المظاهر الاحتفالية في مسرحيات عبد الكريم برشيد د. مصطفى رمضاني
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

ãáÝÇÊ
  الجائزة الأولى للتأليف المسرحي - بغداد 1985    
المظاهر الاحتفالية في مسرحيات عبد الكريم برشيد
يحتل عبد الكريم برشيد مكانة خاصة في خريطة المسرح المغربي، نظرا لاهتماماته المتنوعة وعطاءاته المتميزة. وتتوزع هذه الاهتمامات بين الإبداع والنقد والتنظير. فقد ساهم بإبداعاته الجادة والكثيرة في إغناء الريبرتوار المغربي بأكثر من ثلاثين مسرحية. كما ساهم في الإخراج المسرحي في بداية رحلته المسرحية. وتتميز إبداعاته بالنـزعة التجريبية، والبحث عن صيغة مسرحية أصيلة تكون بديلة لما هو سائد من الكتابات التي يعتبرها بعيدة عن تمثيل حقيقة المسرح العربي. فهو يرى أن تحقيق هذه الصيغة لن يتأتى إلا بالعودة إلى الذاكرة الشعبية التي تختزن كل ألوان التعبير الاحتفالي، لأن ذلك وحده كفيل بخلق تواصل مسرحي حي وأصيل بين المبدع والمتلقي. وقد استفاد برشيد في هذا الصدد من الأبحاث التي دعت إلى تأصيل المسرح العربي من خلال العودة إلى التراث. إلا أن المصدر الأساسي الذي اعتمد عليه يتجلى في تلك الأشكال الاحتفالية التي عرفها منذ كان طفلا، كالحلقة، وفن السيرك، ثم السينما. ولقد أكد أن هذه المصادر تعتبر بداية رحلته نحو المسرح الاحتفالي، ما دامت تتضمن مجموعة من الأشكال الاحتفالية التي تعتبر بحق مسرحا مفتوحا في الأسواق والساحات(1).
من هنا سعى برشيد إلى البحث في التراث العربي الإسلامي عن هذه الأشكال الاحتفالية ليستقرئ مكوناتها الدرامية، فوجد أن التراث -المدون والشفوي- يزخر بطاقات درامية هائلة يمكنها أن تساهم في إرساء نظرية متماسكة وأصيلة للمسرح العربي. ورأى أن هذه النظرية لن تكون نهائية إلا إذا كانت لا تتنافى مع النظريات المسرحية العالمية التي تجعل من المسرح احتفالا. لهذا نجده في أغلب مسرحياته يجمع بين الأشكال التعبيرية الشعبية المعروفة في التراث العربي الإسلامي، وبين بعض التقنيات الغربية في المسرح الملحمي، والمسرح الحي، ومسرح القسوة، والمسرح الشعبي، وغيرها من تقنيات التجارب المسرحية التي تحرر الفرد من سكونية الفرجة.
وتمثل مسرحيات برشيد الجانب العملي للدعوة الاحتفالية، لأن الاحتفالية كما يؤكد هو نفسه «ليست هي الأبحاث النظرية وحدها، وإنما هي بالأساس تلك الأعمال المسرحية التي تحمل مضامين مغايرة، التي لها لغتها المتميزة وأدواتها التعبيرية الخاصة» (2).
فإذا ما استثنينا مسرحية «موال البنادق» التي تدخل في إطار المسرح الوثائقي- رغم أنها لم تخل من مظاهر التراث والتقنيات الاحتفالية كليا- فإن المسرحيات الأخرى كلها تدخل في إطار المسرح الاحتفالي. فهي تستقي حوادثها وشخصياتها وبعض تقنياتها من التراث. ونظرا لكثرة هذه المسرحيات، سوف نركز على أهم الجوانب الاحتفالية في بعضها بنوع من الدقة، دون الدخول في تفاصيل الدراسة المضمونية الوصفية، لأن الغاية من هذه المقاربة هي التعرف عن كثب إلى الجوانب الاحتفالية في مسرح برشيد.
تعتبر مسرحية «الزاوية» من بواكير برشيد الاحتفالية. وقد سعى فيها إلى نقد الفكر الخرافي، فاستغل حكاية ميلودة المعروفة لدى الأوساط الشعبية. غير أن شخصية ميلودة في المسرحية تختلف عن ميلودة كما نعرفها في الحكاية. فهي ليست ميلودة العاهرة التي فقدت ابنها سعيد وهي تمارس عهارتها في الغابة، إنما هي ميلودة الرمز. وابنها سعيد سيحمل اسم البشير في المسرحية. وهو المناضل الذي غدر به الأحباب بعدما ضحى من أجلهم، لأنه كان يناضل من أجل الحرية والسلام. فميلودة تصبح رمزا للأمة العربية التي فقدت أبناءها الشرفاء. والبشير يصبح رمزا للمناضل الذي يحمل راية السلام، باعتبار أن اسم البشير في حد ذاته يحمل دلالة الفعل المستقبلي.
ويبدو واضحا أن المؤلف في هذه المسرحية ينتقد العلاقة العربية الأمريكية التي تتحكم فيها المصلحة الخاصة. فقد داست البورجوازية وريثة الاستعمار على نضال البشير، وقدمته فدية مقابل «زيت وطحين وصناديق سردين» (3). وإلى جانب هذا، تنتقد المسرحية الفكر الخرافي الأسطوري، إذ تصبح الزاوية عالما يجسد تناقضات العالم العربي، لأنها عالم يختزل كل النماذج البشرية من متواكل ومجنون ومجذوب ومشعوذ. وكل واحد من هؤلاء يبحث عن الخلاص بطريقته الخاصة. والخلاص كما يعتقدون بيد شيخ الزاوية. لهذا نجدهم يتهافتون على أخذ البركة منه، فيستغل لخديم ضعفهم ليزيد في تكديس الأموال. وبعدما يطول انتظارهم لهذا الشيخ، يتفقون على اقتحام خلوته، فلا يجدون غير أكاذيب لخديم. آنذاك يهدمون الزاوية.
وقد استغل برشيد مجموعة من الأشكال التعبيرية الاحتفالية المخزونة في التراث الشعبي، نحو الحلقة، والراوي، والشخصيات الشعبية كالعريف والبراح والمجدوب، والشخصيات الدينية بأعلامها، وطقوسها وتراتيلها الصوفية وحضرتها. كما استغل الفوانيس والأغاني الشعبية والرقصات الدينية، ووظف شخصية المداح وأسلوبه الفني الشعبي، وجعله يطوف في الأسواق والمداشر وهو يردد حكاية ميلودة وابنها. وقد اكتسب العرض طابع الفرجة المسرحية المتحررة من خلال الحركة الديناميكية للممثلين الذين كانوا أسياد الحفل، فقدموا أدوارهم عارية أمام الجمهور، وكسروا وحدة الدور، إذ استفاد المؤلف فيها من تقنية المسرح داخل المسرح ليقوم الممثل بمجموعة من الأدوار. كما استفاد من جمالية الخط الدائري، لتصبح الحلقة فضاء يمكن الممثل من التحاور مباشرة مع جمهوره الذي يمتد ليشمل كل جمهور القاعة:
الزائر: (للجمهور) عفاكم لا تكونوا جامدين، عفاكم ساعدونا، فكروا معانا، ترى مانا زمان احنا، مانا زمان؟ عفاكم يا الحضارين لا تسالوا حتى تشوفوا لا تسالوا.(4)
فالخطاب المسرحي عند برشيد أصبح دعوة إلى الاحتفال العقلي، لأنه يدعو المتلقي إلى استخدام فكره حتى يساهم في حل المعادلات المركبة والغريبة التي يطرحها النص. وقد استعان لهذا الغرض بمجموعة من التقنيات الملحمية نحو التغريب أو التباعد. فمن حين لآخر، يذكر الممثلون الجمهور بأن ما يقدموه أمامهم مجرد تمثيل. ويقوم الراوي بالتعليق على الأحداث بعدما يقدمها، أو يعلن عما سيحدث حتى يظل المتفرج يقظا. ولعل هذه الخصائص الاحتفالية كلها قد ساهمت في خلق عرض مسرحي متميز، تحول إلى فرجة حيوية متماسكة، ارتبط فيها المضمون بالشكل ارتباطا بنيويا.
أما مسرحية « سالف لونجة » فتعتبر من أهم مسرحياته التي يبدو فيها البعد الاحتفالي واضحا. وهي مسرحية تنطلق من أسطورة لونجة التي ترمز للحرية. فلونجة امرأة جميلة أسرها غول في مقصورة عالية من عاج وزجاج حتى لا تلد، لأن العراف تنبأ بأنها ستلد طفلا يحرر الإنسانية من العبودية. ورغم ذلك فقد كانت تلتقي بحبيبها خفية، إذ كانت تلقي إليه بشعرها الطويل حتى يتسلقه فيصعد إليها. ومن خلال هذا الحدث، يصور برشيد مجموعة من القضايا، نحو قضية التحرر في العالم، وأزمة الديمقراطية، وقضية الشرق الأوسط وغيرها. وما يهمنا في هذه المسرحية هو الجانب الاحتفالي. فمنذ المشهد الأول، يقدم برشيد تقنية المسرح داخل المسرح، ويوظف أسلوب المرتجلة حين يعالج قضايا تخص مشاكل المسرح وقضاياه، فيستغل شخصية المؤلف والممثلين في النص ليعلنوا تمردهم على الشكل التقليدي للمسرح، ويطالبوا بالحق في الإبداع والارتجال. كما يوظف الأغنية المرتبطة بأسطورة لونجة المعروفة لدى الأوساط الشعبية: (لونجة يا لونجة مدي لي سالفك نطلع). وتتكرر هذه الأغنية طوال العرض المسرحي، إلى جانب الأغاني الجماعية المتمثلة في بعض التراتيل والحكم.
وقد غابت الخشبة التقليدية في هذه المسرحية لتترك المكان لفضاء متحرر يجمع بين القاعة ومكان العرض. وغاب الجدار الوهمي والكواليس. وأصبحت لعبة التمثيل تتم عارية أمام الجمهور حتى لا يندمج في الحفل فيسقط في الإيهام. لذلك كان الممثلون يقومون بأدوار مركبة. فالباحث عن دوره يصبح هو السندباد، والحلاج، والحسين بن علي، وعلي بن محمد قائد ثورة الزنج. كما يصبح الشخص الأول والثاني الحجاج، والثالث والرابع نيرونا، وجنكيزخان، وإيكروس وفرانكشتاين. وإلى جانب هذه الشخصيات التراثية، وظف برشيد أشكالا تعبيرية شعبية نحو الحلقة ومواسم الطرقيين والتراتيل الصوفية والرقصات الشعبية، إلى جانب الحركات الميمية والكراكيز والأقنعة الطوطمية. وقد كسر وحدة الزمن والمكان، ليصبح موضوع التحرر قضية إنسانية تهم المتفرج في كل مكان وفي كل زمن.
وتعد مسرحية «عرس الأطلس» من الإبداعات الاحتفالية التي أغرت المخرجين بتقديمها نظرا لأصالتها وتميزها. فبعدما قدمها عبد الرزاق البدوي بالمسرح البلدي بالدار البيضاء على طريقة فرقة البدوي الاجتماعية، قدمها المخرج محمد بلهيسي بإخراج احتفالي. ومنذ بداية العرض، نحس بأننا بحق في موسم احتفالي أصيل، لأنه تحرر من تقنيات الخشبة الإيطالية، وجعل العرض المسرحي بلا بداية جاهزة. فبعدما يدخل الجمهور إلى القاعة، يجد الممثلين منشغلين بتركيب الديكور. وهو عبارة عن خيام منصوبة بجانب جبل الأطلس، فتكثر الحركة واللقاءات، مما يوحي بأن الفضاء المسرحي بكل رحابته وعفويته هو الموسم. ويساهم الحوار المرتجل في تأكيد احتفالية هذا اللقاء. أما الراوي، فهو الشخصية التي تقوم بدور الوساطة بين الجمهور والعرض حتى يتحقق التواصل التلقائي:
الراوي: هذا موسم ناشر خيامه وعلامه، فوق جبال عالية شامخة، ناس من كل أرض ... سرجت خيولها وقصداته ... ما تشوف غير خزاين وخيام، ما تشوف غير ناس يلعبوا، واللعب فيه شلا ألوان وأشكال. (5)
ولقد عمد برشيد إلى تطويع التراث في مسرحية «قراقوش»، ليجعل من تاريخ الدولة الأيوبية منطلقا لإبراز التناقضات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي. فقراقوش لم يعد ذلك الحاكم المستبد والطاغية كما تصوره كتب التاريخ، إنما هو قراقوش الضائع في أي مكان وأي زمن من الوطن العربي، والباحث عن النعيم والماء، والمحترف لكل الحرف من أجل تحقيق أغراضه. ونظرا لمغامراته وشعبيته، فقد وصلت شهرته إلى الملك تيمور الذي استدعاه ليكون حلاقه الخاص. وبما أن الملك كان ذميم الخلقة، فقد انعكست صورته على مرآة قراقوش الذي سيكون مآله السجن، رغم أنه حاول ألا يعرض مرآته أمامه. ولما يطلق سراحه، يتطلع إلى الوزارة بعدما قصده الناس واختلط بهم لأنه ادعى الحكمة. إلا أن ذلك الطموح يسبب له كثيرا من المضايقات والمتاعب، مما جعله يفكر في التخلي عن شعبيته. غير أنه يكتشف في النهاية أن حلمه لن يتحقق إلا وسط هؤلاء الفقراء، لأنهم من يملك القوة الحقيقية في الفعل.
وقد استعان برشيد في هذه المسرحية بمجموعة من الأشكال الشعبية التعبيرية، نحو العرائس والكراكيز والشخصيات الشعبية. ووظف أيضا شخصية المهرج والحلائقيين، وأعطى لتنقلات الممثلين طابعا كاريكاتوريا حتى نحس وكأننا أمام كراكيز حية. وهذه التقنية لم توظف اعتباطيا في المسرحية، إنما لجأ إليها ليربط بطريقة ذكية بين قراقوش والكركوز، ما داما يشتركان في البنية اللغوية والدلالية. وهذا التوظيف أضاف للمسرحية فرجة تقترب من فرجة فن الدمى الشعبي.
وإذا كان المسرح احتفالا يقيمه الإنسان للإنسان كما يرى برشيد، فإنه قد أصبح بحثا عن هذا الإنسان الذي أذابته المدينة بأسلاكها وقوانينها وحواجزها المختلفة. هذا ما تؤكده مسرحية «الناس والحجارة»، وهي مسرحية فردية تدور أحداثها في سجن، حيث يوجد شخص بدون هوية يصارع ضد كل الحواجز والأسلاك التي تقيد حريته. حاول هذا الشخص أن يجد مخلوقا يحتفل معه ويحاوره، ولم يجد غير رشح على حائط الزنزانة، فتخيله قردا، ووهبه الحياة، فظل يحاوره طوال المسرحية. ثم سافر معه عبر الأحلام يعرض حبه وصداقته على كل من لقيه من الناس، فلم يلق غير الأسلاك والاستفزازات. لذلك استعار ثوب الجنون عل ذلك يرضيهم، فقدم لهم فرجات مغرية مع قرده دون جدوى. فالناس الذين يحاورهم لا يتفاهمون إلا بالأسلاك والحجارة. وتنتهي رحلته وهو يطلب من الناس صداقتهم ومعايشتهم، لأنه بدونهم سيموت بين الأسلاك والحجارة.
المسرحية تعتمد على قدرات الممثل الواحد الذي ظل يحاور الجمهور. فكان سيد الحفل الذي جعل خياله وحركاته أدوات وظيفية للتعبير عن قضايا مجردة، كالحرية والأخوة والصداقة. وسعى إلى تحريك خيال الجمهور لاسيما وأن المسرحية بأكملها تعتمد على شخصيات خيالية، وما على المتلقي إلا أن يشارك هو الآخر في الحفل، فيختلق هذه المخلوقات في ذهنه، ويرحل مع الممثل في رحلته الطويلة. ولقد استغل المخرج فن الميم ليتجاوز وحدة الزمن والمكان. وجعل الديكور بسيطا وتشكيليا، يتمثل في حبل غسيل وجدار شفاف، وسرير نوم قابل للتشكيل كي يصبح مكتبا وسفينة ومنصة ومحكمة وسجنا.
فالمسرحية تصور معاناة الإنسان في غياب الآخرين. فإذا كان سارتر يقول بأن الجحيم هم الآخرون، فإن برشيد في هذه المسرحية يقول بأن الجحيم هو بعد الآخرين. فالبطل لم يستطع أن يحتفل، لأن الاحتفال لا يكون إلا مع الآخرين. لذلك يكون الحجر هو البطل الذي احتفل وليس الإنسان. وكأن برشيد ينظّر عمليا للاحتفالية من خلال هذا النص. ثم إن المسرحية ببطلها الفرد تعتبر تحديا للمسرحيات التقليدية التي يصبح فيها الممثلون دمى يحركها المؤلف والمخرج من خلال الخشبة الإيطالية، والجدار الرابع الذي يفصل بين الممثلين والجمهور. فكأن المسرح التقليدي إذن حجرة أخرى تحول دون تواصل الإنسان مع الإنسان.
إن مسرحية «الناس والحجارة» نقد لمجتمع غير احتفالي: مجتمع تذوب فيه الأنا الجماعية. إنها صرخة ضد كل أنواع الحواجز-الأحجار- التي تحول دون الاحتفال الإنساني. ويعتبر هذا العرض دعوة عملية ذكية إلى مجتمع احتفالي يعيش فيه الإنسان مع الإنسان، وليس مع الحجارة كما يصرح بذلك الممثل في نهاية المسرحية:
الممثل: (للجمهور) أيها الناس، افتحوا هذا الجدار، أريد أن أنزل إليكم، قد يكون ملفي قد احترق حقا، من يدري، ولكني أيها السادة غير قابل للاحتراق أبدا، قل لهم يا قردل، غير قابل للموت، غير قابل للنفي، غير قابل للأحكام الغيابية ... غير قابل إلا لشيء واحد ... أن أعيش مع الناس لا مع الحجارة(6).
وإذا كان برشيد لم يستغل من التراث في هذه المسرحية غير الأشكال التعبيرية الفنية، فإنه في مسرحية «ابن الرومي في مدن الصفيح» قد جمع بين هذه الأشكال التعبيرية الاحتفالية، وبين أحداث التراث وشخصياته. وتعد هذه المسرحية من الإبداعات الاحتفالية التي أثارت زوبعة من النقد، نظرا للأسلوب الذي سلكه المؤلف في تعامله مع أحداثها وشخصياتها التراثية، ولاسيما شخصية ابن الرومي.
يدور مضمون المسرحية حول حي من أحياء القصدير في مدينة عربية يعيش فيه عامة الشعب من الطبقات الدنيا. ففي هذا الحي يجسد لنا المؤلف مجموعة من التناقضات التي تطحن الإنسان البسيط، الذي يحرمه المجلس البلدي من أبسط حقوقه المشروعة وهو السكن. فقد قرر المجلس البلدي أن يهدم حي القصدير الذي يأوي آلاف السكان البسطاء من أجل بناء فنادق سياحية. ومن خلال هذا الحدث، يستعرض برشيد جملة من التناقضات عبر الصراع الذي تساهم فيه شخصيات المسرحية. وهي شخصيات استحضرها المؤلف من التراث ليربط الماضي بالحاضر. فهناك ابن الرومي الشاعر العباسي الذي جعله هو الآخر فردا من أفراد حي القصدير. إلا أنه ظل بعيدا عن الإدراك الحقيقي لسبب تلك التناقضات التي يتخبط فيها هذا الحي، لأنه كان يعتقد أن سر شقائه يكمن في وجوده مع دعبل الأحدب وجيرانه المستضعفين. غير أنه يكتشف في الأخير أن شقاءه مرتبط بموقعه الاجتماعي في واقع طبقي لا يرحم. لذلك يقرر أن يتحرك، ويختلط بالناس في السوق. والسوق ملتقى لكل الفئات الشعبية. كما أنه المكان الذي يوجد فيه الخلخال الفضي الذي رحل للبحث عنه. فالسوق إذن رمز للعلاقات الإنسانية التي يصادرها المجتمع. وكأن برشيد يدعو إلى المجتمع الاحتفالي، لأن العزلة هي الجحيم والالتقاء بالناس هو الحياة في تحررها وحيويتها. فقد ظل ابن الرومي شقيا لأنه كان بعيدا عن الآخرين. ولم يتحرر من شقائه إلا بعدما قرر الاندماج معهم.
إلى جانب ابن الرومي، نجد شخصيات أخرى من التراث نحو ابن دانيال الذي يقوم بدور الراوي، ويقدم فرجاته الظلية في الأسواق والساحات العمومية. وتوظيف هذه الشخصية الشعبية فرض على العرض المسرحي الاستعانة بمجموعة من الأشكال الاحتفالية كالحلقة والحكاية وخيال الظل. فالمسرحية لا تبدأ بداية عادية بفتح الستار، إنما تبدأ خارج القاعة حيث يدخل ابن دانيال مع ابنته دنيازاد وهما يجران خلفهما عربة مثيرة: إنها عربة خيال الظل التي تخترق صفوف الجمهور داخل القاعة. وهذا الفعل كان حافزا لإثارة الدهشة والاستغراب. وقد ساهمت الملابس العتيقة والمثيرة التي يلبسها ابن دانيال ودنيازاد، والأقنعة الكاريكاتورية، إلى جانب الموسيقى المرحة الصاخبة والألوان المختلفة، في خلق طقس احتفالي. وتعد المسرحية إضافة كيفية هامة أغنت المسرح المغربي بالطابع التجريبي، وأبانت عن أصالة هذا الاتجاه المسرحي الذي جعل التراث الاحتفالي منطلقا أساسيا لتحقيق شكل مسرحي عربي أصيل.
وإذا كانت العربة في مسرحية «ابن الرومي» تجسد عالم العجائب من خلال الفرجات الظلية، فإنها في مسرحية «حكاية العربة» رمز للقوة التي استغلتها الإنسانية للوصول إلى الآلية والاستغلال. فاختراع العجلة يحمل معنى موت الإنسان، لأن هذه الآلة هي التي ستجعل منه عبدا لها بعدما كان سيد نفسه. وتتألف «حكاية العربة» في أساسها من حكايتين: الحكاية الأولى هي حكاية تطور الحضارة الإنسانية من مرحلة البدائية إلى مرحلة التطور الآلي. أما الثانية -وهي ناتجة عن الحكاية الأولى- فتتمثل في حكاية التخلف في العالم الثالث، وما يرافقه من استعمار ومواجهة للهيمنة الإمبريالية.
في هذه المسرحية، يوظف برشيد كذلك التقنيات الاحتفالية من غناء ورقص وإنشاد جماعي وتراتيل. كما يستغل تقنية المسرح داخل المسرح، فيجعل من العرض حفلا مفتوحا، ينطلق فيه الممثلون من الارتجال للتواصل مع الجمهور. إن المسرحية في مجملها بحث عن الإنسان الفطري بعيدا عن الآلية. وهو بحث يمثل نوعا من الهروب من عالم لا يعرف غير التكالب على المصالح الشخصية. وهذا البحث يعتبر سمة تميز كل مسرحيات برشيد. وهو في الحقيقة بحث عن الذات المتميزة، والأصالة المتفردة. ويعتبر البحث عن الأصالة في المسرح العربي جزءا من هذا البحث عن الذات.
في مسرحية «منديل الأمان» (7)، نجد كل الشخصيات «تسعى لشيء أو تهرب من شيء، وهي في حالتي الهروب والسعي، تبحث عن وجودها الحق» (8). فالمسرحية عبارة عن رحلة سبع شخصيات داخل قطار. وحتى يختصروا الزمن، اتفقوا على أن يلعبوا لعبة الاعتراف، فيجلس كل واحد منهم على الكرسي ويجيب بصراحة عن الأسئلة التي تطرح عليه. وتبدأ اللعبة بطرح الأسئلة على الشيخ الذي يجرهم تلقائيا إلى لعبة أخرى هي لعبة الإسقاط، لأنه مصاب بفقدان الذاكرة. لذلك يلجأ كل شخص إلى إسقاط شخصيته عليه ليرى فيه جزءا من حياته.
وبهذا تكون المسرحية عبارة عن سير ذاتية للأشخاص المسافرين. وهم في الحقيقة يمثلون الشرائح البشرية الموجودة في المجتمع. وهي شرائح تحمل أقنعة متنوعة. فمن خلال اللعبة، نكتشف أن هذه الشخصيات التي كانت تبدو متآلفة في بداية الرحلة، إنما كانت تخفي حقيقتها وراء الأقنعة. فبعدما يصرح كل شخص بهويته، نكتشف أن كل واحد منهم يحمل ثنائية الوجه والقناع. وبذلك يبدأ الصراع بينهم فيتحول ذلك التآلف الذي وحدهم في بداية الرحلة إلى تنافر، لأن كل واحد منهم كان يبحث عن مصلحته الخاصة. غير أن المؤلف يأبى في نهاية المسرحية إلا أن يجعل هذه الشخصيات تتآلف من جديد لفائدة المصلحة العامة. فكأن هذه المسرحية أيضا دعوة إلى المجتمع الاحتفالي الذي تنتفي فيه المصلحة الفردية.
يسعى برشيد في أغلب مسرحياته إلى البحث عن جوهر الإنسان عبر فضح الأقنعة. فلعبة الاعتراف في «منديل الأمان» وسيلة لاكتشاف الذات. والموسم في «عرس الأطلس» مناسبة لتعرية الوجوه المقنعة. ومرآة قراقوش هي التي فضحت الملك، وكشفت عن خلقته المشوهة في مسرحية «قراقوش». وجنون ميلودة عمل على اكتشاف زيف لخديم وألاعيبه في مسرحية «الزاوية». ثم إن ابن الرومي قد اكتشف ذاته هو الآخر من خلال عريب الجارية. هكذا، فأغلب مسرحيات برشيد تدور حول ثنائية الوجه والقناع.
ولعل مسرحية «فاوست والأميرة الصلعاء» دليل واضح على هذه الثنائية. وربما هذا سر تسميتها بالحفل التنكري، ذلك بأن المسرحية تدعو منذ البداية إلى تعرية الذوات من خلال أقنعة يلبسها أشخاص. ومضمون هذا الحفل يتمثل في كون مجموعة من الأشخاص العاديين يتفقون على أن يعطيهم الخياط «مظلوم بن ظالم» ألبسة لشخصيات اجتماعية مختلفة، فيختار كل شخص اللباس الذي يتمنى لو كان حقا صاحبه. من هنا، يصبح الأحدب إمبراطورا، والشحاذ تاجرا كبيرا، والزئبق قاضيا، ومياسة الغجرية عروسا، والعجوز فاوست العالم الكبير، كما يصبح الخياط هو الآخر شيطانا. وهكذا يتصرف كل واحد حسب الوظيفة التي يمليها عليه لباسه وقناعه، فيبيع فاوست نفسه للشيطان الذي يصبح عند برشيد ذلك السمسار الذي يتلاعب بضمائر أهل القرية وخيراتهم . ويكون ثمن حياته وعلمه أن يحصل على مياسة الغجرية الفاتنة. غير أنه يكتشف في الأخير أن هذه الفاتنة ما هي إلا مياسة الصلعاء. أما الشحاذ العجوز، فيبيع كرامته من أجل المادة. ويصبح الإمبراطور مجنونا لأنه يريد أن يحقق عظمته على حساب الموتى.
وهكذا تكون أسطورة فاوست كما وظفها برشيد دعوة أخرى إلى تمزيق الأقنعة التي تصادر جوهر الإنسان، وكأن المسرحية تركيب فني لتنظيراته المتعلقة بالواقع والاحتفال. إن هذه الدعوة إلى التخلي عن الأقنعة تجسدها المسرحية على شكل خاتمة تبشيرية. فما فاوست غير صوت برشيد الذي يدعو إلى الالتحام بالآخرين كما هو الأمر في مسرحياته الأخرى:
فاوست: ... لن تأخذ مني شيئا أيها الشيطان، مطلقا لا شيء، فقلبي وروحي وعلمي لهؤلاء الناس وحدهم، لن تأخذ غير جثتي هذه، وهي لا شيء، لا شيء... (9)
الملاحظ أن فكرة هذه المسرحية تتكامل مع فكرة مسرحية «مرافعات الولد الفصيح»، التي تبحث أيضا عن جوهر الإنسان الخالص. فالولد الفصيح هو «حضور المستقبل في الآن، وامتداده إلى ما بعد الآن. فهو أكبر من سنه وعمره، لأنه لا يمثل ذاته بقدر ما يمثل جيله، وهو جيل يرفض أن ينتظر حتى يكبر ليعيش حياة تصنع الآن في غيابه. لهذا كان لا بد أن يعيش حياته دفعة واحدة، أي أن يحيا في نفس الآن ما كان وما سوف يكون» (10). فالطفل الفصيح هو فاوست جديد. إلا أنه لم يبع نفسه للشيطان. ولم يرد أن يعود للوراء ليكون شابا، بل أراد أن يسبق الزمن ليعيش في المستقبل. فكل من الطفل وفاوست يريد أن يتجاوز صيرورة الزمن ليعيش زمنا غير زمنه. وما يؤكد هذا التشابه كون المؤلف اختار مصطلح «نفس» لكل مشهد في المسرحيتين، والنفس كما ذكرنا يوحي بالالتحام والاجتماع.
وتشكل مسرحية «امرؤ القيس في باريس» امتداداً آخر لمسرحية «ابن الرومي..». فامرؤ القيس هو نفسه ابن الرومي الباحث عن هويته. لكن هذا البحث بالنسبة لامرئ القيس يكون داخل الغرب المليء بكل أنواع المصادرات، هذا الغرب الذي سلب الشرق جهده وكرامته وأصالته. إن امرأ القيس في المسرحية ليس هو الشاعر الجاهلي كما تحدثنا عنه المصادر القديمة. ولكنه رمز يعكس المجتمع الشرقي- العربي- بكل تناقضاته ومكبوتاته؛ بعثه والده ليدرس في باريس حتى يخلفه في الحكم، لأنه شاخ ولم يعد قادرا على قيادة البلد. غير أن امرأ القيس ما إن يصل إلى باريس حتى ينسى العلوم والدراسة، وينهال على اللذة يقتنيها، فيروي ظمأه من كل المحرمات التي كبتها مجتمعه الذي قال عنه امرؤ القيس نفسه بأن كل شيء فيه «مرغوب محرم، العشق حرام، الهمس حرام، الحرف حرام، التنفس حرام. كل شيء حرام...» (11).
وإذا كان امرؤ القيس لم يجد في باريس غير أساليب اللذة: فإن «عامر الأعور» الذي جاء حاملا وصية الملك حجر لابنه امرئ القيس الخاصة بوراثته في العرض، قد اكتشف تناقضات هذا البلد: اكتشف زيفه وتكالبه على المادة، اكتشف ضياع المهاجرين العرب، وغربتهم المادية والمعنوية، اكتشف عالما يدوس على الأخلاق والكرامة. فباريس رمز للغرب الذي يستغل خيرات الشرق وعرق أبنائه.
فمنذ المشهد الأول، تضعنا المسرحية أمام حقيقة المهاجرين العرب في الغرب، هؤلاء الذين يقومون بأحقر المهن مقابل أجر هزيل. إلا أن امرأ القيس لم يتنبه إلى ذلك، لأن فكره ظل مصادرا ومستلبا. وقد تنبه إلى ذلك عامر الأعور الذي يمثل بساطة الإنسان الشعبي. كما تنبه إلى زيف العلاقات وشذوذها. فالكل لا يبحث إلا عن المصلحة الخاصة: « بنات حاييم » يسعين وراء ثروة امرئ القيس. والجزار يسعى لاستغلال إفلاسه حتى يحصل على الحصان. وجاكوب يغتنم الفرصة أيضا للحصول على سيفه... فما في الغرب غير السماسرة والمخبرين والقوادين والصعاليك والشواذ. غير أن امرأ القيس لم ينتبه إلى ذلك إلا بعدما أفلس ولم يعد صالحا لأن يُستغل. آنذاك اكتشف أن أهل باريس لم يكونوا يتعاملون معه حبا فيه، ولكن حبا فيما يملك. لذلك قرر أن يعود إلى أرض الوطن لاسترجاع الملك. إلا أنه يغتال، فيكون موته تطهيرا من آثام العلاقة التي ظلت تربطه بالغرب. وتعامل برشيد مع التراث لم يكن غاية في حد ذاته، إنما كان وسيلة لربط الماضي بالحاضر قصد تعرية بعض الحقائق التي تخص علاقة الشرق بالغرب.
وإذا كانت مسرحية «امرؤ القيس..» دعوة إلى تأكيد الهوية العربية بعيدا عن الاستلاب الغربي، فإن مسرحية «عنترة في المرايا المكسرة» تعتبر بحثا عن التماسك العربي، وضربا للفكر الأسطوري الذي ساهم في إفراز هزيمة حزيران. وقد استغل برشيد الحلقة وطقسها الشعبي ليرمز إلى هذا الفكر الأسطوري. فمن خلال الحلقة يحكي الراوي سيرة عنترة العبسي، البطل الذي ينكل بأعدائه من أجل سيادة بني عبس، ومن أجل الحبيبة عبلة، فيحلق الجمهور بعيدا في عالم الخيال والأحلام، لأنهم يجدون في تلك الحكايات تنفيسا لهم عن همومهم ومكبوتاتهم الاجتماعية والسياسية. فكل شخص كان يتصور نفسه عنترة، فيلبس ثوب الوهم لينسى مرارة الواقع. وبذلك يصبح عنترة في المسرحية رمزا للإنسان العربي الذي يحررهم من وطأة النكسة ومخلفاتها. إلا أنه يبقى مجرد حلم، ما دام هذا الإنسان العربي لم يستطع أن يبلور الفكر التحرري العنتري، ليجعل منه منطلقا للتعامل مع الواقع الملموس، لأنه كان يحارب بسيوف خشبية. ولم يكن عنترة غير أسطورة جميلة يتلذذ بها جمهور الحلقة.
إن توظيف برشيد للتراث في هذه المسرحية لم يكن قائما على الاجترار والتأريخية، وإنما كان قائما على النزعة التجريبية، والتصرف الواعي والخلاق في الأحداث والشخصيات. وقد استغل الحكاية الشعبية والأقنعة والخطاب الفنتازي المثير، ليعطي الفرجة المسرحية أبعادها الاحتفالية التي تتماشى مع هذا التوظيف التراثي.
أخيرا، فإن نصوص عبد الكريم برشيد حافلة بالمكونات الاحتفالية. بل إن كثيرا منها يحفل عمليا بما كشفت عنه تنظيراته بشكل نظري. ولعل النصوص الاحتفالية الأخرى التي لم نشر إليها –وهي كثيرة- كفيلة بتسليط المزيد من الأضواء على هذه التجربة بشكل عملي. وهي نصوص تغني بدون شك الجانب النظري في الخطاب الاحتفالي عامة.
  الهوامش :
(1) ع. برشيد، أوراق من تجربتي، العلم الثقافي، ع606 س12، 1982، ص: 2.
(2) نفسه، ص: 11.
(3) مسرحية الزاوية من أرشيف جمعية النهضة الثقافية بالخميسات (مرقونة).
(4) نفسها.
(5) مسرحية عرس الأطلس من أرشيف فرقة اللواء المسرحي بتازة (مرقونة).
(6) المسرحية، العلم الثقافي، ع456، س8، شتنبر 1978، ص: 11.
(7) وتسمى أيضا لعبة الوجوه والأقنعة.
(8) أوراق من تجربتي –مرجع سبق ذكره، ص: 2.
(9) المسرحية، ص: 288.
(10) أوراق من تجربتي، ص: 2.
(11) امرؤ القيس في باريس، دار الستوكي، الرباط 1982، ص: 63.
  د. مصطفى رمضاني (2007-06-12)
رجوع إلى الملف
   
   
مواضيع ذات صلة

-

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia