محمد زين الدين مخرج مغربي، من مواليد مدينة وادي زم أخرج لحدود الساعة فيلمين طويلين هما "يقظة" سنة 2005 و"عقلتي على عادل؟" سنة2008. إلتقيناه أثناء فعاليات الدورة الأخيرة لمهرجان الوطني للفيلم بطنجة وأجرينا معه حوارا حول مساره السينمائي وحول رؤيته الإخراجية وعلاقة الأدب المغربي بالسينما المغربية وأشياء أخرى تجدونها في نص الحوار.
- إنتهجت في فيلمك "عقلتي على عادل؟" سردا يعتمد على الإستمرارية والقطيعة في نفس الوقت ، لتختتم في الأخير بشكل دائري يضم كل أحداث الفيلم في دائرة تحيل على أن ماجرى يتواصل ويتكرر باستمرار، حدثني عن هذا الجانب في الفيلم؟
- السرد عادة يكون خطيا ، لكن في دواخلنا أحداث وأحاسيس وليس لدينا الوقت لكي نضعها في هذا السرد الخطي ، فأنا أتكلم معك الآن وصور وأفكار تمور في خاطري، والتي لا يمكنني أو لا أستطيع أو لا أتوصل إلى أن أصبها أو أسردها في نقاشنا هذا ، ولكن أثناء الكتابة إذا كان الواحد منا على دراية بما يمور في دواخله وبما يحدث في الواقع خارج ذاته ويريد ترجمة ذلك عن طريق الكتابة يتعذر أن يكون السرد خطيا ويصبح الشكل الدائري من بين الأشكال التي تطرح نفسها كبديل حينها. هذا هو تبريري لدائرية السرد في أعمالي وفي "عقلتي على عادل؟" بالخصوص . فحتى في فيلمي الأول "يقظة" أبدأ بسرد خطي لكن سرعان ما يتحول السرد عن طريق الشخصية الساردة التي تعيش في خطاب يتجاوز "المونولوغ" والذي يمكن أن نطلق عليه "سوليلوغ"، فإذا كنت تجد في "المونولوغ" شخصية تسرد شيئا ما أمام شخصية أخرى ، فإننا في "السوليلوغ" نجد الشخصية تسرد لنفسها فقط . في مسرحية "هاملت" مثلا نجد "المونولوغ" إذ أن هاملت يتحاور مع نفسه ومع الآخرين أيضا، أما في "الملك لير" فنجد "السوليلوغ"، كون الملك يتحاور(مع) ويناجي نفسه فقط ، إذا فطريقة السرد الدائرية ناتجة عن هذا، كون السرد ناتجا من داخل وخارج الذات الساردة. فأنت حينما تكون تحكي من الخارج فقط يكون السرد خطيا وكلاسيكيا ببداية ووسط ونهاية أما إذا كنت ساردا من الداخل والخارج فيصبح السرد دائريا...
- يمكن لنا أن نفرق في فيلم "واش عقلتي على عادل" بين جزءين مختلفين وكأننا أمام فيلمين في واحد ، الجزء المصور في المغرب والآخر المصور في إيطاليا، فليست الفضاءات فقط هي المختلفة لكن طريقة التصوير أيضا ، ولو لم يكن ذلك الشكل الدائري الذي تحدثنا عنه الذي يجمعهما لظهر وكأنهما متنافران. هل كان هذا متعمدا من طرفك أم هي مجرد صدفة جعلت الحكي وشكل الفيلم يبدو كذلك؟
- الفيلم لن يعجب قطعا كل الناس ولحسن الحظ أن الأذواق تختلف..نعم هناك جزءان أو فيلمان، لأن كل جزء صور في فضاءين لكل منهما طقوسه وعاداته وتقاليده، وبحكم تجربتي الخاصة كوني لدي "رجل هنا وأخرى في أوروبا" ، الطقوس التي تُعاش وتُمارس هناك مختلفة ومتناقضة عن تلك التي تعاش وتمارس هنا. الكاميرا طبعا تحركت هنا بطريقة مختلفة عن الكيفية التي تحركت بها هناك، هناك صورنا بطريقة "ستيديكام"*، إذ كانت المشاهد منسابة وتتمتع بنوع من السيولة ، في حين هنا في المغرب شوارعنا مملوءة بالبشر، وهكذا إذا وبالمقابل كان لزاما علينا التصوير بكاميرا محمولة على الكتف . إذا لم تكن هناك هفوات أو أخطاء أو خلل بل كان كل شيء متعمدا نظرا لكون الفضاءين اللذين تتحرك فيهما الشخوص كانا مختلفين.
- في فيلمك الأول "يقظة" قاربت موضوع الأدب، بحكم الشخصية الرئيسية في الفيلم كاتب وبحكم الأسئلة الأدبية المطروحة فيه، إنطلاقا من هذا هل يمكن أن تحدثنا عن فيلمك "يقظة" من هذا الجانب، ورؤيتك لعلاقة الأدب بالسينما وخصوصا السينما المغربية؟
- لا يمكن أن تكون هناك سينما قائمة بذاتها في أي بلد بلا أدب قائم بذاته وقوي، واللغة هي الأداة التي يُكتب بها الأدب وهي أساسه، والشعب الذي لا يمتلك لغة خاصة به ليعبر بها أدبيا ليست لديه أداة للتعبير. إذا ما أحوجنا إلى اللغة الدارجة كلغة للكتابة إذ أننا نتفاهم بها جيدا، لكننا للأسف لا نبدع بها، إذن ليست لدينا لغة للإبداع خاصة بنا كشعب، نحن نتخبط بين الفرنسية والإسبانية والأمازيغية والعربية، وهذا خلل يرخي بظلاله على الواقع الأدبي المغربي، لكن هذا لايمنع أن نكتب بلغة أخرى كالفرنسية مثلا أو أية لغة أجنبية أخرى نتقنها، ولكن كأدب ليست لدينا أرضية للإنطلاق منها كلغة لكي نعبر عن واقع ترعرعنا فيه وننتمي إليه ، والذي نطمح للتحاور معه بلغة ننتمي إليها وتنتمي إلينا وليست وافدة من أية جهة كانت، وإذا لم تكن هناك لغة لن يكون هناك أدب كما قُلت سابقا ، والشعب الذي ليس لديه لغة ليست لديه أداة ليعبر بها...أما بخصوص تطرقي الأدب في أفلامي فكل عمل يشبه صاحبه، وأنا إذا تطرقت للأدب في فيلمي الأول فهذا يعني أن لدي علاقة كبيرة مع الكتاب ومع الأدب عموما، ففي "يقظة" هناك كاتب يعاني من واقع مجتمعي وفني وأدبي غير صحي ، إلى درجة لم تعد لديه ثقة في ذلك الأدب الذي يزاوله ويمارسه ويحبه، وأصبح إنسانا تائها بدون مشروع أو آفاق يعيش من أجلها..إذ أنه إنغمس في حياته الأدبية إلى درجة أنه أصبح يعيش في عالمه الخاص وفي قوقعته أكثر مما يعيش في العالم الواقعي وهناك مشاهد في الفيلم في هذا السياق من بينها تلك التي يلصق فيها كتابا في الحائط وتلك التي يمزق فيها كتابا، لكنه رغم حالته المزرية ونظرة المجتمع إليه إلا أن نظرته وتحليله للناس والأشياء والواقع والفن يظلان ثاقبين ويظل ممتلكا لأدوات فهم هذه الأمور...في "عقلتي على عادل؟" لا نجد مسألة الأدب مطروحة او حاضرة ، بحكم أن الشخصية الرئيسية (عادل) جد بسيطة ولا يمكن أن تكون لها علاقة بالكتاب والأدب عموما.
- في نفس السياق هل تفكر في اقتباس رواية مغربية للسينما أم أنك مع رأي بعض المخرجين المغاربة الذين يدعون أن الرواية والقصة المغربيتين غير صالحتين للإقتباس السينمائي؟
- لا، القول بأن الأدب المغربي غير صالح للسينما هو نوع من الوقاحة والعهر الفني، والذين يقولون مثل هذه الأقوال ويروجون لها لا يقرؤون وليست لديهم أية دراية بالأدب المغربي ولا بمسرحه ولا بشعره، ولا حتى بمجريات الشارع المغربي..لدينا أدب ولدينا كتاب مهمون ، لكن ليس لدينا من يقرأ هذا الأدب ومن يتأدب أمامه. وأنا في فيلمي الأخير الذي مازال في مرحلة المونطاج أعود إلى قضية الأدب والكاتب والكتابة...
- أنت من بين المخرجين الذين يمكن أن نطلق عليهم مصطلح "المخرج المؤلف" ، وهو صنف من المخرجين لديهم رؤية إخراجية ونظرة خاصة للفن والمجتمع ولديهم مشروع سينمائي وفني يشتغلون عليه ، إذا كان كذلك فأين يتجلى هذا المشروع وكيف تتصوره وأين تتجلى هذه الرؤية السينمائية لديك إن كانت؟
- فالنسمه مشروعا ثقافيا . بالنسبة لي القاعدة الأولى هي العمل في الظل ثم القراءة. تلك الأضواء المنعكسة والبراقة لا تجذب إليها إلا الذباب فقط ، أما النحل فيختبئ في الكهوف ليعطي العسل . يجب على الفنان والمبدع أن يتميز بالخجل..إذن ففي تاريخ الأدب وفي تاريخ الفن وفي تاريخ الأنطولوجيا وفي تاريخ الإجتماع الذي لديه ما يقوله لا يستعرض نفسه بل يدع ذلك لأعماله تتحدث عن نفسها، ل"بريخت" مقولة شهيرة في هذا السياق معناها أن الذي لديه مايقول يصمت...المشروع الثقافي على المدى البعيد يتحول مع المدة من مجرد مشروع مهدد بالإندثار إلى تجربة ، لأن كل ما نعيشه ونخوضه كتجربة يستمر، فالتجربة عبارة عن سلسلة كل مرة نضيف إليها حلقات جديدة تزيدها غنى ورونقا.
- يعني أنك تفضل التجربة على المشروع ، ربما لأن التجربة تظل دائما تنشد الكمال ولا تصل إليه بعكس المشروع الذي يدعي الكمال؟
- الكمال يُنشد ولا نصل إليه أبدا، شيء واحد نصل فيه للكمال هو الموت، أو ربما حتى في الموت أيضا ليس هناك كمال لأننا لا ندري ماذا وراء الموت. الإنسان تحركه ثلاثة أشياء هي الحب والحياة والموت، وهذه هي قاعدة الدراما والسينما والأدب والمسرح والحياة أيضا، وهذه الأشياء هي التي تحركنا. الخوف من الموت هو الذي يجعل الإنسان يائسا يجري وراء المشاريع ، وإذا كانت لديك أفكار وحولتها إلى مشروع فعليك السلام، سوف تفعل أي شيء من أجله، سوف تكره وتحقد وتقتل ربما أيضا...
- حديثك عن الموت ذكرني بتيمات وجودية نلمسها في فيلميك "يقظة" و "عقلتي على عادل؟" ، إذا كان تخميني في محله، حدثني عن هذا الجانب في أعمالك.
- أي إنسان هو مشروع كاتب أو أديب أو فنان ، لكن الكاتب الحقيقي والفنان الحقيقي هما اللذان ينطلقان من همومهما وقلقهما وأفراحهما ومآسيهما الخاصة ، وكن على يقين إذا كنت صادقا ونزيها فإنك ستصل إلى الناس وتمس مشاعرهم . لكن أن نكتب ونتحدث عن أشياء لا نعرفها فهذا صعب ولا يتاح إلا للأنبياء وهؤلاء قليلون ، لا يمكن أن نكتب عن الثلج ونحن لم نره أبدا . هناك من يقول مثلا بأن شيكسبير كتب "روميو وجولييت" دون أن يرى أو يزور مدينة "فيرونا" الإيطالية حيث تدور أحداث المسرحية ، لكن حتى إذا افترضنا أنه لم يرها فإن أحدا يعرف المدينة جيدا أعطاه معلومات عنها.
- هل يمكن أن تحدثني عن طريقة اشتغالك، كيف تأتيك الفكرة ثم كيف تشتغل عليها أثناء كتابتك للسيناريو، قبل مرحلة التصوير؟
- أول شيء يجب أن أكون مؤمنا ومتيقنا مما أنوي الخوض فيه ، قد تأتيني فكرة، ولكي تأتي يجب أن أنعزل عن الناس ، والفكرة إما أن تقتلها أو تجهز عليك، إذا يجب أن تكون دقيقا وتجلس منفردا وتتحاور مع الشخوص التي خلقتها ومع أوهامك، ، كلنا لدينا أوهام ، وإذا كنت فعلا تتحاور معها وكنت نزيها وجريئا لحدود تقطيع أمعائك وإظهار مافيها يمكن أن تخرج بنتيجة، لكن إذا لم تكن لديك الجرأة لترى نفسك وتشرحها وتريد فقط تشريح الآخرين فساعتها ستنتج فنا وأدبا مزيفين وغير حقيقين.
- ...والسيناريو بالنسبة لك هل يظل مفتوحا على كل الإحتمالات حتى مرحلة التصوير وما بعدها أم أنه يكون منتهيا بالنسبة لك حينما تنتهي من كتابته؟
- السيناريو يظل مفتوحا وغير مكتمل إلى درجة أنك حينما تنتهي من التصوير ويذهب الفريق التقني والفني إلى حال سبيلهما تزيد في تطعيم مادتك المصورة بصور وأفكار أخرى . والذي يكون نزيها في كتابته يكتب دائما عن نفس الموضوع ، فشيكسبير مثلا كتب كل تلك التراجيديات لكنه ظل في العمق يكتب كتابا واحدا، فشخوصه هي دائما نفسها ، إذ أن الكاتب أو الفنان أو المخرج الذي لديه هموم يريد معالجتها يظل يشتغل دائما في نفس السياق، إذ كلما ازددت بحثا وتنقيبا إلا ووجدت شيئا جديدا ، مثل البنية الأركيولوجية ،هناك طبقات، وكلما ازددت بحثا إلا ووجدت أمورا أكثر أهمية.
- ما موقفك من الدراما والأفلام التلفزيونية وهل يمكن أن تشتغل في عمل تلفزيوني؟
- إذا وجدت عملا تلفزيونيا جيدا فأنا مستعد من الآن لكي أوقع العقد والشروع في العمل فيه...
- لكن ألا ترى أن الإشتغال في التلفزة يختلف عن الإشتغال في السينما وأن جمهورهما يختلف؟
- لا هذه فكرة خاطئة وفرضها أناس وصدقها آخرون . هناك كاميرا واحدة ، وحتى الممثلون تجد أنهم في بعض الأحيان هم نفسهم في الفيلم التلفزيوني والسينمائي، المشكل أنه ليس هناك إنضباط في التلفزيون ، يأخذونه كمجرد لعب. العديد من المخرجين الكبار إشتغلوا مع التلفزة وقامت التلفزة بالتعريف بهم.
- لكن حتى بعض مدارس النقد السينمائي تتجاهل في العديد من الأحيان أعمال هؤلاء الكبار التي أنجزوها للتلفزة.
- هناك نقد بناء وآخرليس بكذلك .أنا أفضل المدرسة النقدية التي سادت في روسيا لفترة والتي تعتبر النقد إبداعا على إبداع..مثلا هناك نقد جميل كتب عن قصة "المعطف" لغوغول أصبح هو نفسه إبداعا...إذا كان لدينا مسرح وأدب جيدان ستكون لدينا سينما جيدة، ولن يفلت من الرداءة سوى من يكرس نفسه لفنه وتكون لديه دراية بالأدب العالمي ، ويأخذ من الواقع المعيش المحلي مستعملا رصيده من القراءة والمشاهدة للأدب والسينما العالميين، لكن أن نجلس في المقاهي وننتظر أن ينزل علينا الوحي فهذا ما لن يحدث، لأن الذي لا يقرأ ولا يتابع لايمكن أن ننتظر منه أي شيء.
- كيف تشتغل مع ممثليك، أو كيف تُديرهم؟
- أول شيء يجب أن تكون هناك نوع من الثقة المتبادلة ليس مع الممثلين فقط بل بداية مع ذلك العامل البسيط في البلاطو ، إذ يجب أن يكون فريق العمل كأسرة صغيرة متجانسة ومتحابة، أما تلك الأفلام التي يفرض فيها مدير الإنتاج أو المخرج سيطرتهم فإنها تعلن مسبقا عن فشلها في مرحلة التصوير، المهم هو الإستقامة والجد في العمل. هناك مقولة خاطئة إستوردناها من الغرب وهي diréger le comédienإدارة الممثل، إذا كانت هناك ثقة متبادلة فسوف تأخذه من يده (الممثل) وأنتما تتكلمان وتتناقشان بحميمية ستوصله إلى ماتريده ، ليس هناك إدارة هناك أخذ وعطاء، إلى درجة تصلان معها إلى نقطة يحدد فيها النص والشخصية ما يجب أن يكون وليس المخرج، هي نفسية الشخصية المكتوبة على الورق التي تحدد ، أما أنا كمخرج فمجرد خادم لها. هي عملية أشبه بالرقص نأخذ بأيدي بعضنا ونرقص إلى أن نصل إلى مانريده.