الكاتب والقاريء.. أيّةُ علاقة؟! عبد الحكيم مُعاري
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

ãáÝÇÊ
  عبد الحكيم مُعاري    
الكاتب والقاريء.. أيّةُ علاقة؟!

لكي تكون كاتبا ناجحا ومثقفا واعيا ومفكرا حرا.. تحتاج إلى عبقرية خاصة.. عبقرية في الفن والإبداع.. فحالما تنال من معين العلم قسطا مهما ومن النبوغ فيضا كبيرا ومن البلاغة زادا وفيرا.. تقيّد الأوابد وتضبط الشوارد.. حيث تصبح ينبوعا للحكمة والفضيلة تستنطق الخيال من جهة واقعية فتزيل بُرقع الظلمة الحالكة ثم تضيء سرادب القراء المظلمة؛ تصير السفير الأول للمجتمع.. للقاريء في محافل الإبداع والجِدَّة.. ومؤتمرات الآداب والفكر.
أولا، ما هو الكاتب الناجح والحر؟.. وماذا يضيفُه، ثانيا، القاريء المتتبع، للكاتب في منظومة فكرية وبيئة ثقافية؟
الأديب أو الكاتب عموما هو صاحب رسالة إنسانية، يعي الماضي بحيوية وعمق لينطلق من دوافع التأمل والتجديد فيه، ويواجه الحاضر بإيمان صادق لينفعل مع ظروفه ويُدرك ما يكتنفُها من مشاكل ونزواتٍ، ويستشفُّ المستقبل بإحساسه المرهف ليكشف آماله وتطلعاته وكل خباياه.
أما القاريء، نبض الكاتب وروح الحرف وصَمغُ القلم، فهو رمز للثراء الفكري أو الترف الأدبي، كما هو الحال بالنسبة للكاتب، يستنطق من الحرف خوافيه ومبهماته، ويمنح سواريه في الدجى البهيم نجومه ومناراته، وينصب على طريق القراءة الأجلى والأعمق هواديَه ووِضَاءَ آياتِه؛ يساهم بشكل كبير في استمرار إنتاجية الكاتب وتدفق أفكاره وإبداعه، مثلما يساهم تجهيله أو جهله بوسائل الثقافة وينابيع الأدب في تحجير الفكر والفن وانهيار دُور التفكير والتعبير.
فالقاريء يضيف إلى معطيات المفكر الحر اتجاهات عقلية أخرى وهيئات نفسية تفسح المجال لهذا الأخير بأن يستقي منها بدون اقتار ودون تقليل من أهمية القاريء في ميدان إنتاج الفكر المباشر.. في سبيل الإبداع وفلسفة الإبداع.
فهل تعني مساندة القاريء للأديب، تخويله سلطة فكرية؟ بعبارة أخرى هل الكاتب يعرض أفكاره أم يفرضها؟ وما موقف القاريء حيالَ هذا الأمر؟
الإنسان الحر والمثقف النابغ يستطيع بواسطة موهبته وبصيرته وخبرته أن يصل إلى أعماق مواطينه ويستوعب مشاعرهم وما يدور بخلدهم، يغرس بذور المعرفة العلمية على أوسع نطاق يسوِّق عَبرها إيديولوجيات معينة، فيقوم بطرح فكرٍ مضاد للأفكار السائدة صانعا له عالما مغايرا لما هو موجود..
في اعتقادي لما يستبصر الكاتب القوى الكامنة في قلمه ويستشعر سيطرته على فصوص اللغة وأبجديات الفكر... يُمارس، بدون شعور، سلطته المؤدلجة وفَوقيَته من خلال عرض آرائه على الآخرين وتقديمها على أنها مقدسة.. قطعية الدلالة لا جدال فيها.. ويتحول، بهذا التصرف، إلى ناطورا وحارسا لَيلياً لأفكاره وليس مفكرا حرا كما يدَّعي.. فيكرسُ فلسفة الأنانية وسياسة التبعية تجاه القاريء الذي ينكب بدون تعقل فكري وعين بصيرة على إنتاجاته الفكرية ويتفاعل مع النص بأفكاره الأساسية للوهلة الأولى.. قبل أن يستنطق مضامين المقال وإدراك غاية الكاتب وهدفه الأسمى.. الشيء الذي يجعلنا في نطاق إشكالية جديدة مفادها بأيِّ منظورٍ يتعامل القاريء مع إيديولوجيات الكُتاب؟ فهل يعانقها طـوعا أم كرها؟
القاريء دائما يسعى لإثبات حقوقه المسلوبة.. فيحتفل بالكاتب الذي يسعى لإقرار تلك الحقوق وإظهارها للرأي العام.. إلى درجة أنك تراه يشيد بقلمه ويرفع من شأنه، مساهما في تأصيل سلطة المثقف مبرهنا على نجاحه الباهر.. ولو أن الكاتب لم يصنع جديدا بقدر ما تناول موضوعا يُمارس بشكل كبير في محيطه.. مما يحيلنا إلى حقيقة مُرَّة نجد فيها القاريء يناقش بهيستريا جنونية كل مقتضيات المطروحة من طرف الكاتب، توحي إلى التعصب للحزب أو إلى الهيئة من حيث المضمون والشكل، حيث يشرع في تحرير كل طاقاته ويطلق العنان لفكره يستجلب مباديء الحزب وأفكاره الدوغمائية وقيمه المُختلفة بمثابة حجج دامغة وبراهين قاطعة.. يُحاجُّ بها الأطراف المعارضة مدافعا عنها في نفس الوقت باعتبارها مقدسة لا تقبل التفنيد والدحض، وبالتالي يُمهِّد لسلطة اجترارِ أفكارٍ مُعلبة وإعادة إنتاج نفس العقلية بصياغة مختلفة.. أو تستهويه، من ناحية ثانية، بعض رؤى مفكرين كبار فتُصرفُ نظره عن الصغار.. أو تشده، تارة أخرى، رؤاهم التي رُزقت حظا من الرواج والشهرة.. كنتيجة للفعل الأول والثاني.. فيستغني عن خامل باقي الأطروحات الفكرية.. مُكرّسا بهذا العمل المبتذل منهجا جديدا يؤصل عقلية التبعية، إن لم أقول العبودية، في نفس القاريء وروحه الخالية معتقدا أنّ الكلَّ منزهٌ عن الخطل خصوصا لما تنبثق الأفكار من ذاك الشخص عَينِه باعتباره كيان مفكر عاش تجربة أدبية مهنية واكتسب خبرة فكرية فلسفية أكثر مني ومنك...
طبعاً، هذا لا شك فيه!! فنبوغ المفكر معناه سيرورة شعره وفكره، وإقبال الذوق العام على روايته واستظهاره.. على منوال المثل المغربي العامي: «لي فاتك بليلة.. فاتك بحيلة».. لكن الإشكالية ليست هنا بالذات بقدر ما هي تتعلق بشكل وطيد بمفهوم الزلل.. وكما في علم الجميع، إن الإنسان ليس معصوما من الخطأ .. فكلنا نقع في زلة السهو ونتعثر بالأخطاء.. ومنها طبعاً نتعلم لكيلا نُلدغ من نفس الجحر مرتين.. بل يجب على القاريء أن يستشرف آفاق التعبير والتفسير، ليحقق بإدراكه ووظائفه الفكرية مفهوما فلسفيا آخر يتوافق مع تفسيره الخاص لوجدان الحياة؛ الشيء الذي يجعله معتزا ومفتخرا وهو يُعيد «مكانته الإنسانية» الفكرية ويرتقي بنفسه لمَّا يختار بمحض إرادته ما يتناسب مع توجُهِه الفكري والثقافي، وما يتوافق كذلك مع سبُل الحوار المؤسِس على التنوع والاختلاف كضرورية فكرية.. فيترك للعقل أن يجادل كيفما يشاء ويحلل منتقدا نزيها أو مفسرا حكيما لما جادت به قريحة المفكر في إطار توفير مناخ علمي تنموي بما يقتضيه من الفكر وإيثار للموضوعية.
إن استمرار طواعية القاريء في مداعبة آداب الكاتب واستدرار كل معانيه وقيمه.. يجعلنا مرة أخرى أمام سؤال محوري تكميلي للعلاقة الجدلية بين الكاتب بشكل عام والقاريء الكريم.. تساؤل يقضي بما يلي: أي واحد منهما يؤسس لوجود الآخر، الكاتب أم القاريء؟ بمعنى إلى أيّ حدّ يمكننا القول بأن الكاتب نتاج لتفاعلات القراء ومواطينه؟
فمن الناحية الإبداعية والفكرية والمسؤولية الشخصية والمهنية، نجد الكاتب يواجه تحديا حضاريا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من نضج فكري وقدرة على الخلق الإبداعي وإرادة إلى تغيير الواقع في ضوء منهج علمي وفقَ رؤية مستقبلية وتلاءم مع التاريخ الثقافي والثراث الأدبي.
فالكاتب إنسان مواطن.. والإنسان عامّةً فكر وقلب، ففي الوقت الذي ينطلق في الفكر باحثا عن الأفضل ينطلق فيه القلب باحثا عن الخير والجمال في كل نبضة حياة في مظاهر الطبيعة ولو كانت خرساء.
كما أن الكاتب أيضا ينفعل مع مواطينه بالأحداث، فهو طليعة واعية يمهد السبيل لحركة التغيير، ويُلهِم الجماهير حركة الكفاح وحب الحرية والتطور والتقدم، ويواجه التحديات في دجى الظلام، يُلقي عليها الضوء فيكشف ما يخبّئهُ المجهول من مآزق ومزالق للحياة الإنسانية.
في حين القراء يبرهنون على تفاعلهم المستمر مع المفكر من خلال فلسفة التعقيبات وعلم النقد الفعال الذي يُغني التجارب الإنسانية ويُثري الميدان الفكري والثقافي بتعدد الآراء والرؤى واختلاف التصورات، جاعلة من الكاتب والقاريء، على حد سواء، عنصران متلازمان.. لا غنى لهذا على الآخر.
فالقاريء من جهة يساهم في إنقاد كلمة فن التي تحمل أرقى مفاهيم الإبداع والرقي الروحي، من ألاّ تتحول لقبا لكل ناعق زاعق يُحول الثقافة بمعناها الرمزي إلى عهر فكري.. وألاّ يكثر تمسيح الجوخ، فيصبح المثقف كائنا ينكش وينبش ليجعل من هذا أو ذاك إنسانا فاضلا.. كأنه مفكر مأجور أو كاتب تحت الطلب يشرّع قدسية الأفكار.. وليس مثقفا كونيا لا يرضى بالكتابة إلا في نطاق إثارة قضية فكرية أو كشف عن حقيقة ضائعة أو يبني صرحاً يُسعد الإنسان في ضلالة....
وبناءا على ما تقدم، أقول لا بد من التواصل الفعال والحوار البنّاء مع مراعاة تحديات الفكرية الأدبية في نطاقها الخاص وإشكاليتها المميزة،بين الكاتب والقاريء، وفق إطار يسود فيه مناخ أدبي ثقافي، باعتبار الأدب كيانٌ إنساني فكري... تتلاقح فيه الرؤى الإبداعية والتجارب المهنية مُشكِّلة مادة فكرية فذة تحمل في ثناياها مضمونا عميقا لا يتجزأ عن توجه الكاتب وقناعات الأديب واهتمامات المفكر وأهداف الباحث ورغبات القاريء الكريم.. في إطار يُحترم فيه ذوق الآخر، وحرية التعبير وشغب التفكير وجنون التحليل.. وفق منهجية بيداغوجية تربوية فلسفية ثقافية.. حيث الكُلُّ يرمي إلى حوار تثقيفي تتم من خلاله مناقشة مُجمل القضايا المطروحة ونقدٍ فعالٍ للمضامين المُفتعلة -في منتوج إبداعي مّا -في نطاق احترام للرأي والرأي الآخر.. حيثُ يكون الإختلاف عنصرا أساسيا لتقوية الرابط الإنساني بين مكونات الآداب في ظل مجال فكري خِصب وميدان مليء بثقافة التحاور والتسامح.. لا انزياح نحو الأنانية والانفرادية ولا ميول نحو التعصب والمذهبية.. فقط يكون العقل هو الحاكم دون سواه والمحبةُ قراره على طول مشوار العلاقة الجدلية.

 
  عبد الحكيم مُعاري (2011-06-27)
رجوع إلى الملف
   
   
مواضيع ذات صلة

-

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia