في انتظار القطار-عوني مروان-مكناس-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

في انتظار القطار

    مع أولى الخيوط الذهبية لشمس النهار الموالي مضى الغلام هائما لا يلوي. اليوم بَانَ الحق. تبدت له أشعة النور ساطعة إبان الصباح اللطيف مما يُنذر بيوم حار يحمل معه عناء ومشقة. وأية مشقة!؟ أَتبلغُ مَداها لتضاهي المشقة التي يتكبدها صاحبنا في نفسه الملتاعة بنار أَبَتْ إلا أن تلتمس لها الزيت مهدئا. فانتشر لهيبها في الأفق مناديا السماء أن اقطعي أوصال الانتظار بين الغلام و ماضيه الذي يأتي ولا يأتي. هو قبسٌ من نور أضاء في لحظة غفلةٍ محيطه الغارق في السواد واستمر وَهَجُه رغم حلكة الليل البهيم. هي الزهراء بعينيها الغجريتين وروحها المخملية. الانتظار من أقسى لواعج الدهر التي تقض مضاجعنا بآلام خفية بارزة قاتلة. قال في نفسه: "وأنت يا هائم! ؟ ما الذي ترجوه من موضعك هذا أمام محطة القطار.. بل ما الذي كنت ولازلت ترقُبُه من مجلسك حذاء محطة العمر؟ !" فَكَّرَ: "يبدو منظرنا مثيرا للغرابة والاشمئزاز ونحن ننتظر شيئا لم يكن من البداية ملكا لنا. ولكن، إن لم تكن الزهراء ملكا لروحي، وقبسا شرعيا من نورانيات عقلي، فلمن تكون إذن؟"
    وقف أمام محطة القطار، ولازال لا يلوي!  هَمُّهُ السفر ولا مقصدَ له سوى مكان حيث تنقلب علته وتندحر في بحور الضباب، ثم تنقشع أمواجه، لتتكشف عن جو عليل ملؤه الحب والسلام والطمأنينة.
    قَصَدَ شباك التذاكر، وبادر المسؤولة عليه بالسلام. ردت التحية مستفهمة إياه بلغة آلية كأنما بُرمجت عليها سلفا: "إلى أين مقصدك؟". تمتم بكلمات لم تتبين منها السيدة شيئا، وقال بعد تفكير هائم: " الجديدة !" سكتَ لبرهة. ثم أخذت مسؤولة التذاكر تباشر عملية الحجز، ليعيد على مسامعها اسم مدينة آخر: "لا .. لا! مراكش.. قَصَدْتُ مراكشَ." كَفَّتْ مسؤولة التذاكر عن عملها وأشاحت وجهها عن الحاسوب وحولت ناظريها نحو الغلام مستغربة بنظرات لم تخلُ من أمارات الشك والارتياب.
   - الجديدة.. أم مراكش !؟
   - مراكش .. قَصَدت مراكش. بعضُ ذكرياتٍ لعيناتٍ تُلحُّ عليَّ بلفظ الجديدة. قال الغلام بصوت بالكاد بَلَغَ مسامع السيدة.
    لم تتبدد دهشة مسؤولة التذاكر إلا نزرا يسيرا. بعد لحظات، ناولته تذكرة أول قطار سيقصد وجهة مراكش. لَحَظ توقيت انطلاق القطار: الواحدة والربع. إذن فهي الثانية إلا ربع في التوقيت المحلي لهذه المنظومة المترسبة من العهد الخالي. فكَّرَ: "كعادته، سيتأخر القطار بنصف ساعة أو ما ينيف منها. أليس يعلم الناس في هذا الوطن بأنه لو قدِم القطار في وقته المحدد لصار عَلَمُ بلادنا محاذيا لعلم  الولايات المتحدة الأمريكية على القمر !" لم يلاحظ صاحبنا أنه لازال هنالك متسع من الوقت لكي يتبين حقيقة حدسه المزعوم، وما إذا كان القطار سيتأخر فعلا أم أنه سيكبح فرامله حذو رصيف ساحة الانتظار مع تمام الواحدة والربع فعلا. كما أنه لم يشأ تضييع الوقت المتبقي على بدء رحلته في استنباط العلاقة الكائنة بين تأخر وصول القطار في هذا البلد الأمين، وبين تعسّر بلوغ هذا الأخير مصافَ الدول المتقدمة فضائيا. لكنه أقنع نفسه ببساطة بوجود علاقة منطقية بين الأمرين، لم يكتشفها أحد بعد في هذا العالم سواه! 
ثم ما لبث أن ألفى نفسه قد تمادى في التفكير ثانية على خلاف ما وعد به سريرته، كما وجد متسعا من الوقت لكي يقصد الحمام. ولأول مرة في هذا اليوم، يقرر صاحبنا أمرا عن طيب خاطر وسبق تخطيط. فَكَّرَ: "الحمام هو المقصد الأوحد الذي تجتمع حوله الإرادة البشرية". ثم عزم على الذهاب إلى الحديقة المجاورة للمحطة في انتظار حلول موعد الرحلة.

***********
    مرت ساعتان وصاحبنا يتخذ مجلسه في الحديقة. اقترب موعد القطار. "ثلاث ساعات في انتظار قطار غبي!  ألم يكن يجدر بكَ أن تقومَ بعمل نافع بدل جلوسك على هذا المقعد البائس مثلك داخل حديقة العدم هاته" قال الغلام لنفسه. وأي عمل نافع يجدر بصاحبنا أن يقوم به؟ !... قطع حبل أفكاره صوت رجل ثائر أعقبَتْهُ عدة أصوات غاضبة تدل على أن أصحابها غارقين في جدل قد يفضي إلى شجار عنيف.
    سَتَتَبَدَّدُ لحظات الهناء والسلام التي نعم بها صاحبنا نسبيا في هذه الحديقة. لم يتزحزح من مكانه، حيث ظل متكئا على مسند المقعد، رجلاه ممدودتان إلى الأمام، رأسه منكفئ على الحافة العلوية للمقعد، وقفاه يعامد الفضاء. كانت عيناه ترقبان زرقة السماء، والغيومَ البيضاء في حركتها الهادئة. هاهي ذي الشمس قد انزاحت إلى وسط الفضاء اللآمتناهي واتخذت موقعها في كف السماء. لا يقطع حبل أفكاره سوى تفاقم نبرة الأصوات المتخاصمة، أو حجبُ السحب الكثيفة للشمس الدافئة بين الفينة والأخرى في خضم حركتها البطيئة البهيجة.
    انقطع حبل الوئام وتبدد الهناء كأنما جثمت على النهر الهادئ شجرةٌ كبيرة هوت فجأة فقطعت مجرى النهر الذي يسري ماؤه الصافي بسلام. انتصب الغلام مهتزا ليجد نفسه في غمرة رجال شِداد من حيث لا يدري. هؤلاء إذن من كان صراخهم يصل مسامعه من بعيد، ويعصف بمخيلته قبلاً! لم يستطع تبيُّنَ ملامح أولئك الرجال؛ فقد التفوا حوله من كل ناحية و كانت قامتهم من الشدة والطول بحيث تعدّت أُفق ناظريه.كانت أصواتٌ تترامى إلى مسامعه. "ألم أقل لك إنها ليست الفرصة المناسبة !" قال أحدهم. ليرد آخر: "وإلى متى سيظل هذا الحيف والظلم يلحقنا..". ظلمٌ وحيفٌ.. و ما شأني أنا !!    فَكّر الغلام، وأحكم قبضته على حقيبته اليدوية، وعزم على اختراق هذه الدائرة من الرجال التي طَوَّقته، بعد أن استنهضَ فيه كل قوة واندفع منسحبا من الجمع الذي أخد صراعه يحتد.
 وما يدري إلا ولكمة قوية هوت عليه كما يهوي الصياد على الغزال البريء. فجلجلت رأسه  جلجلة. واستحال مَرْآهُ سوادا كثيفا. فلم يعد يبصر شيئا غير بعض قبسات من نور. 
   "الحديقة.. الشجر.. الزهور.. هؤلاء الناس.. ماذا يبغون مني؟! هل هذا حلم بغيض هَجَرَ الفراش أُسْوَةً بي ولحقني حتى هذا المكان ليقصف مخيلتي بمزيد من ألاعيبه المدفعية الهجينة !؟.." قال الغلام في نفسه.
    كف الغلام عن إطباق جفنيه بصعوبة جمة، لينكشفان عن مقلتين مخبولتين حوتا عينان شبيهتان بعيني طائر جريح اندحر لتوه أرضا. فاستطاع بصعوبة تبين بعض ملامح محيط الحديقة حيث اجتمع نفر هائل من الناس. هاله عدد سيارات الشرطة التي اصطفت على جوانب الرصيف. رغم أن عددها لم يكن يجاوز، في الحقيقة، الثلاث عربات. غير أن هَوْلَ الصدمة التي قسمت رأسه، وروائح الدم التي فغمت أنفه، وتناقُرَ الهواء الذي هيج الجو، جعل كل ذلك أعصاب الصبي تتلاشى، ورسم في مخيلته صورةً مهولة شملتها ضبابية كثيفة عمت محيط الحديقة الغبراء.
    ثم لم يدر إلا وهو يستقبل ضربة أخرى أفاقته من هيامه الفكري. ولم تترك له أي مجال ليستأنف مسعاه في السؤال وحقه في الاستغراب. ليجد وعيه قد تلاشى رويدا رويدا مع سيل جارف من الدم انفجر كينبوع نفطٍ خامِدٍ نُبِشَ فهَبَّ ثائرا إلى عَلٍ. فترنح ثملا من هول ما حاقه، وناء به جسده فهوى مستقبلا الأرض، وأجساد الرجال الشداد لازالت تتلاحم في صراع درامي عنيف. فامتزجت في مخيلته ألوان شتى تجمع ما بين حمرة الدم وخضرة النبات وزرقة السماء. لتُكَوِّنَ تشكيلا بنفسجيا وتتصل بصور رمادية فجة من رجال عابسين. فشَكَّل الكل خليطا بصريا استثقل الغلام تمثُلَه في سريرته طويلا. فناء بالواقعة التي استحالت ذكرى. وناءت به كل الصور العنيفة التي ولجت ذهنه. فلم يتبين منها شكلا واضحا في غمرة الألم الذي يُطَوِّح رأسه حتى قحفه. فتمنى الموت آجلا. غير أن لحظة الرحمة لم تكن ببعيدة عن  المراد، حيث لم يستحمل وعيه المزيد من العنف الداخلي الذي فرضته أصوات اللطمات المتبادلة  بين أولئك الرجال الملاعين، والضجيج المصطخب الذي ملأ المكان. فاستنفذ الغلام طاقته، وقَضَى وَعْيُهُ، وخَرَّ مفترشاً الأرض!



 
  عوني مروان-مكناس-المغرب (2012-03-15)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

في انتظار القطار-عوني مروان-مكناس-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia