أغنية الأضواء-هاني حجاج-مصر
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
شعر

أغنية الأضواء

 شتاء هذا العام، كانت الأمور تتوتر بشدة بين والدي (مها)، وفي حجرتها عرفت أن الجدال قد انتهي مع صفق الباب بشدة معلناً رحيل الأب. قامت مسرعة إلى النافذة، وأزاحت الستار قليلاً إلى جانب واحد واختبأت خلفه لكي تراه وهو يخرج إلى الشارع، كانت تعرف أنه سوف يرفع رأسه لأعلى.
كان الضوء الميت لشمس نوفمبر الغائبة يلمع في دموع عينيها، ولا يزال جفناها متورمان من أثر بكاء الأمس، أذي الضوء عيناها فأغلقتهما للحظة وعندما فتحتهما من جديد كان والدها قد اختفي.
السماء العظيمة مشحونة بالمطر، لكنها كانت أضعف من المساء فسقطت منها القطرات الحارقة مباشرة من قلبها الذي بلغ سن الرابعة عشر أمس الأول، ومن الروح الطفلة خرجت مناجاة للسماء البيضاء، إن ما تشعر به الآن هو إحساس بالذنب والرغبة والخوف والألم، كل هذه المشاعر دفعة واحدة، وكلها ممتزجة بشكل عجيب، لعل الأول هو أكثرها عمقاً وتبريرا لذاته، لكنه لم يكن بنفس الوضوح الذي شعرت به في المرات التي عاقبتها فيها أمها بسبب الإهمال أو عند ما كانت تصرخ في وجهها لأنها نست أن تجدل شعر أختها الصغيرة، أو عندما كانت تشعر بالخجل عند تتأفف أمها ويضيق صدرها بينما هي تحاول أن تقص عليها ما حدث لها اليوم في المدرسة، إنه إحساس يختلف، إحساس بدأ مع العبارة المبتورة التي سمعتها في شجار الأمس:
- "من أجل البنتين."
اخترقت هذه العبارة العامود الأساسي الذي يسندها من الداخل، بالرغم من أنها لم تجد لها مغزى محدد، أم لعلها رفضت أن تجد لها معني لأنه سوف يكون اتهاما لا تحتمله!.. بالأمس كان الخلاف الحاد.. (من أجل البنتين).. الآن يرحل أبوها أمام عينيها (من أجل البنتين)... وهي كبرى البنتين، فلا تزال (مارينا) في التاسعة من عمرها، ومراراً كانت أمها تقول:
-"إنك الأخت الكبرى، أنت بمثابة أمها، إذا أخطأت (مارينا)، فسوف أعاقبك أنت."
أما المشاعر الثلاث الأخرى فلم تدر إلى أي مدى تمتد جذورها بالداخل، ربما لأن الإحساس بها كان ظاهرا على السطح في شكل يمكنها أن تحدد موضعه، الرغبة في عودة أبوها وفي أن يكون كل ما حدث مجرد حلم، هذه الرغبة تشعر بها كالمغص الحاد في منطقة البطن، بينما كان الألم يسري عبر عمودها الفقري ويسيل إلى الركبتين، أما الخوف...
الخوف كان غريباً لا يمكن وصفه، كان كذراع بيضاء كهذه السماء، ذراع ثابتة كالصلب، بارد كالثلج، قوية كصوت أمها، ذراع طويلة بلا أصابع، بل مخالب، بيضاء أيضاً، هذه الذراع تدخل فمها وتمتد عبر حلقها الجاف كالتراب، الناعم كالجليد، لتعتصر قلبها في قبضة من المخالب. هذه القبضة المخلبية تحاول إخراج قلبها من مكانه عبر حلقها!..
من خلفها صوت (مارينا) وهي تعبث ببعض فيونكات الشعر. أسدلت الستار، واستدارت في اتجاه الغرفة والدموع لازالت تملأ عينيها...
شكراً للحزن الذي لم يجعلها تصرخ عندما رأت ذلك الشيء!
                *    *    *
لحظة واحدة رأته فيها.. وفي اللحظة التالية اختفي...
                *    *    *
(مارينا) تجلس على الفراش بقميص النوم الأبيض وفي يدها بعض الشرائط الملونة بينما شعرها المبلول لم يجف بعد، ومن خلفها. كان الشيء العملاق يملأ المكان، كتفاه عريضان من الحائط إلى الحائط، جسده هو كتل من السحاب الأبيض كالمعلق في أجنحة السماء وأغلقت عنه الستار الآن. الرأس مستطيل مغطي بشعر ناعم مفرود. أبيض تماما. العينان، عديمتا اللون... أو ليس كمثلهما لون. كلا، كان لها لون الفم. أزرق. ازرق يميل إلى القرمزي، بل البنفسجي. الجسد يتحرك بالكامل، ليس في أي مكان، بل في مكانه هو، كشلال، يجري من أعلى لأسفل ويتناثر من على الأجناب، أبيض كالماء الرائق المتكاثف. من الرأس يصعد لهب أبيض. ومن العينين يسيل الدم.. دم ارجواني يجري على الصدر ويشق طريقة إلى منطقة البطن ليتشكل في دائرتين.. واحدة فوق الأخرى. والدم الغامق يسيل باتحاد من على الجانبين. وباستمرار ليغذى الدائرتين ولا يحيد عن مجالهما. الشيء مريع. الشيء هو الرعب ذاته. لم تكن له مخالب لكنها شعرت بوجود المخالب. لم يكن له أنياب. لكنها رأته يفتح فمه ويكشف عن  أنيابه. وبالأنياب والمخالب يتلوى ويحيط بجسد (مارينا) أكثر من الخلف. كأنه سوف يبتلعها في جوفه الأبيض الضبابي. قبل أن تفهم معني هذا، اختفي...
قبل أن تصرخ، اختفي...
عبرت الحجرة بسرعة البرق الذي سوف يسطع في المساء بعد قليل ورفعت جسد أختها الصغيرة من على الفراش واحتضنتها، دفنت شعرها المبتل بين ذقنها وكتفها فشعرت برطوبته وبفروه رأسها الدافئة على عنقها، والجسد الضئيل بين ذراعيها مستسلما بالرغم من إنها لم تفهم، لكن الطفلة الصغيرة كانت قد بدأت تلاحظ أن والديها يتصرفان بغرابة في الأيام السابقة- على الأقل أكثر من ذي قبل – فلماذا لا تنضم أختها الكبرى إلى حفل المخابيل؟..
لقد رأت أمها من قبل تتحدث إلى نفسها في المرآة وتضحك على نكات قالها شخص غير موجود، وعندما رأتها حاولت أن تضربها، لكنها بدلا من هذا راحت تصرخ في وجه (مها) لأنها قد سمحت لها بأن تتلصص على من هم أكبر منها، وقالت لها شقيقتها في سريه تامة أن أمهما تعاني من بعض الإرهاق يلازمها منذ طفولتها عندما رأت أخوها يموت أمام عينيها، ولقي أبوها حتفه بعد أيام وظلت تعتقد أن أمها هي السبب، هكذا عرفت (مها) الحكاية من والدها، لكن تفاصيلها عرفتها بالكامل من عمتها.
في حضن أختها فكرت (مارينا) أن أمها هي ملاك حقيقي، لا تصرخ في وجهها أبداً، تلقي باللائمة على (مها) عندما تخطيء هي، بالرغم من أنها لم تحتضنها أبدا كما تفعل (مها) الآن، ولكن الدفء الذي يتسرب إلى جسدها النحيل من صدر أختها وذراعيها لابد أنه هو نفس الدفء الذي كان من الممكن أن تشعر به في أية لحظة لو احتضنتها أمها، لكن أمها أقوي منهم جميعاً. إنها لا تبكي كما تفعل (مها) ولا تشرد طويلاً كما يفعل والدها، بل أن أصابع أمها أكثر قوة وهي تقبض على كفها الصغير، الخاطرة الأولى كانت أن هذا مؤلم وغير عادل، لكن ما بقي لما بعد هو إعجابها بشخصيتها، قوة حقيقية وصلابة، وفي هذه اللحظة بالتحديد سبق ما تشعر سنها؛ فشعرت وكأن أختها ليست إلا غريب تصادف أن يقلب لها صفحة اليقين، وفي حضنها جاءها الاستعداد بأن تعرف أشياء أخرى.
            *    *    *   
للحظة شعرت به.. في اللحظة التالية اختفي...
            *    *    *
من أين جاء هذا الضوء الأبيض؟
غمر الحجرة، لكن (مها) لم تتحرك، كان وهما؟، سمعت دوي الرعد الآن، فهل كان البرق؟، ولكن الستار مسدل على النافذة الوحيدة، لكنها شعرت به حقاً.. شعرت بلمسته، ناعمة ومؤلمة في آن، ناعمة كالحرير ومؤلمة كنبات "أبو شوك"، ومعه تأثير ممتع بالخوف والأمان معاً كما تداعب الأمواج الباردة – بلطف – جسد من هو علي وشك أن يغرق حالاً، كأن جسمها النحيل الصغير يتعرض لهجوم حاد لظاهرة الأنفلونزا الصينية – عضلات مشدودة، ووخزات في الجلد وأعصاب تئن – إنها ترتجف.. لكن أمواج الخوف لا تسحبها نحو أغوار مظلمة الآن، بل تدفعها إلى شاطئ أمين.. هو حضن شقيقتها.
                *    *    *   
شعرت بشفتي (مها) وهما تقبلان شعرها المبلول فسرت في جسدها رعشه عجيبة، طفلة بسنوات عمرها التسعة تجد الخوف رمزا رومانتيكياً مثل إصرار أختها على أن يسكنوا في منزل له شرفة تطل على القمر، ومثل كفها الرفيق وهي تدهن شعرها بزيت الزيتون، ومثل طقم الـ (هافانا) الذي لم تعد أمها ترتديه لكنها لازالت تحتفظ به على سبيل الذكري، ومثل نعومة حركات قطها (كيك) وهو يغير من جلسته في حجرها.
                *    *    *
الخوف، الخوف، الخوف.
                *    *    *
انه هو ذلك الكيان الأبيض المدهش الذي ظهر في لحظه واختفى في لحظه، والذي خرج من دخان القلق الدائر هنا ليدفعها في حضن أختها، فتحية لهذا الخوف الذي منحها كل هذا الدفء والأمان.
كم من الوقت ظلت (مارينا) بين ذراعي شقيقتها؟، لم تعرف أيا منهما، ربما دقائق، وربما ساعات، لقد أظلمت الحجرة مما رجع الاحتمال الثاني، لكن الواقع انه عندما رفعت (مها) أختها إلى صدرها لتحميها من ... منه! .. وبينما ظلت هذه الأخيرة تقف على ركبتيها على الفراش ترتجف بين كفي (مها)، لم يستغرق هذا أكثر من ثلاث دقائق فقط.
هل كان ما رأته (مها) حقيقي؟ إنه لم يستمر لأكثر من ثانية فظنت أنها تهذي...
هل ما شعرت به (مارينا) حقيقي؟ ربما.. على أية حال فقد ظلت (مارينا) ملازمة للفراش طيلة الأيام الخمس التالية لهذه الليلة، ارتفعت حرارتها، ونست (مها) كل شيء عن الشيء الذي رأته يهاجم أختها (أو هكذا تخيلت وقتها) لأن الأمور قد ازدادت عمرا بمرض (مارينا)، خاصة بسبب أمها التي ظلت تلعن والدها لتركهم في ظروف كهذه..
وإلى جوار فراش (مارينا) جلست (مها) بين جلد شقيقتها الساخن والدواء المر والأقراص البيضاء والمنيل المبتل، وسط كل هذا أمضت (مها) الوقت، بين تأمل سحب الشتاء خلف النافذة المغلقة وبين محاولة أن تجد شيئاً من المتعة في الصفحات الأولى لـ(آنا كارنينا)، الزوجة تكشف خيانة زوجها مع خادمه فرنسية، لم تجد ما يدفعها لمواصلة القراءة ولكن عندما قرأت على لسان الأمير (ستيفا): أنها لن تصفح عني ... إن الذنب كله ذنبي أنا!، خطر لها أن أمها سوف تنهرها الآن عن مواصلة القراءة، وأيضاً فكرت أنه سوف يكون رائعاً لو أن هذا الزوج الخائن – الشجاع – كان أبوها، لكنها نحت هذا الخاطر بسرعة عن عقلها، وكذلك نحت الرواية المملة وعثرت أصابها على رواية مترجمة لـ(برام ستوكر) هي (ممر الثعبان)، عرفت أنها لن تمل بسرعة، وكانت البداية شائقة، بالرغم من أنها لم تكن مثيره للهلع كما في (كونت دراكيولا) التي قرأتها بعد أن شاهدت الفيلم، الحقيقة أنها تقريباً شاهدت عدداً لا بأس به منها، كلها بالأبيض والأسود وتقريباً حفظت ملامح كل من قاموا بدور مصاص الدماء الرهيب – طبعا عندما يتأنقون ويتبادلون المجاملات مع ضيوف الحفل وليس عندما يروق لهم احتساء مشروب احمر اللون، ففي هذه الحالة تبرز الأنياب وتصبح الشفاه في لون الدم – سوداء اللون على الشاشة، لكنها بالتأكيد كأحمر شفاه قاني كالذي تستعمله غانيات باريس، كما راق لها أن تتخيلهن وهي تتأمل المرأة التي حاول الرسام أن يجعلها مثيره لكنه فشل، على غلاف (سافو) – والناب الأبيض دائما يلمع قبل أن ينغرز في رقاب الحسناوات، لا تسقط قطرة دم واحدة، لكن أحمر الشفاه أعطاها الإيحاء بان الدم يسيل من رقبة الفتاه أو من فم الكونت النهم، كل مصاصي الدماء سواء، لكنهم بين السادة لكل منهم وجه مختلف حسب من يؤدي الدور، (كريستوفر لي)، (ريجي نالدر)، (فرانك لانديلا)، (فرانسيس ليديرير)، (بيلا لوجوسي)، حفظت أدق تفاصيل ملامحهم والاختلافات الشخصية في حركاتهم، بالرغم من أنها لم تعرف اسم أي منهم، وجدت انه لمن المثير للإعجاب حقا أن تري أن بإمكان الرجل أن يبدو وسيماً مهذباً بادي الرقي، يتكلم بهدوء الأرستقراطيين، ويتصرف بأخلاق الجنتلمان، بينما هو قادر على أن يحكم قبضته على مملكة الليل وأن يجعل من رجال العلم تابعين، وأن يفتن الفتيات البريئات معدومات الحيلة.
                *    *    *   
يأخذها الخيال فتتمني لو كان لوالدها كل خصال الكونت الرهيب، وفي منطقة أبعد تجد انه لا بأس أن تكون هي نفسها ضحية مصاص الدماء الجميل الغامض، وقادها (ممر الثعبان) إلى (مقبرة الفئران) ووجدت متعه لا توصف في هذه النوعية من القصص التي وجدتها في أغراض خالها الذي سافر إلى الخارج. كانت بينها كتب غليظة الحجم نوعاً، (شجرة الجازورينا)، (أشياء تتداعى)، (أن تملك وأن لا تملك)، (يد الله الأكيدة) وغيرها. وقد أحبت أن تقرأ كل هذه الكتب يوما لكنها كانت سريعاً ما تمل عند الصفحة الخامسة في أي منها ولم تفهم – بأعوام عمرها الستة عشر- المقصود من بعض تراكيب الأحداث، ولم تجد الإمتاع الذي منحته لها قصص أخرى أقل عدداً في الصفحات – مثل قصص (ستوكر) و(آرثر كونان دويل) – في هذه القصص مغامرة تبدأ وتنتهي.. وهناك المزيد من الرعب! ممتع أن يرتجف جسدها وهي تقلب الصفحات التي تري فيها ليدي (أرابيلا) تتحول إلى دوده بيضاء هائلة على سطح البرج أمام عيني المسكينة الهشة (ميمي)، فكانت هي نفسها (ميمي) الساذجة...
            *    *    *
فهل كانت الدودة البيضاء العملاقة هي فقط ليدي (أرابيلا)؟!.
            *    *    *   
من فوق روايتها ألقت نظره على وجه (مارينا) الشاحب.. هل ما تشعر به وهي تقرأ هذا الآن هو حقاً تجربه جديدة عليها؟..هل تتعرف على الخوف للمرة الأولى؟.. هل كان ما رأته منذ أيام هو مجرد حلم رديء تراه في يقظتها؟.. مجرد خيال متعب ليس إلا؟
 إنها لا تعرف إجابة أي من هذه الأسئلة..كل ما تعرفه هو أنها تقرأ – فقط – لتستعيد ذكري الخوف الذي لم تفسر وجوده .. تحاول أن ترى الشيء مرة أخرى بين صفحات القصص.
            *    *    *   
وفي الليلة التالية لمرض شقيقتها رأت (مها) الشيء مرة أخرى...
            *    *    *   
كانت – كاليوم السابق – مع أختها الراقدة على الفراش طوال اليوم. وجدتها فرصة جيده لتقرأ، أو لعلها وجدت القراءة نفسها فرصة لتهرب من المزاج السيئ لأمها، إنها تطلب منها أشياء كثيرة مرهقة لا تريد معظمها في الحقيقة ثم تنفجر في وجهها صارخة بلا داع، لكي يعم على الأرض السلام كانت تغلق الباب عليها وعلى (مارينا) وتغوص في المقعد (الفوتيل) المجاور للفراش وتقلب بين الروايات بحثاً عن واحده لم تقرأها. اكتشفت أنها في هذا اليوم قد انتهت من جزء كبير من قصة (ستوكر) – (تحت غروب الشمس) ولكنها دون سبب واضح قررت أن تبدأ (أنا كرانينا) من جديد، كأنها تبحث عن حالة تناسب الجو المحيط بها، وهذه المرة شعرت بأنها تفهم ما يحدث، بدءاً من (إن العائلات السعيدة كلها تتشابه أسباب سعادتها، أما العائلات التعيسة فإن لتعاسة كل منها سبب خاص يختلف عن أسباب تعاسة غيرها) وحتى حل موعد الحفلة الراقصة الكبرى، (كورسانكي) الوسيم يدعو (كيتي) إلى الرقصة الرباعية الأولى، وعندما أحاط خصرها الرقيق، وضعت (مها) شريط الأسبرين الفارغ بين الصفحات لتحديد موقعها من الكتاب قبل أن تنهض ذاهبة إلى الحمام لكي... لكي تغسل وجهها.
بالرغم من أنها قد اعتادت على أن تترك أمها الصالة مظلمة، فقد انقبض قلب (مها) عندما فتحت بابا الحجرة لتواجه الجو المعتم إلا من الضوء الأزرق المتموج المصاحب لأصوات من زمن مضي تراه أمها الآن من خلال فيلم عربي قديم على شاشة التلفاز في حجرة المعيشة مفتوحة الباب في نهاية الصالة.
قبض الوجوم قلبها، كأن هذا الظلام هو – وحده –خطية العالم الكبرى التي لن يغفرها إلا الله، لابد أن الدنيا قد أظلمت على هذا النحو عندما قرر (هيرودس) أن يقتل الأطفال خوفاً على عرشه.
الحق أقول لكم أن ركبتي (مها) في هذه اللحظة كانتا عبارة عن نوع من الـ(جيلي) الذي لم يمكث طويلاً في الثلاجة، وبدا لها أن بابا الحمام في النهاية الأخرى من الصالة هو بابا جهنم أو الباب الذي سوف تفتحه على كابوس لن تنساه حتى لو عاشت ثمانين عاماً.
قدماها ترتجفان كأنها تتقدم على حافة سفينة بينما هي لا تجيد السباحة، كأن الغول بانتظارها خلف بابا الحمام، كأن أعضاء مجلس (السنهدريم) سوف يلقون عليها حكماً ظالماً الآن.
والآن فقد تذكرت – رغم أنها لم تنس قط – الكائن الشنيع الشكل الذي توهمت وجوده خلف شقيقتها من قبل.. فها هي تتقدم الآن لتفتح باب الحمام لا لشيء إلا لتراه واقفاً بطول المكان مستعدا لالتهامها (وربما لفعل ما هو أسوأ)...
وبدا لها (الطريق) الأسطوري إلى الحمام في هذه اللحظات (التي مرت دهراً) وكأنه جسر التنهدات الذي كانوا يسوقون عليه المحكوم عليهم بالإعدام وبالسجن مدي الحياة من قصر (دوجيه) إلى جسر (فينيسيا) القديم.
يقف الكائن الرهيب الذي يشبه ثعبانا هائل الحجم الآن بانتظارها خلف باب الحمام... (مافيش حاجة تقدر تبعدنا عن بعض)؛ الأصوات تأتيها من التلفاز البعيد حيث يحتضن (شكري سرحان) كتفي (فاتن حمامه)؛ لكن هذا لم يمنعها من أن تسمع صوت فحيح الشيء خلف الباب.
فكرت في أن تعود أدراجها إلى حجرتها، نعم، سوف تعود وتجلس على المقعد المريح بجوار سرير (مارينا) ثم تقنع نفسها بأنها ليست في حاجه إلى دخول الحمام الآن (ربما ولا في هذه الليلة) ثم تستكمل قراءة (أنا كارنينا) من حيث توقفت. نعم، ربما كان هذا لن يبعث على الراحة، لكنه بالتأكيد أكثر أماناً..
لكنها يجب ألا تصدق في وجود عالم الغيلان والعفاريت وما إلى هذه الأمور، كما أنها فعلا في حاجة إلى دخول الحمام الآن، والإرهاق والضغط النفسي والجلوس لساعات في جو الحجرة البارد والوسادة التي وضعتها على معدتها وهي تقرأ، كل هؤلاء يؤكدون أن نداء الطبيعة يجب أن يلبّي! بالرغم من خوفها تتقدم كالمخدّرة، أكثر وهناً من أن تنفض عنها المخاوف، أكثر ضعفا من أن تتخذ قراراً بالرجعة.
بعد لحظات سوف تحدث المأساة.. سوف يظهر الشيء ليفتح فمه الذي يشبه مقبرة ليبتلعها.... سوف...



 
  هاني حجاج-مصر (2012-04-26)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

أغنية الأضواء-هاني حجاج-مصر

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia