بانوراما 1. الصّور المتحرّكة د.خالد أقلعي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

ãáÝÇÊ
بانوراما

1. الصّور المتحرّكة

قبل ظهور السّينما بوقت طويل كانت الظّلال ترقص، وكانت الصّور المعروضة تُرسل بحركيّة مجنونة، وكان العلماء يجاهدون للقبض على الإشارات العابرة لهذه الحركة. ظهور السّينما، في الحقيقة، أكبر من مجرّد اختراع؛ إنّه ثورة بكلّ ما تحمله الكلمة من معاني الإبهار والإعجاب والتّغيير...، مصبّ سلسلة من قنوات البحث التي كانت تنمو ببطء خلال فترات زمنية طويلة خلت.كان يبدو وكأنّ الكائن البشري مجبول على سيرورة البحث الدّائم رغبة في تحقيق هذا النّمط من التّسلية البصرية المؤثّرة، التي كان للسّينما أن تتربّع على عرشها.
لقد أسهمت الأساطير والإرث الفلكلوري والمحكيات الشعبية وكلّ الإبداعات المتخيلة الأخرى في استثمار تقنية "المرايا السّاحرة " التي كانت تسمح برؤية العالم من داخل مكروكوسموس Micro cosmos . وكان المتفرّجون، قبل ظهور السّينما بوقت طويل، يستمتعون كثيرا بعروض الظّلال السّحرية، وشرود صور أولى الفوانيس السّحرية. ومع ذلك لم يفتأ أن تولّد لدى الناس، في منتصف القرن الثامن عشر، ميل كبير نحو التسلية البصرية، التي كان عليها أن تستمر عمليا، وبدون انقطاع، حتى ظهور السّينيماتوغراف، وأن تسهم في تطوّر المنشورات البيانية الشّعبية.
شهدت (عروض الظّلال) في كلّ أوروبا إقبالا منقطع النّظير. وبحلول عام 1780 ، توجه رسّام الألزاس ومصمّم الدّيكور المسرحي فيليب جاك دي لوثيربورغ Philippe-Jacque de Loutherbourg إلى المجتمع اللّندني بعرض أطلق عليه اسم إيدو فوسيكونEidophosikon ، ويتعلّق الأمر بمسرح مؤثّرات حيث يتمّ تحريك المشاهد المصوّرة بالألوان المائية عن طريق استثمار خادع للأضواء و الظّلال.
سنوات بعد ذلك، أسّس الرسّام الإسكتلاندي روبرت باركرRobert Barker مؤسّسته المسمّاة "بانوراما Panorama"؛ وأصبحت لوحات باركر الطبيعية الخلاّبة مُتأمَّلة داخل صرحٍ اسطوانيٍ، تخدع البصر الإنسانيّ بواسطة مؤثّر واقعيّ بالغِ الخداعِ.
والحقّ أن هذه الاختراعاتُ العجيبةُ استطاعت، استنادًا إلى تقليدٍ متواترٍ، أن تزرعَ البهجةَ في جمهورِ لندنَ طوالَ خمسين سنة على أقلِّ تقدير! وكان الجمهور، في نفس الآن، يتردّد بشكل جماعيّ لمشاهدة و تأمّل عروض لوحاتٍ واقعيّةٍ ذات أحجامٍ استثنائيةٍ، مثل تلك التي رسمها روبرت كير بورترRobert Ker Porter عندما كان في مقتبل عمره، والتي تمنح انطباعا بطوليّا حول معركة معروفة على الأرض الهندية أطلق عليها اسم "عظمة سيرينغاباتامThe Storming of Seringhapatam "، وقد شهد هذا العرض إقبالا جماهيريا كبيرا في لندن عام 1799.
في عام 1822، شهدت العاصمة الفرنسية باريس Parisانطلاق أولى عروض "ديوراما Diorama" التي كانت بمنزلة إشعار بانتهاء حقبة الرّسوم الفرجوية، وكان العرض الفوتوغرافي الذي أنجزه لويس جاك ماندي داكير Louis Jacque Mande daguerre، تسع عشرة سنة بعد ذلك، بمنزلة إسهام مهمّ في مسيرة تطوّر الكون الفضيّ (السّينما). أمّا الديوراما التي تمّ عرضها في إحدى أمسيات لندن عام 1823، فتتكوّن من لوحاتٍ ضخمةٍ منسوجةٍ بمؤثّراتٍ ضوئيّةٍ دقيقةٍ، وأخرى كثيرة تتغيّر بواسطة تحكّم حاذقٍ بسلسلة من الأجهزة التي تُراقب الضّوء السّاقط على جزء الصّورة الشفّاف من الأمام و من الخلف.
إنّ تسميتي بانوراما و ديوراما تمّ استخدامهما، لاحقا، لوصف طريقة مختلفة تماما في منح الحياة إلى الصّور. في البانورامات والدّيورامات المتحرّكة، تمرّ رسوم متوالية طويلة عبر فتحة ركحٍ لتولّد الانطباع بأننا أمام منظر طبيعي متحرّك، وهو حدثٌ تقنيّ سبق بانورامات السّينما الحديثة.
بيد أنه، من بين التّسليات البصرية المتنوعة، تميّزت الفوانيس السّحرية بكونها الأكثر أهمية في تاريخ الفرجة والأقدر على ضمان الاستمرارية. الفانوس السّحري، الذي لا يزال شكله الأساس حاضرا في آلة عرض الصّور الشفّافة Diapositives، يجسّد نفس المبادئ الجوهرية المتحكّمة في أيّة آلة عرضٍ خاصّة بالصّور المتحرّكة: نافورة ضوئيّة قويّة، مركّزة في منتصفِ تكاثُفٍ، والتي تَعبُر صورةً شفّافةً لأجلِ عرضِ ما يتولّد تجاهها من انطباعٍ رحبٍ، بكلّ ألوانها و تفاصيلها، على شاشة بيضاء.
والحقّ أن الفانوس السّحريّ كان معروفا قُبيل عام 1671؛ فطوال القرنين السّابع عشر و الثّامن عشر، كان مديرو مسرح العرائس، في أوروبا وفي غيرها، يجوبون البقاع المختلفة حاملين معهم فوانيسهم السّحرية بغرض تسلية الجمهور حينًا، وإثارته و إخافته حينًا آخر! إنّ ما كانت تقدّمه الفوانيس السحريّة من مؤثّرات خارقة مرعبة، أخافت الجماهير و كتمت أنفاسها، بل لعلّها هيّأتها بشكلٍ جيّد لتقبّل أفلامِ الرّعب التي شهدها مطلع القرن العشرين.
حتى عام 1970، تمكّن البلجيكي إيتيان روبيرتسون Etienne Robertson من الظّفر بشعبية كبيرة بفضل شبحيّتهPhantasmagorie : ديكور مسرحه أشبه ما يكون بمصلّى قوطيّ، وكلّ أنواع الأشباح: ساحرات وعفاريت تظهر معروضة على الشّاشة. لقد نجح روبيرتسون في جعل صوره المرعبة تبدو وكأنها تكبر وتصغر، وذلك برفع الفانوس نحو جهاز العرض المتحرك الموضوع خلف الشّاشة الشفّافة، والذي يضبط المنظور بغرض التحكّم في البؤرة، بواسطة مؤثّرات مذهلة.
اختراعات روبيرتسون تمّ استثمارها في انجلترا بمهارة من قبل رجل الملاهي نييميك فيليب ستهلNiemiec Philip Stahlوأصحاب فوانيس آخرين أخذوا في تحسين الاكتشافات، كما هو الشّأن بالنسبة لهنري لانكدون شيلدي Henry Langdon Child الذي تمكن من حلّ وزيادة طبع الصّور المعروضة من فانوسين سحريين مختلفين. لقد بلغت الفوانيس السّحرية ذروة الإتقان في انجلترا نهاية القرن العشرين؛ بحيث صمّم علماء البصريات الإنجليز فوانيس سحرية ذات قواعد من فضة وخشب الأبنوس، بنفس الدقّة التقنية التي كانت تتطلب اشتغال فرق كثيرة من العمال.
في الثّلث الأوّل من القرن العشرين، أخذ علماء الفيزياء، بمن فيهم مكاييل فرادايFaraday وبيتر مارك روجيهRoget، في دراسة ظاهرة سبقت ملاحظتها في العصر الكلاسي، وهي المتعلقة «بإلحاح الرّؤية»؛ إذ يبدو أن شبكة العين تظلّ متأثّرة، خلال جزء من الثّانية، حتى بعد أن تختفي الصّور التي كانت سببا في ذلك. توضيح بسيط لهذه الظّاهرة يكمن في الأثرِ المحُدثِ بفعل الحركة السّريعة لنور مصباح، مثلا، في جوف العتمة، والذي يبدو للمشاهد على شكل دائرة ضوء متتالية.
في عام 1833، ومن دون أن يعلم أحدهم ما يفعل الآخر، صنع كلّ من جوزيف بلاتو من بلجيكا وسيمون ستامبفير من النّمسا، لعبة تهدف إلى توضيح هذا المبدأ: تُرسم حول محيط دائرة قرص طائفةٌ من الصّور تَعرض وجوها متتابعة لحركة متتالية، بين صورة وصورة توجد فتحة. عندما يُحرّك القرص بسرعة، ينعكس على المرآة، وعندما تتأمّل انعكاسه عبر الفترات التي تمرّ أمام العينين، يتولّد لديك انطباع بأن ليس ثمّة وجود إلاّ لصورة واحدة متحرّكة! لقد اكتسب هذا الاختراع شعبية سريعة باعتباره لعبة تربويّة، وقد أخذ اسم فيناكيستيسكوبPhénakistiscope وأخذ يتطوّر مع مرور الزّمن و يتنوّع. أما الزيوطروبوZeootropo الذي كان يمثّل موضة إلى حدود 1860 فقد عوّض نظام القرص فيما بعد.
في عام 1892، تبنىّ مسرح رينود البَصَري Reynaud أُسُسَ البراكسينوسكوبيوPraxinoscopio الذي ابتكره الفرنسي إيميل رينود نفسه، وذلك لكي يعرض على الشّاشة، ما يُعرف تاريخيّا، بأولى أفلام الرّسوم المتحركة. بيد أن الأمر لا يزال يفتقد إلى عنصر مهمّ، لكي تقدم أجهزة العرض البدائية هذه صورا متحرّكة، عليها أن تتحمّل عبء رسمِ كلّ الصّور واحدة بعد أخرى. غير أنه في عام 1839، ومع تطوّر جهاز داكيريوتيب Daguerréotypeللفرنسي داكير والكالوتيبو للبريطاني هنري فوكس طالبوت تحوّلت الفوتوغرافيا إلى تقنية إجرائية اعتيادية.
لقد استفاد تقدّم الفوتوغرافيا من اجتهادات طائفة من العلماء،لم يكن لمعظمهم أيّ اهتمام بالصّور، وإنما كان اشتغالهم في إطار البحث عن وسائل ناجحة لتحليل الحركة البشرية والحيوانية خدمة للبحث العلمي.
المصور البريطاني إدوارد مايبريدجEdward Muybridge ، الذي سوف نتوقّف معه في أحد فصول هذه الدّراسة، قضى معظم حياته العملية في الولايات المتحدة، استطاع أن يجد حلاّ عبقريّا بواسطة بطارية آلات تصوير، تُطلق في الأوّل ميكانيكيّا، ثم بعد ذلك كهربائيّا، بحسب شخص أو حيوان متحرّك يمرّ قبالتها. لقد طوّر مايبريدج اختراعه هذا عام 1879، عندما أعاد تكوين الحركات المعروضة بواسطة قرص رسوم متحرّكة، مستندا إلى الصّور الفوتوغرافية، بشكل متسلسل مستمرّ ينتج عنه خلق صورة متحرّكة على الشّاشة. صورة تستطيع أن تتسارع لتكشف عن تفاصيل الحركة.
في أوروبا، تعرّف مايبريدج إلى إيتيين ماري Etienne Marey، وهو فيلسوف فرنسي، قضى ردحا طويلا من الزّمن يبحث ويجرّب مناهج تخطيطية بغرض التقاط حركات الطّيور والحيوانات. أَطلع ماري صديقه مايبريدج على نموذج الفلكيّ جول جانسن Jules Janssen، الذي استطاع أن يلتقط، عام 1874، مرور كوكب فينوس Venus من أمام الشّمس بواسطة "مسدّس فوتوغرافي" على شكلِ سلاحٍ ناريٍّ. آلة التّصوير العبقريّة هذه تَستعمل لوحة دائرية تتحوّل في كلّ مرّة ينفتح فيها السّطام (السدّاد). استنادا إلى هذا المبدأ، استطاع ماري أن يطوّر عام 1882 ما أصبح يعرف "بالبندقية الفوتوغرافية" Fusil photographique القادرة على التقاط اثنتي عشرة صورة فوتوغرافية فردية في ثانية واحدة. في عام 1885، في الولايات المتحدة، استطاع جورج إيستمانGeorge Eastman أن يطور بكَرة (اسطوانة) الفيلم الفوتوغرافي التي أخذت تكتسب شعبية كبيرة فيما يتعلق بالصورة الثابتة عندما تمّت مطابقتها لآلة كوداك الفوتوغرافية Kodakعام 1888. هذا التقدّم أعطى دفعة جديدة لتجارب إيتيان ماري، وشكّل خطوة مهمة نحو اختراع الكاميرا السّينمائية. إنّ آلة ماري المسمّاة بالكرونوفوتوغراف، والمرخّص لها عام 1888،كانت تَستعمل سيرورة أفلامٍ مستمرّة بغرض التقاطِ متتاليةِ صورٍ فرديّة. وعندما ظهرت بكرة أفلام إيستمان الفوتوغرافية عام 1889، شُرع في استعمالها على التوّ. وفي عام 1893، أوحى بصنع آلة عرض مختصّة ببيان الصّور الفردية التي تمّ التقاطها على شكل حركة مستمرّة.
  * ملحوظة: يمنع منعا باتا إعادة نشر مواد هذه السّلسلة، جزئيّا أو كليّا، بأي شكل من الأشكال إلاّ بترخيص موقّع من قبل المؤلّف.
  د.خالد أقلعي (المغرب) (2007-03-07)
رجوع إلى الملف
   
   
مواضيع ذات صلة

-

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia