لكـــم حرية الــعمـل بــه أريد أن ارتـــــاح"فترة صمت قصيرة..ينهض..يدخل الكرفان..نسمع من بعيد صوت شاحنة أخرى قادمة إذا يختلط صوته وصوت محركها التي تقترب كثيرا منه يشعل فانوسا حيث يبدأ ضوء الفانوس يخترق شبابيك الكرفان،بعد أن يخيم الظلام ومن داخل الكرفان نسمع صوت الرجل الذي يصرخ طلبا للنجاة"
- أيها السائق توقف بالله عليك احتاج مساعدة توقف
" لكن الشاحنة تمضي دون أن تتوقف..يطل برأسه من الشبابيك بين الحين والآخر"علمتني الحياة أن احتاط لكل شيء،لم اشغّل هذا الفانوس منذ زمن بعيد واليوم جاء يومه،سيجبرني الظلام على البقاء هنا والتكيف على مـــا أنـا عليــه"برهة "بقيت ثلاثة أيام تائها في البحر والزورق الذي حملنا أغمض عينيه عن الطريق والأمواج العاتية تأخذنا حيثما تشاء، نمت على الأرصفة والبرد يثقب الجسد،أتعبني الجوع والحر والبرد والحسرات، لكني وفي نهاية الأمر وقفت على قدمي وثأرت لكبريائي وجعلت كل هذه الهموم خلف ظهري وسرت قدما.يمكنني القول يا أمي، باني لم اعرف نفسي إلا بعد معرفة الآخرين "يخرج من الكرفان"بودي أن استمع إلى الموسيقى، ولكني أخشى أن تتعطل البطــارية وادخل في مأزق آخـــر"يقترب من الجمهور وهو ينظر يمينا وشمالا"لم يمر أي سائق على هذه الطريق ربما نقلتهم سيارات الإسعاف إلى مدينة لودز البولندية"برهة"من حسن حظي أنني لم انقل إلى أي مستشفى، سأرفض المساعدة حتى ولو أغمي عليّ"برهة"لأحـاول تشغيل السيــارة عسى أن افلح هذه المرة"يفتح باب سيارته..يدخل..يجلس..يشغل السيارة.. نسمع صوت المحرك الذي يدور فقط دون أن تشتغل السيارة.. يخرج رأسـه من الباب “سأنام هنا الليلة ولا مخــرج من هذا المأزق"برهة"سأستمع إلى الموسيقى حتى ولو انتهت البطارية" يضحك"عـــن أي بطارية تتــحدث أنــت"يشغل المسجل..نسمع صوت الموسيقى..يغمض عينيه محاولا النوم ومازال صوت الموسيقى مستمرا ولكن بصوت منخفض مع الضوء النافذ من شبابيك الكرفان..يتم تعتيم المشهد قليلا قليلا ولا يبقى سوى ضوء الفانوس ويمكن أن نترك المشهد على ما هو عليه لا كثر من دقيقة حسبما يراه المخرج مناسبا..يأتي من بعيد صوت سيارة أيضا لكن الرجل لا يسمعه،ويبقى نائما،وما أن يقترب ضوء السيارة على الشارع المقابل،يبطئ السائق سرعته ويضغط على منبه السيارة عاليا، مما يجعل الرجل فزعا خائفا بعد أن يستيقظ من نومه ويضرب رأسه في سقف السيارة حتى تخترق إضاءتها المكان وتمرق بسرعة فائقة..بقعة ضوء على وجه الرجل..يستيقظ"يا للحظ النحس لقد غلبني النوم"يسكت الموسيقى ويخرج من سيارته..يتجه إلى الكرفان..يدخل..يمسك الفانوس..يخرج رأسه والفانوس من احد الشبابيك"سأطفئ الضوء وأنام حتى ولو جاء المنقذ"يختفي داخل الكرفان..يخفض من ضوء الفانوس وبالكاد هناك ضوء..نسمع صوته فقط" أمي أخوتي أصدقائي أيها الوطن سيارتي معطلة وحالة دون الوصول إليكم،سأضيف هذه الليلة إلى ليالي الغربة والوحشة،سأنام ولا تنتظرونني هذه الليلة تصبحون على خير"نترك هنا أيضا للمخرج الفترة الزمنية التي يراها مناسبة لبقاء الرجل نائما على خشبة المسرح والجمهور ينتظرون شيئا ولكننا نسمع صوت سيارات مع وميض إضاءتها وتمرق بسرعة حتى تضيء خشبة المسرح كله لمرتين أو ثلاث حسبما يراها المخرج مناسبة وبعد كل صوت سيارة يعم الصمت ثم إظلام نهائي.. وهنا يجب إعطاء الفترة المناسبة الحقة لفترة نوم الرجل وقدوم الصباح ولتكن هذه تجربة جديدة في التعامل مع الزمن المسرحي..تضاء خشبة المسرح وكأننا في صباح اليوم التالي..يتحرك الرجل داخل الكرفان..نشاهده وهو يمرّغ جسده علامة الاستيقاظ"صباح الخير"يخرج من الكرفان وبيده فنجان قهوة " لا يمكنني الاستغناء عن فنجان القهوة في الصباح، إن لم اشربه اشعر كأني فقدت شيئا مهما"يشرب..يضع الفنجان على الطاولة..يتأمل قليلا "اشعر بالسعادة وأنا أطالع الصحيفة مع فنجان القهوة، ولكن ليس لدي صحيفة اليوم"برهة"بين الحين والآخر أعيد قراءة الرسائل التي تصلني من الأهل والأصدقاء"وهو يتحدث يدخل إلى الكرفان لإحضار صندوق فيه الرسائل والصور..يخرج من الكرفان ويواصل حديثه"مع مشاهدة صورهم التي احتفظ بها بعد أن كبرت حجمها كي أضعها في غرفتي وأشاهدها كلما نظرت عيني إلى زوايا الغرفة ولأنني قررت العودة فأعدتها إلى هذا الصندوق "يضع الصندوق على الطاولة ويفتحه بهدوء يخرج منه بعض الصور يتأملها"الصورة شاهد حقيقي على هروب الزمن وعدم ألامساك باللحظة هذه صورتي يوم كنت طالبا وأغنى رجلا في العالم بالأحلام كنت املك من الأحلام ما يكفي لنصف سكان الأرض إلا أنها تكسرت على حافة الترحال وهذه صورة الأصدقاء"برهة وهو يتأمل الصورة"أين انتم الآن أتذكرك أنت وأنت كنتم مثلي أو أنا مثلكم نطير فقط، ترى هل انتم فوق الأرض أم تحتها"يضع الصور على الطاولة ويخرج رسالة..يقرا"صديقـــي العـزيز"يتوقف عن القراءة"هذه رسالة من صديقي والأصدقاء قلة وهذا واحد منهم توطدت علاقتنا كثيرا بعد أن غادرت الوطن "يقرا" أراك حلما يضاف إلى أحلامي"يتوقف عن القراءة" كان مشروع كاتب ناجح إلى أن هموم الحياة حولته إلى بائع صحف في الإشارة الضوئية"يقرا"ولكني أتمنى أن تنتبه إلى نفسك وتنشغل بهمومك واعلم أن وجودك هناك يساعدنا كثيرا لأننا نشعر أننا قريبين من الموت دائما ومسحة الحزن والتشاؤم هي صفتنا الغالبة،بك نتغلب على خسارتنا ونشعر أننا لم نخلق عبثا"يتوقف عن القراءة"لماذا جاءتني رسالتك هذه في الوقت الذي عزمت على الوصول إليكم كلماتك أيها الصديق تخيفني وتهزني وسط هذا الفراغ"يعيد الرسالة إلى الصندوق ويخرج صورة أخرى"هذه صورة عائلتي الكبيرة هذه أختي الكبرى والتي قضت عمرها كله تنازع المرض إلا أنها تتحدى دائما وهذه الصغرى والتي كنت أعاملها معاملة خاصة وهذا أخي الأصغر الذي لم يحالفه الحظ ابد"يضعها على الطاولة ويخرج صورة أخرى"كم تريحني قسمات وجهك أيتها ألام دائما تأتيني صورها وهي جالسة،يا حزني عليك خانتك قدميك ولم تحمل جسدك،ارضي البكر"يضع الصورة على الطاولة ويخرج رسالــة أخــرى..يقــرا"أخــي الحبــيب" يتوقف عن القراءة"هذه الرسالة من أخي الأكبر احفظ له الكثير من الرسائل لأنه لم ينقطع عن مراسلتي"يقرا" أخي الحبيب ولأنك طلبت مني أن أكون واضحا وصريحا معك،فسأخبرك بجزء من الحقيقة"يتوقف عن القراءة"دائما كانت رسائله تربكني،ولكني أطالعها مرارا"يقرا"الكثير من الأمور قد تغيرت أيها الأخ الصديق،بعد رحيلك كبر الصغار وشاخ الكبار والقسوة عرفت طريقها إلى القلوب،حقا أتمنى أن أراك وعودتك هي اكبر أمنياتي،إلا أني أخاف عليك وعلى أحلامك والصورة الجميلة التي تحمل إذا تجولت في المدينة وتحاورت مع الناس لشعرت انك تزور بلدا من ضمن البلدان التي تجولت بها وليس الوطن،وطنك يا أخي محصور بذاكرتك لأني أطالع رسائلك وأسالتك عن الشوارع والأزقة والناس،لقد زحف التصحر إلى نفوسنا وأزقتنا"يتوقف عن القراءة"يا للوحشة،إن قلبي صار يخفق سريعا، لا اعرف هل من الخوف أو القلق أو...."برهة"هذه المرة الأولى التي تهزني كلماتك يا أخي بهذه الطريقة، اطلعت عليها، عندما كنت في البيت اشرب الشاي وأشاهد التلفاز،هي رسالة مختلفة تماما لم تترك بي هذا الأثر كما الآن وأنا أعيد قراءتها وسط هذا الضياع،إنها تفجرني وتهز كياني"فترة صمت قصيرة..يشرب فنجان القهوة بصورة سريعة وكأنه يهم بعمل شيئا مهما..ينهض.. يتجه إلى الكرفان يدخل ثم يخرج.. يفتح باب سيارته..يقف وسط المسرح..يستدير ويعطي ظهره إلى الجمهور..ينظر إلى سيارته"والآن،ما العمل ستبقين معطـّـلة؟والنهــارات تـــجر بعـضها والـليــــل سيخيــم عـلــيّ"يستدير إلى الجمهور"رسالتك يا أخي عطلتني أنا الآخر وأثقلتني بالهموم وركنتني إلى جانب سيارتي، رسالتك أوقفتني أمام أهم سؤال كان يجول في خاطري لعشرين عاما مضت إلى أين ذاهب أنت أيها الرجل"برهة..بصوت منخفض  وحزين"هناك،زحف التصحر إلى النفوس والشوارع والأزقة وأنا الحالم بالنسيم،رسالتك ناقوس خطر،سأعلقها هنا كي تعلمني إن اقترب المـــوت مــني"يلصق الرسالة على جدار الكرفان.. يجلس على الأرض" سأعود من حيث أتيت"برهة..يضحك حتى يصل مرحلة البكاء" أين أيها الرجل، عودتك شبه مستحيلة، لأنك أحرقت كل أوراقك وأنهيت عقد العمل وانفصلت عن زوجتك التي أودعتها طفلك وودعت الجميع الوداع الأخير"مع نفسه"ترى هل يمكنني العودة وإصلاح كل شيء وأقدم اعتذاري من الجميع"برهة..يضحك أيضا" انه لأمر صعب،ستعيش ذليلا طول عمرك وهذه ليست طباعك"فترة صمت قصيرة..ينهض..يقترب من سيارته..يركلها"انك حقا مجنون، تفكر بالعودة وسيارتك معطلة،لا يمكنها التحرك من مكانها لا من حيث أتت ولا إلى مبتغاها الأخير،هنا سيطول بقاءك والليالي السود أنيسك"برهة..يفتح الصندوق ثانية ويخرج منه بعض الصور، وهو ينظر إليها"هذه صورة ابني في عامه الخامس أخذت في يوم ميلاده وهذه زوجتي وهي حامل، كم تغير وجهها وأصبحت امرأة ثانية وهذه الصورة يوم كنا في حديقة المنزل"يجمع الصور في يد واحدة.. بحزن وبعد لحظة تأمل"صعب علي يااحبتي أن أعود إليكم ثانية،لقد كسرت الجرة ويصعب إصلاحها"يضع الصور على الطاولة ويخرج صورا أخرى"احتفظ بالكثير من الصور لامي وإخوتي وأصدقائي،فقد كنت أطالبهم دائما بإرسال الصور"ينظر إلى الصور"هذه صورة أخي الأصغر وهذه صورة أخي الأكبر مع عائلته الكبيرة هذه صورة أمي وهي جالسة قرب المدفئة “برهة..يتأمل قليلا"ما أجمل هذه الصورة أنها لمجموعة الأصدقاء يوم كنا ندرس الفن ونحلم بالتغير"فترة صمت قصيرة..يضع الصور على الطاولة..يدخل سيارته..يحاول تشغيلها لكن المحرك لا يدور ولا نسمع أي شيء.. يخرج من سيارته..يركلها برجله"يا لهذا الحظ النحس، وأنت الأخرى فقدت الأمل بك"برهة"ماذا افعل الآن"يأخذ المسرح ذهابا وإيابا دون أن ينطق بكلمة لكنه يتوقف بين الحين والآخر وينظر إلى الجمهور ثم إلى يمينه و شماله وينظر إلى داخل الكرفان، يتقدم ثم يتراجع،لا يعرف ماذا يفعل أو يريد، انه في حيرا من أمره..ويمكن أن يمنحه المخرج هنا بعض الدقائق المصحوبة بالموسيقى والتي نوصل من خلالها صعوبة الأمر الذي هو فيه وحجم مشكلته وصعوبة اتخاذه أي قرار،وأخيرا يتوقف في وسط المسرح"سيارتك معطلة وقرارك في الذهاب إلى الوطن تعطل هو الآخر وبات من المستحيل عودتك من حيث أتيت"يلتفت مسرعا ويتجه إلى مجموعة الصور الموجودة على الطاولة يمسكها"انك في الوسط أيها الرجل ومثلما قررت الرحيل من الوطن الأول والعودة إليه والتي لم تكتمل، انك في الوسط وطنك حيثما تقف، سيارتك مصيرك إنها اختارت لك ما لم تستطع اختياره،ابق مع هذا المصير اجل ومن هنا، أبدا من جديد مثلما بدأت من لا شيء، علق صور الأهل والأحبة عسى أن تسعف ذاكرتك وتنسيك بعض مما أنت فيه"يقوم بسرعة بلصق الصور على الكرفان بصورة عشوائية"هنا الصق هنا أبدا مـــن هــنا وبحث عن متنفس جديد"يستمر بلصق الصور التي تتساقط ويعاود لصقها مع استمراره بالصراخ وبترديد كلمة هنا"هنا،هنا،هنا،هنا،كي تكون شاهدا على رحلتك التي لم تكتمل بعد، الصق صورك واترك رسائلك،عسى أن يأتي احد المارة ويتعرف عليك"ينتهي من لصق الصور..يتوقف في وسط المسرح وهو يلفظ أنفاسه بصعوبة" علي أن أسير على أقدامي بحثا عن مخلص من رحلة عمر مرة"يهم بالخروج..يتذكر" لكنني نسيت ما جنيته في العمر كله، حقيبتي ونقودي وجواز سفري الذي غيرته أكثر من مرة"يدخل إلى الكرفان، ليخرج حقيبة، ويلبسها على ظهره، يلوح بسلسلة المفاتيح التي بيده"أبدا رحلتك الجديدة يا هذا وعسى أن يستقر بك المقام في نهاية عمرك الذي ضاع بحثا عن الحلم وبالتنقل والتجوال"يخرج من المسرح..تبقى الإضاءة مركزة على الصور التي تبدأ بالتساقط على الأرض وما أن يختفي ومع استمرار تساقط الصور نسمع صوت سيارة إسعاف قادمة من بعيد وشيئا فشيئا يملا الصوت الخشبة كلها"
- تمت -



 
  قاسم مطرود-لندن-المملكة المتحدة (2012-03-15)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

مونودراما

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia