المشروع الحجاجي للدكتور أبو بكر العزاوي
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

ãáÝÇÊ
المشروع الحجاجي للدكتور أبو بكر العزاوي

 
   إن موضوع هذا المشروع هو الحجاج في اللغة، والأستاذ العزاوي واضح في هذا الاختيار، ولا يفتأ على امتداد أعماله يؤكد على هذا التمييز، فمدخله للدراسات الحجاجية ليس المنظور المنطقي والفلسفي أو المنظور البلاغي (القديم مع أرسطو، والحديث مع بيرلمان)، بل "نظرية الحجاج في اللغة" التي اقترحها وطورها أزفالد ديكرو". وبذلك يختلف الدكتور العزاوي عن العديد من الدراسات الحجاجية السائدة في العالم
العربي، والتي بقيت بعيدة عن هذه النظرية. وهذه أول سمة مميزة لمشروع الأستاذ العزاوي، لذلك سينشغل في إسهاماته الثلاثة، بعرض هذه النظرية عرضا تبسيطيا، بعيدا عن الاستغلاق، عرضا يشي بالتمكن ويعتمد الوضوح، وهذه ثاني سمة مميزة لمشروعه، حيث عرض الأستاذ مرجعية هذه النظرية (التداولية وتطور نظرية أفعال الكلام) وبين أسسها وآليات اشتغالها. هكذا بين في مؤلفاته، بأنها نظرية لسانية تدرس الحجاج في اللغة، أي باعتباره ظاهرة لغوية. فالحجاج فعل لغوي ووظيفة أساسية للغة الطبيعية، مادامت اللغة تنجز تسلسلات داخل الخطاب من نمط استنتاجي. وبعبارة أخرى، فإن الحجاج "يتمثل في تحقيق متواليات من الجمل والأقوال، البعض منها بمثابة الحجج والبعض الآخر بمثابة النتائج، لتكون التسلسلات الخطابية محددة لا بواسطة الوقائع (Les faits) المعبر عنها داخل الأقوال فقط، ولكنها محددة أيضا وأساسا بواسطة بنية هذه الأقوال نفسها، وبواسطة المواد اللغوية التي تم توظيفها وتشغيلها" (ص 21-22 اللغة والحجاج). وفي توضيحه لهذه النظرية، بسط أكثر تعريف الحجاج ليجعله " تقديما لمجموعة من الأدلة والحجج التي تؤدي إلى نتيجة معينة، والتي يكون القصد منها التأثير في الآخر وإقناعه بفكرة أو تغيير آرائه ومواقفه بخصوص موضوع ما" (ص 28-29 اللغة والحجاج).
   وفي إطار تمكنه من هذه النظرية، شرح بشكل بيداغوجي وعلمي عناوينها وآليات اشتغالها، فتوقف عند السلم الحجاجي بوصفه علاقة ترتيبية بين الحجج وقوانينه (النفي/ الإبطال/ الخفض/ القلب)، وما يرتبط به من اتجاه حجاجي يقوم على الروابط أو الألفاظ أو السياق التداولي والخطابي العام، وبين كيف تشتغل الروابط في تنظيم وإدراج الحجج، وكيف تكون هذه الحجج نسبية وسياقية وقابلة للإبطال، إذ ليست لها صلاحية مطلقة أو نهائية، بل تتبدل وظيفتها حسب المقامات وتتفاوت قوة وضعفا، لأنها مرنة وتدرجية وليست حتمية. ولقد ميز الأستاذ بشكل سلس ومضبوط بين الروابط الحجاجية والعوامل الحجاجية (Connecteurs/Opérateurs) ، فالروابط تربط بين قولين، وتسند لكل قول دورا محددا في الاستراتيجية العامة (لكن، لاسيما، بل ...). أما العوامل فتقوم بحصر وتقييد الإمكانيات التي تكون لقول ما (كاد، ربما، تقريبا...)، كما شرح الأستاذ المبادئ الحجاجية، بوصفها معتقدات مشتركة وإيديولوجيات جماعية عامة ونسبية.
   ثالث سمة مميزة لمشروع الدكتور أبي بكر العزاوي هو التنزيل الدقيق لنظرية الحجاج في اللغة، فسيرا على نهج أستاذه أوزفالد ديكرو، واستحضارا لروح بحثية شاقة استلهمها من النحوي العربي القديم "الفراء" في علاقته ب "حتى"، اشتغل الدكتور أبو بكر العزاوي على بعض الروابط الحجاجية في اللغة العربية، فتابع "بل" و"لكن" و"حتى". ومن خلال أمثلة قرآنية، وجمل مستقاة من الحوارات اليومية العادية، ومن خلال أمثلة شعرية ( ابن الرومي وأبو نواس)، ونصوص نثرية تراثية (ابن خلدون)، ومقاطع من أعمال إبداعية روائية (زقاق المدق) لنجيب محفوظ، وبالاستناد إلى الدرس اللغوي العربي القديم ( المرادي، الزمخشري...) وبالاستعانة كذلك برسوم توضيحية ( سيبويه، ابن هشام...)، استنتج المظاهر الحجاجية لهذه الروابط واستعمالها الحجاجي وعلاقاتها بالمعنى الضمني والمضمر، وما تؤمنه من علاقات حجاجية مختلفة ( النفي/ التعارض/ الإيجاب...)، كما وقف عند دورها في تقوية الحجاج حسب موقعها ومكانها في التسلسل الكلامي، وفي مصاحبتها أو تجردها/انفصالها عن بعض الحروف الأخرى في اللغة العربية. بتركيزه على الروابط، يكون الأستاذ قد اختار تحليلا حجاجيا مجهريا دقيقا، لا يضيع في التعميم، وإنما يقدم فحصا لصيقا. كما أن تحليل هذه الروابط يكشف أهميتها، الأمر الذي يثبت فعالية هذا التحليل، و يؤشر على القيمة الحجاجية لهذه الروابط.
   رابع سمة مميزة لهذا المشروع هي التوسيع، فقد تابع الأستاذ الاستعارة، كاشفا بعدها الحجاجي،  ولم ينظر إليها فقط كنوع من أنواع الزخرف اللفظي والبياني بل اعتبرها ذات قوة حجاجية  أعلى من القوة الحجاجية للتعبير العادي (ص 106 اللغة والحجاج )، فهي أكثر تأثيرا. هكذا تكون الاستعارة الحجاجية  استعارة مفيدة ( والتصنيف لعبد القاهر الجرجاني)، أي استعارة منذورة للتأثير، مختلفة عن الاستعارة البديعية التي تكون أقل فائدة (ص 110، اللغة والحجاج). إن الاستعارة الحجاجية لا تكون مقصودة لذاتها، بل ترتبط بالمتكلمين وأهدافهم الإقناعية، هي تلك الاستعارة، التي " شغلها المتكلم بقصد توجيه خطابه، وبقصد تحقيق أهدافه الحجاجية، وهي الأكثر انتشارا لارتباطها بمقاصد المتكلمين وسياقاتهم التخاطبية والتواصلية، فنحن نجدها في اللغة اليومية، وفي الكتابات الأدبية والسياسية والصحفية والعلمية (ص 110، اللغة والحجاج).
    إن سمة  التوسيع في مشروع أبي بكر العزاوي تظهر في انتقاله من تحليل الجمل إلى الاشتغال على الخطاب، حيث تابع  الخطاب القرآني من خلال سورة الأعلى، مركزا على الانسجام الحجاجي فيها، وعلى بنيتها الاستدلالية، و على برنامجها الإقناعي العام، ليخلص إلى أن هذه السورة بالقياس إلى السور المدنية "منذورة للوعظ والتوجيه والجدال والحجاج" (ص 120، اللغة والحجاج). وفي اشتغاله على الخطاب الشعري، تابع قصيدة العلة للشاعر أحمد مطر، معتبرا بأن "الشعر الحجاجي هو المنذور للإقناع والتوجيه وليس شعر البراعة والبديع" (ص 36، اللغة والحجاج)، و لكشف حجاجية هذا النص الشعري، توقف الأستاذ عند دلالة الأفعال اللغوية في القصيدة (الأمر – السؤال – النهي )، وتوقف عند رابط "لكن" وعلاقته بردود فعل الشاعر المختلفة، وتوقف عند التعارض الحجاجي بين الطبيب والرقيب في القصيدة، كما تابع  الاستعارة وتأثيرها، والتكرار ( تكرار الروابط والألفاظ والصيغ التركيبية ومقاطع النص ومواقف الشاعر )، وأسلوب الحوار الصريح والمباشر.
   ويظهر التوسيع عند أبي بكر العزاوي، في متابعته للخطاب المثلي، إذ اعتبر، وعلى خلاف  اللغوي الفرنسي مارتان ريجال M.Riégel    بأن الأمثال لا تقوم فقط على علاقة الاستلزام (Implication)، بل تنبني على علاقات أخرى. فضلا على أن الاستلزام فيها ليس منطقيا بل تداوليا وطبيعيا. سيتابع الأستاذ خمسة وثلاثين مثلا مغربيا منها ما يبدأ بأداة استلزامية، ومنها ما يبدأ باسم الموصول. ليستنتج بأن المثل مبدأ حجاجي (يعكس الأفكار والمعتقدات المشتركة بين أفراد مجموعة بشرية معينة)، وبأنه حجة جاهزة قوية مثل الشواهد وأقوال العلماء والحكماء، ولذلك لابد من اعتباره ضمن حجج السلطة (Arguments d’autorité).
    لقد ظهر التوسيع أيضا في الاشتغال على الخطاب الإشهاري، حيث ركز أبو بكر العزاوي على البعد الحجاجي للمكون الأيقوني، محللا العناصر الأيقونية بنفس الطريقة التي تحلل بها الوحدات اللغوية معتبرا أن البنية التصورية التي تجمعهما، هي المستوى الوحيد للتمثيل الذهني الذي تعالج فيه، وبشكل متماثل ومتلائم كافة المعلومات اللسانية والحركية والحواسية، " فنحن نعبر بحواسنا عن دخل كلامي، ونعبر بكلامنا عن دخل حواسي، ونعبر أيضا حركيا عن دخل حواسي أو كلامي" ( ص 116-117، الخطاب والحجاج).
   مع هذا التوسيع، أفاض الأستاذ أبو بكر الغزاوي في التطبيق، معتمدا مقاربة لغوية ملتصقة بالنصوص، محصيا العناصر ومنتبها للأساليب، تقسيما وتجزيئا، فلم تبق آليات نظرية الحجاج في اللغة مجرد مفاهيم، بل تم تطبيقها. لم يغرق التحليل في التضخيم النظري، بل كانت الآليات تجرب نصيا، وتتحرك فاعلة في المتن المدروس غير جامدة في أطرها النظرية، وهذه خاصية أخرى لمشروعه.
   ما ميز كذلك مشروع الأستاذ العزاوي، هو التطوير، فإذا كان ديكرو قد اشتغل على الروابط في الجمل، فإن الأستاذ اشتغل على خطابات متنوعة. وإذا كان أصحاب نظرية أفعال الكلام قد ركزوا على الوظيفة الإنجازية، فإن الأستاذ تابع الوظيفة الحجاجية لأفعال اللغة. وإذا كان المشتغلون بالمنطق الطبيعي قد ربطوا الأمثال أكثر بالاستلزام، فهو وجد في الأمثال علاقات أخرى، كما وجد فيها ازدواجا حجاجيا (مستوى خارجيا ومستوى داخليا)، كما تجاوز آراء تولمين حول الشعر، ليركز في القصائد على البعد الحجاجي. وفي متابعته للحجاج الأيقوني تجاوز مقاربة غريماس وبارت وكريسيان ميتز، أي تجاوز الإطار المرجعي الخاص باللسانيات البنيوية أو السيميولوجية أو البلاغية.
   خاصية أخرى ميزت مشروع الدكتور أبي بكر العزاوي، وهي اعتباره للإسهامات التراثية، والقدرة على توظيفها لخدمة اشتغاله الحجاجي، حيث استحضر حازم القرطاجني وعبد القاهر الجرجاني وسيبويه وابن هشام والرازي، واستحضر علم المعاني (الأساليب الإنشائية)، وذلك لإضاءة تحليله الحجاجي.
   أخيرا إن ما يسم هذا المشروع الحجاجي هو ربطه الحجاج بالحياة العامة، وحاجتنا الضرورية اليوم للحوار وتدبير الاختلاف والتعايش والإقناع والاقتناع، من أجل تجاوز العنف ولبناء وعي مدني ومواطن، حيث ركز الأستاذ العزاوي على حرية التعبير، واعتبر بأن " التربية على حقوق الإنسان تتمثل في التربية على الحوار والتشاور والحجاج والجدل المحمود" (ص57، حوار حول الحجاج). هكذا يكون الحجاج ضمانة للحوار المنفتح، لا الحوار الجامد المتصلب، وهو "الحوار الهادئ الرصين، لا الحوار المتشنج الانفعالي" (ص69، حوار حول الحجاج). إن الحوار المستند إلى الحجاج الذي يحكمه التهذيب والتأدب واحترام الآخر وليس التبليغ فقط، هو ما تحتاجه حياتنا العامة وما يقتضيه حوار الحضارات.
    بانتباهه المبكر لنظرية الحجاج في اللغة، وبتبسيطه وتوسيعه وتطويره لهذه النظرية، وبربطه للحجاج بحياتنا العامة، يكون الدكتور أبو بكر العزاوي قد ساهم وبشكل قوي في إشاعة هذا المكتسب المعرفي الذي تبلور في الغرب، مع تطويره بما يلائم خطاباتنا ومتوننا في الشعر والأمثال والصورة والقرآن الكريم.

 
  (2017-06-19)
رجوع إلى الملف
   
   
مواضيع ذات صلة

-

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia