عبد الجبار السحيمي.... ضمير جيل منكسر-محمد بوخزار-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

عبد الجبار السحيمي.... ضمير جيل منكسر

  الأديب عبد الجبار السحيمي    

تعرفت لأول مرة، على، عبد الجبار السحيمي، في شهر بوليوز 1968، أثناء انعقاد المؤتمر الثاني العاصف، لاتحاد كتاب المغرب. كان معي إبراهيم الخطيب والأمين الخمليشي. حاول محمد برادة أن يقنع رئيس الاتحاد محمد عزيز الحبابي رحمه الله، أن يفتح أبواب المنظمة لتشجيع الأسماء الجديدة الواعدة التي تبحث عن من يأخذ بيدها في ميدان الكتابة والنشر، لكن طلبَ ضمِّنا وآخرين إلى قائمة أعضاء الاتحاد، قوبل بالرفض القاطع من المرحوم، خشية أن يؤثر الأعضاء الجدد في كفة الميزان الانتخابي، إذ استشعر الحبابي يومئذ خطورة تحرك الثالوث المعارض، المكون من محمد برادة، ومحمد العربي المساري، وعبد الجبار السحيمي، الذي تهيأ لمعركة السيطرة على اتحاد الكتاب، لكونه خرج، برأيهم، عن أهدافه وتحول إلى مؤسسة مهادنة للسلطة الرسمية، لدرجة أن الأنشطة الثقافية المقامة في مقر الاتحاد* غلب عليها حينئذ، الطابع الترفيهي الخفيف والإخواني، بدل أن تعبر منظمة الكتاب المغاربة عن أفكار ومطالب التغيير المعتملة بشتى الصور في أذهان المثقفين والكتاب ووجدانهم في تلك الفترة التاريخية العصيبة، وهو ما جعل الكثيرين منهم يحجمون عن النشر في مجلة (آفاق)، وخاصة بعد النكبة التنظيمية التي مني بها على يد السلطة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فيما سمي "مؤامرة 17 يوليوز 1963" وما أعقبها من اعتقالات ومحاكمات جماعية في مناطق المغرب، فضلا عن حدثين لاحقين ومفصليين في عقد الستينيات من القرن الماضي: انتفاضة الدار البيضاء العارمة في مارس 1965، واختطاف الزعيم الوطني المهدي بنبركة، في شهر أكتوبر من نفس السنة، وما حام حول الحادث من روايات عن تواطؤ عناصر من أجهزة الاستخبارات من الداخل والخارج.
في تلك الأجواء المحتقنة، المطبوعة بفرض حالة الاستثناء على المستوى الدستوري، لم يكن أمام العناصر المثقفة المحسوبة على حزبي المعارضة الرئيسيين: الاستقلال والاتحاد الوطني، خيار آخر عن نقل المعركة السياسية إلى الواجهة الثقافية، بغية استعادة اتحاد كتاب المغرب، ليعود إلى الموقع الذي أريد أن يكون فيه، منبرا مستقلا معبرا عن هموم المشتغلين بالكتابة والثقافة، خارج فلك النظام وبعيدا عن مظلة السلطة.
أتيح لنا، نحن الطامعين في العضوية، متابعة وقائع المؤتمر الثاني للاتحاد الذي افتتحه الأستاذ عبد الهادي بوطالب بخطاب، وكان يومئذ وزيرا للتربية الوطنية، والذي ما أنهى خطابه وهو يهم بجمع أوراقه حتى صعد إلى المنصة مسرعا، رجل نحيف يوزع مفردات احتجاجه بين جنبات قاعة الشريف الإدريسي، بكلية الآداب، ليمسك بأحد الميكروفونات الموضوعة على المنصة، منبها رئيس الاتحاد، إلى أن الجلسة الافتتاحية لم تنته بعد، وأنه لا بد من إثارة قضايا تنظيمية تتعلق بالكيفية التي سيسير وفقها المؤتمر. وفعلا تم التوافق بعد جدل على الترتيبات التي عارضها في البداية مؤيدو الأستاذ الحبابي، الذي أيقن في تلك اللحظة أن كرسي الرئاسة بدأ يتحرك مبتعدا عنه.
لم يكن ذلك المحتج النحيف، سوى عبد الجبار السحيمي، مؤازَرا بتحركات مماثلة يقوم بها في القاعة ضلعا المثلث، المساري وبرادة، لإقناع المؤتمرين الحاضرين، ولم يتعدوا آنذاك الأربعين عضوا، بأن المؤتمر يجب أن ينعقد وفق القواعد الديمقراطية، ولا يليق أن يتحول إلى لحظة مباركة وتزكية احتفالية، لأي كان.
وأنا أرقب السحيمي، وهو يصيح بأعلى صوته غير مكترث بتنبيهات الراحل الحبابي المتكررة إلى "أن الجلسة قد انتهت"، كنت أقارن بين الصورة التي انطبعت في ذهني عن الرجل، صاحب الكتابات الدافئة الهادئة ذات النكهة الرومانسية الشفيفة في جريدة "العلم" المتجلية في مذكراته "الليالي"، التي كنا نحس فيها بدفء وجودي آسر، ونحن طلاب في كلية الآداب بفاس، فنقبل عليها كل خميس، مثلما كانت تروقنا كتابات ادريس الخوري، المعنونة "مذكرات تحت الشمس" الذي كان يوجه هوائياته نحو فضاء لبنان، فينقل إلينا بأسلوبه المميّز، أصداء ما يجري في بلد الأرز، في دنيا الثقافة من خلال رصده للإصدارات والظواهر الأدبية، كناية منه عن طموح إلى أفق بعيد. 
قدمني الشاعر، المرحوم أحمد المجاطي، إلى السحيمي، ونحن في قاعة صغيرة بكلية الآداب اختليا فيها لتنسيق العمل الذي يجب القيام به في المؤتمر، بعد أن توطد العزم على إحداث التغيير في اتحاد كتاب المغرب. أستبق الأحداث وأسجل هنا أن المعداوي، الصعب المزاج، الانتقائي في علاقاته، القاسي على أصدقائه، كان يكن ودا خاصا للسحيمي، يتناقض مع انتقاداته لحزب الاستقلال.
لم أكن قد استلمت في يوليوز 1968، قرار تعييني، أستاذا بثانوية مولاي يوسف بالرباط. وحين بلغني ذلك، بعد حوالي شهر، اغتبطت كثيرا، ليس لأني سأصبح من سكان العاصمة ذات الجاذبية، وإنما لكوني بت قريبا من جريدة " العلم" الغراء حقا في ذلك الوقت.فلكم تمنيت أن أكتب فيها ذات يوم وأن أتعرف على كتابها وألج مطبخها الداخلي.
كان المرحوم المعداوي، وسيطا بيننا نحن جماعة صغيرة من طلاب الكلية بفاس وبين أساتذة الأدب الحديث الذين كنا نحس أنهم قريبون منا: محمد برادة، إبراهيم السولامي، محمد السرغيني، وإلى حد ما، حسن المنيعي، المقيم في مكناس. المعداوي هو الذي وثق علاقتنا بهم، في بيته العامر والمفتوح بفاس، حيث تقاسمنا معهم ما لذ وطاب من أفكار وصحون، كان يشرف على طبخها شخصيا دون تدخل أو نصيحة من أحد. يستبقي الطعام حتى مطلع الفجر بعد أن يكون الجوع قد تمكن منا، فنلتهم ما يقدمه لنا الطاهي الشاعر، دون أن يفكر أحد في إبداء ملاحظة على "الخلطات" الغامضة التي نزدردها.
حين بدأت ممارسة مهنة التدريس في الرباط، منذ أكتوبر 1968، لم يكن من الصعب تجديد الاتصال بالسحيمي. وهنا سيواصل المعداوي دوره في الجمع بين أصدقائه في الرباط الوافدين عليها، لا سيما وأني كنت أحظى بتزكية وتوصية من برادة، الذي اقترحني لأكون" قيما "على دار الفكر، مقر اتحاد الكتاب، في عهد المكتب الجديد، حيث أقمت هناك مدة، مجاورا للمرحوم محمد القاسمي الذي وضع الحبابي رهن إشارته غرفة بحديقة الدار، جعل منها مرسما له؛ وفيها شاهدت مرارا، القاسمي، وهو يبدع لوحاته، يخلط الألوان أمامي ويرسم أشكالا في الهواء بفرشاته قبل أن يهوي بها على رقعة اللوحة، فتصير بقعا ملونة، يعكف على إعطائها أشكالا متناغمة.
قربتني الإقامة بدار الفكر، من جريدة "العلم" فأصبحت أتردد عليها، بحكم أن الأستاذ عبد الكريم غلاب هو رئيس الاتحاد والمساري كاتبه العام؛ أنقل إليهما البريد العاجل، أو أبلغهما بطارئ في دار الفكر.
كانت الرهبة تتملكني وأنا أدخل مكاتب التحرير في "العلم"، أحس برغبة داخلية في أن أرى في يوم من الأيام  كلمات أخطها وقد ذوبت في رصاص المطبعة، ألمسها وقد صارت كتل أحرف من المعدن الساخن، ثم تظهر صورتها واضحة في بروفة "الطبع" قبل أن تأخذ طريقها إلى إحدى صفحات الجريدة.
ذات مساء أحد، طلب مني الصديق مصطفى اليرناسني، وكان وحده في تحرير الأخبار، وقد أدركته ساعة إقفال الجريدة، أن أعينه بترجمة قصاصة بثتها وكالة الصحافة الفرنسية، أذكر أنها كانت عن الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو.. سلمته المادة التي ما كاد يلقي نظرة أولى عليها حتى فاجئني بثناء لم أكن أتوقعه على صياغة الخبر. قال لي: إن موقعك الطبيعي في الصحافة يا "مسلموف". (هكذا كان يدعوني). وبعد أن أضاف تعديلات إلى الخبر، غادرنا مكاتب العلم، حيث ينتظرنا باقي أعضاء الشلة في مكان ما بالرباط، يكون في الغالب مقهى "الفصول الأربعة" بشارع محمد الخامس حيث كان الناقد الفرنسي الراحل "رولان بارت" يفضل الجلوس، أو نتجه نحو مطعم "ليل نهار" حيث تجتمع في الليل وجوه الإعلام والثقافة.
تحدث اليرناسني فيما بعد، إلى السحيمي والمساري، عن الاستعداد الطبيعي لتحرير الأخبار السياسية الذي لمسه عندي. وتصادف أن الطاقم الصحافي في" العلم "كان محدودا، لذا اقترح علي اليرناسني، بالاتفاق مع المساري، أن أطل بين الفينة والأخرى للمساعدة في تحرير وترجمة بعض الأخبار. أعانني عليها قاموس "المنهل" الذي كنت أول من بشر بنشر خبر عن صدوره في "العلم" ونزوله إلى المكتبات في المغرب.
ولم تمض أيام كثيرة على تعاوني المتقطع مع "العلم" حتى فوجئت بالمساري يقترح علي  العمل في "العلم" خلال عطلة صيف 1970، بأجرة يجب الاتفاق على مبلغها مع السحيمي، تلافيا للإحراج. وكأنه قرأ أن ذلك الصيف سيكون حافلا بالأحداث وهو ما سيتطلب محررا إضافيا لتغطية تداعيات أصداء وفاة الرئيس جمال عبد الناصر.
طلب مني المفاوض عبد الجبار، ذات صباح، أن أحدد التعويض الذي أرغب فيه مقابل شهر من الخدمة. وجدت رقما قريبا من لساني. قلت له 300 درهم، بمعدل 10 دراهم في اليوم، اعتبرتها كافية. حمل عرضي إلى المساري في مكتبه، ليخرج منه بسرعة وعلى محياه ابتسامة، قائلا "طلبك مقبول ياولدي، فاستعد للعمل".
قربني التردد على "العلم" من مطبخ التحرير، والأهم أنه وثق علاقتي بالسحيمي  والمساري اللذين رحبا بمساهماتي الأولى، بعطف دون أن يبخلا علي بتوجيه ونصائح لا أنساها، وهو ما جعلني أحرص على الموازنة بين طلباتهما. المساري يكلفني بالمواضيع السياسية الراهنة ويقترح علي ترجمة بعض المواد من الصحافة الأجنبية، لأنتقل إلى المكتب الثاني، حيث يسألني عبد الجبار، عن ما عندي للملحق أو للصفحة الثامنة (الأخيرة) فأسلمه ما أحمل أو استأذنه في الاشتغال على موضوع ما.وكثيرا ما شجعني بالثناء على مبادرات واجتهادات صحافية وجدت طريقها إلى النشر. وكنا كلما وفرنا له أنا والخوري مواد للملحق أو الصفحة الأخيرة، كافأنا بسهرة، يطرب لها، الخوري، فيملأ المكان الذي نقصده جلبة بصخبه وقهقهاته العالية. 
على ذلك النهج سار تعاوني مع جريدة العلم طيلة ما يقرب من أربع سنوات من بداية 70 إلى نهاية 1973 إثر عودة صدور جريدة "المحرر".
تعلمت من المساري أصول صياغة الخبر والانتباه إلى مدلول الكلمات وظلال معانيها وضرورة تجنب الأحكام القطعية ومراعاة ميول طبقات القراء وتوجهاتهم مع الحرص على التدقيق والتأكد من الأرقام والمعطيات. والأهم من كل ذلك قراءة ما وراء السطور، على اعتبار أن لغة السياسة مشفرة وحاملة لمقاصد. وباختصار فهو الذي زرع في بذور المهنة.
عن السحيمي أخذت أشياء أخرى كثيرة، بينها قيمة اختيار العناوين وجاذبية مدخل الموضوع وأناقة الأسلوب وشاعريته. كان يمثل بالنسبة إلي أجمل وأصفى وأنقى ما في المدرسة الصحافية المصرية، وتحديدا "صباح الخير وروز اليوسف" في خفة الموضوع ورشاقة اللغة والانتباه إلى الزوايا المهملة وذكاء العناوين وإيحاءاتها. كل ذلك في قالب لغوي ببهارات لغوية جميلة..
يلزمني خيال خصب وقدرة خاصة على الكتابة لاستجماع أجمل الذكريات وأمتع اللحظات والأوقات التي قضيتها في "العلم"، فقد اعتبرتني أسرة تحريرها، طيلة وجودي بها، واحدا من محرريها، مع أن المشرفين على الجريدة يعرفون أنني لست منتميا إلى الحزب. لم أحس أنهم أخفوا عني أمرا يفترض أن أعرفه. صرت جزءا من العائلة، أخضع للمضايقة من الأمن السري الذي كان يراقب "العلم" يوميا. أفتش في مدخل البناية حين يصادر عدد. وتلك ممارسات كثرت في بداية السبعينيات. يعود الفضل في تلك المعاملة الكريمة، أولا وأخيرا إلى السحيمي والمساري.
لم يكن سي العربي، بحكم التزاماته الحزبية، رفيقا دائما لنا في أمسيات الرباط العذاب، لا ننعم بأنسه ورفقته وطيب عشرته إلا عندما يسترق لحظات، متحررا من التزامات الأسرة والحزب، فتكتمل حلقتنا ويقاسمنا تلك الأجواء الجميلة المفعمة بالأحلام الكبيرة والنقاشات الممتدة الباحثة عن غايات مثلى، تتخللها لحظات فكاهة، يكون بطلاها في الغالب اثنان : الخوري وأنا، ثم ينصرف عنا بهدوء لنبقى في حضرة ولي أمرنا، عبد الجبار، يحملنا في سيارته "سيمكا 1000" وفيما بعد "رونو16" نحو بيته في خاتمة المطاف، حيث نتهاوى على "السداري" في صالون بيته القريب من "جور إي نوي". وفي الصباح نحس أن كريمته "كوثر" تتنقل بيننا، ونحن نائمين، تزيح الغطاء عن وجوهنا لتتأكد من الكائنات الممدة، فوق أفرشة تعبت والدتها في ترتيبها والاعتناء بها، فتعود، كوثر، من حيث أتت، مسرعة وخائفة. مرة سمعناها تشبه أحدنا ب"الحلوف"، لم يحاسبها من كانت تقصده. طفلة بريئة لا تعرف أسماءنا حتى تدعونا بها.
هكذا كان "السحيمي" لا يتركنا في الشارع عقب أية سهرة، يخشى علينا من  "لا رافل" رجال الأمن. نتسردن (إذا جاز التعبير) في سيارته الصغيرة التي استبدلها حتى يجد صديقنا ادريس الخوري، الطويل القامة والنجاد، راحته فيها.

لم يكن السحيمي، متزمتا حزبيا بالمعنى الصارم للكلمة، رفض مرارا العضوية في هيئات حزب الاستقلال المقررة، مقاوما إلحاح رغبة أغلب الاستقلاليين. يعتبر نفسه وطنيا تقدميا بالمعنى العريض للكلمة، بل أكاد أقول إنه شكل لعقود قناة اتصال الحزب مع المثقفين الجدد الذين كانوا ميالين بطبيعة الحال لأفكار اليسار. هو الذي أشرع صفحات "العلم" أمام الأقلام والمواهب، نشر لها دون أن يعرفها شخصيا أو يشترط انتماءها لحزب الاستقلال.
 وفي هذا السياق أذكر أنه توصل عن طريق البريد، بأول قصة من أحمد بوزفور، أعجب بها لدرجة أنه أحتار في أمر نشرها، لكون اسم كاتبها غير واضح، فاستعان بي على قراءة الخط، وبالخوري، لإبداء رأيه في القصة. فلبست نظاراتي، قربتها من الاسم حتى  أفك لغز الخط ثم حسمت. إنه "بوزفور". اسم غريب، لم يكن بالشهرة التي أصبح عليها فيما بعد؛ بينما جاء حكم قاضي القصة القصيرة، إدريس الخوري، لصالح النشر. وأذكر أنه قال لعبد الجبار ذات صباح أربعاء، ونحن في مكتبه، وهو يمد إليه باكورة قصص بوزفور المنشورة في " العلم"، "قصة مزيانة بزاف، صاحبها يعرف الحرفة".
 على نفس الكيفية تعامل المشرف على الملحق الثقافي، مع الأسماء التي راسلته أو قصدته. لا أذكر أن عبد الجبار، مارس رقابة على أحد أو تحفظ على اسم موهوب، حتى ولو كلفه ذلك عتابا من الحزب على نشر مواد قد تبدو متعارضة مع خطه، تجد طريقها إلى النشر في "العلم". أتذكر في هذا الصدد دفاعه عن عبد القادر الشاوي، الذي عوقب بحرمانه من النشر في "العلم" قبل اعتقاله، على خلفية نشره مقالا عن زعيم الحزب الراحل علال الفاسي، في منبر آخر، ضمنه تقييما إيديولوجيا صارما وقاسيا، من زاوية تحليل ماركسية، ندم عليه الشاوي فيما بعد.
تلك المواقف النادرة والحرص على إقامة مسافة بينه وبين المؤسسة، حزبية كانت أم حكومية، دون ادعاء، جعلتنا نلتف حول السحيمي ونمنحه حبنا وثقتنا المطلقة. ولكي يبرهن من جانبه عن اندماجه مع جماعتنا الصغيرة فكر يوما، أمام تردد حزب الاستقلال في عدم تجاوز سقف المعارضة المسموح به، في مغادرة "العلم" حتى لا يستمر في إحراج الحزب وإلزامه بمواقف يعبر عنها في كتاباته، ربما لا تروق القيادة أحيانا، بالنظر إلى أنها تراقب أحوال طقس السياسة المتقلب.
أقدم عبد الجبار على خطوتين ممهدتين لافتتين: كراء محل تجاري صغير في مدينة سلا، ليصبح مكتبة "الحرية" تمهيدا لتخليه عن مهنة الصحافة، إذا سارت أمور التجارة كما يبغيها. أما الخطوة الثانية غير المربحة مثل الأولى، فتمثلت في مطاوعة رغبتنا في إصدار مجلة ذات توجه ثقافي مستقبلي على غرار مجلة "أدباء" 68 المصرية، التي أخرجها مثقفون وفنانون شباب في القاهرة بعد هزيمة 1967. اتفقنا على تسميتها ب "ألفين" رغم اعتراض صديقنا الخمليشي على أن الأصح لغويا "ألفان". وكم حاولنا إقناعه أن الخروج عن القاعدة النحوية مقصود هنا.
عبد الجبار، هو الذي صاغ بيان "ألفين". ناقشه معنا (الخطيب والهرادي والخوري وعبد ربه) فيما ابتعد عنا الخمليشي، مشككا في قدرتنا على الصمود. تضمن البيان المؤسس، دعوة لبلورة ثقافة جديدة، ذات قيم مغايرة، ومحاولة نقد للأوضاع القائمة بعبارات غير سياسية. أذكر أن السحيمي افتتح بيان "ألفين" بهذه العبارات: «من داخل الغربة جاء لقاؤنا...ِ» ومن الأشياء التي يجب ذكرها هنا أنه حمل البيان إلى الرئيس علال الفاسي، طالبا رأيه ونصيحته. وكم كانت دهشتنا حينما حمل إلينا عبد الجبار تعاطف المرحوم علال الفاسي مع مشروعنا، مضيفا أنه يعتبر نفسه واحدا ضمن هيئة التحرير، إذا قبلناه، ثم سرد علينا ملاحظاته على البيان.
لم يصدر من المجلة سوى عدد واحد يتيم. عكست المجلّة في ذلك الوقت أحلاما كبيرة، بوسائل صغيرة أو معدومة. عبرت عن غربة جيل وحيرته وانسداد الأفق أمامه في تلك الفترة العصيبة من تاريخ المغرب.
ظلت "ألفين" كتابنا المقدس وعلامة هويتنا الفكرية، يستشهد ويفاخر بها مديرها، السحيمي، أمام المثقفين العرب الذين زاروا المغرب في ذلك الوقت. أذكر أن الشاعر عبد الوهاب البياتي، أعجب بالتجربة ونطق بحكمه لصالحها، "مجلة جيدة مقارنة بمجلات تافهة"، النعت الأخير كان كثير التردد على لسان البياتي، في سنوات الغربة.
 وحينما أتيح للسحيمي أن يحكي للدكتور سهيل إدريس صاحب مجلة الآداب البيروتية تجربة "ألفين"، تحمس لها كثيرا وتبرع بإعادة نشر بيان التأسيس في مجلته كاملا.
يصعب علي أن استمر في تعداد سجايا ومناقب من قال عنه الأديب محمد الصباغ في كلمة على غلاف مجموعته القصصية الأولى "الممكن من المستحيل" صاحب هذا الوشي....
وصف جميل وشاعري، لتلك النفس الصافية، الموشاة بالصدق والمحبة، المتضامنة، المسعفة، الشجاعة حد المخاطرة.. أحتاج إلى قاموس أستمد منه الألفاظ والمترادفات لأرسم صورة قلمية لذلك الصديق الأثير، الذي اعتبره أشد وأقوى الممانعين للزيف السياسي والثقافي، ولا أقول المعارض لأني أتصور أنه يمقت في أعماقه تلك الصفة التي تحولت عند البعض إلى تجارة واحتراف.
 أحببت هذا الكائن الطيب، فما خاصمني ولا خاصمته، تفاهمنا في مؤتمرات اتحاد الكتاب حيث كان دائما رسول التوافق. نعتبره مرشح جميع التيارات، لذلك كنا نصوت عليه بشبه الإجماع حينما ننجح في حمله على الترشيح.
ما أحسست قط أنه ينحي بصره عني.، حين نختلف في وجهات النظر. ولكم غفر لي أخطائي وتقصيري في معاملته بالمثل. عفوا أيها الصديق النادر، إن وقفت عند هذا الحد. صداقتنا امتدت عبر كل الأزمنة.
عذرا كذلك إن لم أتحدث عن آثارك الأدبية وعن أسلوب ممارستك لشتى الأجناس الصحافية، فقد كتبت المذكرات بتألق، ومارست النقد الأدبي بأناقة ورهافة ذوق، كما حررت الخواطر والتأملات والأبواب الساخرة. وفي كل تلك المحطات لم تكن جارحا ولا متحاملا ولا ظالما إلا الظالمين والمتجبرين والمتعنتين. لذلك كنت صوتنا وضمير جيل لا يليق به أن ينساك. لك محبتي الدائمة.



 
  محمد بوخزار-المغرب (2012-04-24)
Partager

تعليقات:
د . الوارث الحسن /المغرب 2012-04-26
انا لله و انا اليه راجعون و انه لمصاب جلل
البريد الإلكتروني :

العربي الرودالي /تمارة..المغرب 2012-04-25
كان أديبا كبيرا،أحب وطنه وأخلص لثقافته الحضارية، تعرفنا عليه منذ صبانا واتخذناه مثلا في كتاباته .. يصف أخلاقه ومبدئيته ومواقفه كصحفي، كل أصدقائه ومعارفه ممن نلتقي بهم، بإعجاب وتقدير وذكر حسن..لم تغير فيه السياسة استقامته ولم تدفعه إلى اللهاث وراء الطموح الطموع..رحم الله عبد الجبار السحيمي، فقد غادر هذه الدنيا نظيفا..وتحية لمحمد بوخزار
البريد الإلكتروني : mr.roudali@yahoo.fr

محمد الفشتالي /المغرب 2012-04-24
بهذه المناسبة الأليمة رحيل أستاذنا سي عبد الجبار السحيمي،أتقدم بأحر التعازي لكل أفراد أسرة الفقيد وعائلته ولجريدة العلم؛ راجيا من العلي القدير أن يلهمهم الصبر والسلوان أمام فجيعة الفقد هاته.لقد فقد المغرب والمغاربة رجلا دمث الأخلاق، ومواطنا فذا، وكاتبا أثرى الساحة الثقافية بكتاباته العديدة المتفردة والوازنة في مجال الأدب والإعلام والمجتمع... عزاؤنا واحد، ودعاؤنا له بالرحمة من الله...لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
البريد الإلكتروني : tazabay@yahoo.fr

محمد الإحسايني /المغرب 2012-04-24
هذا أقل ما يقال عن كاتب متميز عم شعاعه جميع حملة الأقلام من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى شرق البلاد. وما كان إلا صادقاً مع نفسه، مخلصا لمهنته وأصدقائه،طاهر النفس دقيق الملاحظة. فشكرا للأ ستاذ محمد بوخزار. ورحمة الله على عبد الجبار السحيمي.
البريد الإلكتروني : ihsaini_mohamed@yahoo.fr

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

عبد الجبار السحيمي.... ضمير جيل منكسر-محمد بوخزار-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia