لقطة مكبّرة السّينمائيّ الفرنسيّ «رُوبير برِيسُون» Robert Bresson (1901-1999) د.خالد أقلعي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

ãáÝÇÊ
  رُوبير برِيسُون    
لقطة مكبّرة
السّينمائيّ الفرنسيّ «رُوبير برِيسُون»
Robert Bresson (1901-1999)

يستخلص بريسون من تجربته في الحقل السينمائي أنه كلّما اشتغل بشكل أوتوماتيكيّ كلّما كان أكثر حركيّة. فالعمل الدراميّ يحتاج إلى مبادرة، وليس له أيّة علاقة بالسّينماتوغراف. « يبدو لي أنه عندما نستخدم آليات المسرح من أجل صنع
أفلام، نكون مثل من يحاول أن يملّس الخشب باستعمال منشار!»

النّظام والفوضى
يعتقد بريسون أن ليس ثمّة وجود لإبداع بدون نظام. وأنه ينبغي استثمار الطبيعة، وإخضاع معطياتها إلى نظام معيّن. فما الذّوق الشخصيّ إلاّ اختيارا فنيّا. فهناك وجود لنظام وفوضى: النظام من أجل الخلق، والفوضى من أجل صنع الحياة. «حاول دائما أن تكشف عن بعض الأجزاء من أجل التّخمين في أجزاء أخرى لا تزال ملغزة. جِد الطبيعة بمكونات الطبيعة ذاتها، ولكن من دون أن تقلّدها. إنّي أجد الأشياء المهمّة في المفاصل والفجوات. فما نعتقده ليس ما نراه، وما نراه ليس ما تراه الكاميرا. تذكّر جيّدا أن ليس ثمّة إمكانية لإنتاج الانفعال من دون تناسب واعتدال. إنه الفيلم ما يمنح حياة للشخصية، وليس العكس. أمّا الخارق فمن الطبيعة، والشعراء الحقيقيون لا يشوّهون الطبيعة.»

التحوّل
يعترف روبير بريسون بأن السّينما، بالنسبة إليه، تمثّل المسرح المصوّر والقاعات حيث نعرض الأفلام في نفس الآن. «إن السينيماتوغراف، في عرفي، بمنزلة مرادف للفن السينمائي. أظنّ أنه ينبغي إيجاد ما هو سينيماتوغرافي، هذا النّظم السّاحر، دعوا الأجيال الشابة تعثر على هذه الأشعار، وسينتهون إلى الكتابة بشريط الفيلم كما نكتب، نحن، على الأوراق بأقلام الرصاص. بالنسبة إليهم، السينماتوغراف بريق، إنه شيء يلمع، كتابة جديدة ينبغي أن تقود إلى اكتشافات مذهلة. ليس ثمّة وجود لفنّ بدون تحوّلات، إذا رغبنا في أن تكون السينما فنّّا حقيقيّا، ينبغي أن يكون هناك تغيير شامل، تقريبا جذريّ، في حقل الصورة. ينبغي أن لا تظلّ الصورة التي نراها على الشاشة بشكل مستقلّ هي نفسها بعدما تدخل في علاقات مع غيرها من الصور. السّينماتوغراف يبِين عن أنفه في اللّحظة التي تتحوّل فيها صورتان كانتا مع بعض!»

السّينماتوغراف وولاداته الثّلاث
يكشف لنا بريسون كيف أن السّينماتوغراف يولد في الذّهن، ويموت على الورق. وأننا نجعله يعيش من جديد مع الشخصيات الحيّة والأشياء التي نستعملها، ثمّ نقتله على الشريط الفيلميّ. ثمّ الولادة الثالثة: حيث يستمدّ، فجأة، الوضع الجماعي، الصّور والأصوات التي أخذناها وثبّتناها على الشّريط، نوعا من الحياة ينتج عن هذا التحوّل المستمرّ للصّور في علاقاتها ببعضها بعض.
«في كتاب ليوناردو دي فنشتي Leonardo Da Vinci* نصادف العبارة الآتية: «فكّر جيّدا في النهاية، فكّر قبل كلّ شيء في النهاية». هذه النهاية، بالضبط، هي الشّاشة التي سوف نعرض عليها الفيلم، وليس الكوميديا الملعوبة من قبل الممثلين و المصوّرين. تماما،كما هو الأمر بالنسبة للرسّام، ليست النهاية هي الطبيعة المرسومة، ولكن، الكتان المطليّ بالألوان. وبخصوص الطبيعة، ثمة وجود لعبارة نعت بها شاتوبريانChateaubriand برود شعراء القرن السابع عشر؛ تقول العبارة: «إنهم لا يفتقدون إلى ما هو طبيعيّ، وإنما يفتقدون إلى الطبيعة». يدفعني هذا للتّفكير في طبيعية المسرح المصوّر وفي طبيعة السينماتوغراف...!»

الخارق للعادة
يتصوّر روبير بريسون الخارق الفيلمي على الشكل الآتي: « الرّيف، هو الأشجار والقراميد... ولكنه، أيضا، ورقة، حشرة.. يبدو لي أنهما الشّكلان المناسبان للنّظر إلى الأشياء بواسطة الكاميرا: النّظر من بعيد، والنظر من قريب. ربّما كان الاقتراب من الأشياء بمنزلة طريقة لرؤية الأشياء الخارقة للعادة. إنّ الخارق للعادة هو واقع محدّد، إنّه الواقع الذي اقتربنا منه أكبر قدر ممكن. شخصيّا، لا أومن مطلقا بالخدعة، لأن استخدامها يجعلنا نسقط في المسرح الخادع. إنّ السّينيماتوغراف هو نفسه خدعة، فما جدوى، إذن، استعمال الخدع داخل الخدع؟!.» ويتعمّق بريسون في تحديد مفهومه للأوتوماتيكية في الفن بقوله:
"للأرجل والأيادي إرادة. إن استقلالية اليد والرِّجل هي التي تقترب من الأوتوماتيكية، نوع من الأوتوماتيكية الكامن في الحياة اليومية، والذي أحاول أن أستثمره في أفلامي الخاصة. ينبغي أن نفرّق بين أوتوماتيكية الحياة اليومية هذه والتفكير المسرحي حيث ينبغي على الممثلين أن يفكّروا في حركاتهم. قال مونتين Montaigne يوما: "تذهب اليد دائما إلى حيث لا نبعثها !""

الأبطال
يعترفُ بريسون بأنّ أبطال أفلامه بمنزلة كائنات يتعلّق بها كما لو أنها كنوز ثمينة. فهو لا يسألها أن تظهر مثل شخصيات، وإنما يدعوها إلى أن تكون ما هي، أن تكون شخصيات فعلا. يصف بريتون تعامله مع الشخصيات:
«تمثّل اللّحظة التي أستأنف فيها التصوير نمطا من التآلف بينهم و بيني، أنصبّ فيهم، وينصبّوا فيّ، إنه نمط من التبادل، من التكهّن، الذي لا علاقة له بإدارة الممثّلين أو الإخراج. أطلب منهم، دائما، أن يجمعوا كلّ ما هو خارجي وأسرِه في داخلهم، أن ينصرفوا إلى ذواتهم، حتّى نشعر أن مجموع ذاتنا هنا. أقول لهم ألاّ يفكّروا فيما يقولون، ألاّ يفكّروا فيما يفعلون، أن يبقوا هم أنفسهم ويتلفّظوا الحوارات. ينبغي قول الأشياء بشكل ميكانيكيّ لكن، في نفس الوقت، ثمّة وجود لمعبر داخل كلّ شخصية ومخرج يبعث الروح في هذه الميكانيكية، فتزرع الحياة في الشخصيات التي تُحيي بدورها الحوار.»

الصّوت والصّورة
وعن طبيعة الصوت والصورة يقول بريسون :«الصوت موحٍ، فهو يخبرك عن الشخصية بشكل أفضل من البصر. والأذن، في اعتقادي، أكثر إبداعا من العين. صحيح أن العين تبتكر، لكنها لا تفعل ذلك في مجالات الصّوت، ولكن الصوت يبتكر في مجالات الصورة.
والحق أنني لا أتردد في تعويض ديكور ما بصوت لو استطعت إلى ذلك سبيلا. المهمّ أن تفسح مجالا أوسع أمام مخيلة الجمهور. بهذا نستطيع أن نصل إلى ما هو أصعب: ألا نظهر الأشياء، وإنما نوحي بوجودها. ينبغي أن نضع الأشياء التي تنتمي إلى العين في جانب، وأن نضع في الجانب الآخر الأشياء التي تنتمي إلى الأذن، ثمّ نستثمر نمطا من المبادلة: عندما تتعب العين نثير اهتمام الأذن، والعكس صحيح. في عالم الأفلام،
ليست الصورة بنفس طبيعة الحياة، على عكس الصوت تماما.»

الإحساس
أمّا عن الإحساس المرهف بالأشياء فيقول: «ليست لي أحكام قيمة على شخصياتي بقدر ما لديّ على نفسي، وعلى ما أفعل. فأنا أحاول أن أُظهر شخصياتي كما أراها، وكما أشعر بها بشكل حدسي. ما هو حقيقيّ، بالنسبة إليّ، هو الإحساس، ينبغي أن نعمل انطلاقا من الإحساس.
أعتقد أنه ليس ثمة وجود لغير نقطة وحيدة في الفضاء يمكن النظر من خلالها إلى الأشياء. لا يتعلّق الأمر بالنظر، ولكن برؤية. الرؤية من خلال عين واحدة. إن ما يصدم، حقيقة، في بعض الأفلام، هو أن الأشياء فيها منظورة بأكثر من عين. ينبغي أن تكون هناك عين واحدة تنظر، وعقل واحد يفسّر. نحسّ بالارتياح في بعض الأفلام حيث لا توجد الآلة في أفضل الأمكنة، سواء عالية أكثر، أو منخفضة أكثر، متقدّمة أكثر، أو متأخرة أكثر. أمّا الموسيقى فتغوص في الوجدان، ثمّ تلمس شيئا ملغزا في أعماقنا؛ تطوّح بنا الموسيقى في نمط من الأجواء الخاصة لاستقبال أشياء ما. وقد استثمرتُها من حيث هي عامل تغيير؛ موسيقى معارضة.»


الله
«هناك عبارة جميلة جدّا لبرنانوسBernanos أُحبّ أن أوظّفها في حوار أحد أفلامي:
"ليس ثمّة وجود لمملكة الأحياء، ولمملكة الموتى، هناك فقط مملكة الله، ونحن نعيش فيها"
أرغب في أن أصل إلى وضع أشياء أخرى على الشاشة غير الأجساد المتحرّكة، أتوق إلى أن أجعل الروح حسّاسة على الشّاشة، أن أستحضر شيئا ساميا، خالدا خلود الحقّ.»
  ***قراءة في تحقيق تلفزيونيّ بعنوان:
)* Bresson, ni vu, ni connu( réalisé par François Weyergans)
  د.خالد أقلعي (المغرب) (2007-03-07)
رجوع إلى الملف
   
   
مواضيع ذات صلة

-

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia