صدرت حديثًا الأعمال الشعرية للشاعر محمد حلمي الريشة، في ثلاثة مجلدات وقعت في (1297) صفحة، واحتوت على اثنتي عشرة مجموعة شعرية، كانت صدرت خلال السنوات (1980-2007) وهي: الْخَيْلُ وَالأُنْثَى (1980)، حَالاتٌ فِي اتِّسَاعِ الرُّوحِ (1992)، الْوَمِيضُ الأَخِيرُ بَعْدَ الْتِقَاطِ الصُّورَةِ (1994)، أَنْتِ وَأَنَا وَالأَبْيَضُ سَيِّءُ الذِّكْرِ (1995). ثُلاثِيَّةُ الْقَلَقِ 86-90 (1995)، لِظِلالِهَا الأَشْجَارُ تَرْفَعُ شَمْسَهَا (1996)، كَلامُ مَرَايَا عَلَى شُرْفَتَينِ (1997)، كِتَابُ المُنَادَى (1998)، خَلْفَ قَمِيصٍ نَافِرٍ (1999)، هَاوِيَاتٌ مُخَصَّبَةٌ (2003)، أَطْلَسُ الْغُبَارِ (2004)، مُعْجَمٌ بِكِ (2007)، باستثناء مجموعته الشعرية الأخيرة "كأعمى تقودني قصبة النأي" التي صدرت في السنة الماضية (2008)، وذلك عن "وزارة الثقافة- بيت الشعر الفلسطيني" في رام الله.
على الغلاف الأخير، يكتب الشاعر الكبير محمد بنيس: "مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة شَاعِرٌ يَدْعُونَا لِقِرَاءَتِهِ وَالمَشْيِ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ مَعَهُ فِي هذِهِ الأَعْمَالِ الشِّعْرِيَّةِ. يَدْعُونَا لأَنَّهُ قَرَّرَ، أَخِيرًا، أَنْ يَجْمَعَ هذِهِ الأَعْمَالَ بِعِنَايَةِ الشَّاعِرِ الَّذِي جَعَلَ الشِّعْرَ مَسْكَنَهُ الأَوَّلَ. كَذلِكَ عَلَّمَتْهُ فِلَسْطِينُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى القَصِيدَةِ بِفَرَحِ الطُّفُولَةِ القَادِمَةِ فِيهِ. كَأَنَّمَا القَصِيدَةُ كَانَتْ مُنْذُ البَدْءِ وُجِدَتْ لِكَيْ لاَ تَتْرُكَ دَمَ الأَيَّامِ الفِلَسْطِينِيَّةِ فِي شَوَارِعِ النِّسْيَانِ، وَكَأَنَّمَا الجَسَدُ يَتَعَرَّفُ عَلَى إِقَامَتِهِ فِي العَرَاءِ بِبَصِيرَةِ مُسَافِرٍ تَحْتَ سَمَاءٍ لاَ تَرَاهُ.
وَفِي قِرَاءَتِنَا لِشِعْرِ مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة نَتَوَقَّفُ قَلِيلاً، نَأْخُذُ النَّفَسَ وَنَحْنُ نَتْبَعُ أَثَرَ حَيَاةِ شَاعِرٍ فِلَسْطِينِيٍّ هَاجَرَ مِنْ خَارِجِهِ إِلَى دَاخِلِهِ، وَاضِعًا فِي مُقَدَّمَةِ الكَلِمَاتِ طُرُقَ العَذَابِ. فِي الهِجْرَةِ تَفَحَّصَ جَغْرَافِيَّةَ الأَرْضِ، وَفِي الهِجْرَةِ التَقَى بِوُجُوهِهِ عَبْرَ لُغَةٍ غَاوِيَةٍ حِينًا، وَلُغَةٍ تَبْحَثُ عَنْ ذَاتِهَا حِينًا آخَرَ. وَهُوَ، مِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَةٍ، وَمِنْ وُجُوهٍ إِلَى وُجُوهٍ، يُعِيدُ تَشْكِيلَ جَغْرَافِيَّةِ الأَرْضِ، حَتَّى لاَ تَضِيعَ الأَرْضُ مِنْ بَيْنِ يَدَيهِ. هِيَ أَرْضٌ لِجَسَدٍ، وَأَرْضٌ لِنَشِيدٍ جَمَاعِيٍّ أَتْقَنَ كِتَابَتَهُ شُعَرَاءُ تَوَحَّدُوا فِي أَثَرٍ مِنْ "بِلاَدٍ لاَ بِلاَدَ" فِيهَا، حَسْبَ عِبَارَةِ الشَّاعِرِ. غُرْبَةُ الرُّوحِ لَيْسَتْ مَا أَعْنِي، بَلْ غُرْبَةُ الوُجُودِ.
مِنْ خِلاَلِ قَصِيدَةِ مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة تَحْمِلُنَا الأَسْئِلَةُ، شَيْئًا فَشَيْئًا، إِلَى فَضَاءٍ شِعْرِيٍّ لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِ القَارِئِ، خَاِرَج فِلَسْطِينَ، أَنْ يَلْمَسَ عَنْ قُرْبٍ حَيَوِيَّتَهُ ذَاتَ الامْتِدَادِ فِي الحَرَكَةِ الشِّعْرِيَّةِ العَرَبِيَّةِ وَالعَالَمِيَّةِ. وَهُوَ، فِي هذِهِ الأَعْمَالِ، يَرَى قَصِيدَةً تُغَادِرُ الأَسْوَارَ فِي طَرِيقَةِ كِتَابَتِهَا، وَفِي تَجْدِيدِ دَمِهَا.
شِعْرٌ لِمَنْ يَقْوَى هُوَ الآخَرُ عَلَى السَّفَرِ، لأَنَّ قَصِيدَةَ مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة تَعِدُ بِمَا لاَ نَدْرِي، تَأْمُرُ بِالنَّظَرِ إِلَى شَاعِرٍ يَحْفُرُ مَجْرَاهُ الشَّخْصِيَّ، ضِمْنَ عَائِلَةٍ شِعْرِيَّةٍ فِلَسْطِينِيَّةٍ، فِي مَسَارٍ تَحْدِيثِيٍّ لَنْ يَخْضَعَ لِلْكِتْمَانِ الآنَ وَبَعْدَ الآن."
أما التقديم لهذه الأعمال الشعرية، والذي جاء مطولاً نسبيًّا، فقد كتبته الشاعرة والناقدة سمر محفوض، ومما جاء فيه: "كَحَارِسٍ رَهِيفٍ وَرَحِيمٍ لَيْسَ يَخَافُ أَنْ يُصِيبَهُ الْإِفْرَاطُ بِالْحَنِينِ وَالْوَلَهِ المُمَاثِلِ لِدَهْشَتِهِ المُعَافَاةِ، يُمَثِّلُ الشَّاعِرُ مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة حَالَةَ السَّعْيِ لِلتَّمَاهِي مَعَ الرُّؤَى وَالْحَنِينِ، لِيَزْدَادَ تَوَاصُلُنَا بِالانْدِهَاشِ الْحَنُونِ عَنْ طَرِيقِ خِطَابِهِ الرَّشِيقِ، وَدَفْعِنَا إِلَى التَّأَمُّلِ، وَهُنَا بِالذَّاتِ، يَكْمُنُ الْفِعْلُ المُرْهِقُ لِحُرُوفِهِ، بِمُتَنَاوَلِ النَّبْضِ المُتَوَرِّطِ بِفِعْلِ الْحَيَاةِ وَالرُّوحِ الْحَامِلَةِ لِقَنَادِيلِ خُرُوجِهَا مِنَ الْهَشَاشَةِ."
وتضيف: "الْكِتَابَةُ لَدَى الشَّاعِرِ الرِّيشَةِ لَيْسَتْ نَزْوَةً، بَلْ تَوَاتُرٌ حَيَوِيٌّ مُتَجَاوِبٌ وَمُبْتَكَرٌ عَلَى نِطَاقِ المُحْتَوَى الشِّعْرِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ احْتِوَاؤُهُ كَمَادَّةٍ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْخَيَالِ وَالتَّوْرِيَةِ وَالظُّهُورِ وَالْحُنُوِّ، أَحْيَانًا، لِلنَّفْحَةِ الصُّوفِيَّةِ كَمُرْتَكَزٍ لِلْبَقَاءِ بِكُلِّ مَدْلُولَاتِهِ وَتَعْرِيفَاتِهِ."