جارات أبي موسى بين الكلمة والصورة عبد الله صرداوي-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

ãáÝÇÊ
  ملصق فيلم "جارات أبي موسى"    
جارات أبي موسى بين الكلمة والصورة

يبدو أننا حين نقرر الكتابة في موضوع ما، نفكر بشكل أساسي في نسج عوالم خاصة جهد المستطاع، ونحاول ما وسعنا الجهد رصد جوانبه المختلفة، مرتكزين على تصورات ورؤى تسائل أهم إشكالاته، وموضوعنا هذا يشق طريقه عبر التحديد أعلاه، ويرمي بالأساس إلى أن يحتك بنموذج لاقتباس فيلمي مغربي انطلاقاً من رواية مغربية. 
لا شك أن عملية الاقتباس هي نقطة انطلاق ونقطة وصول، وهي كذلك نقطة تحول نحو اتجاه قد يكون مختلفاً يحفل في غالبه بمساحيق وألوان غريبة على وسائل الرواية المعتادة، حيث تلبس الكلمات رداءً أيقونياً مبهرجاً. والرواية من خلال هذا التصور ليست غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة تمكن المخرج من أخذ المواد الحكائية الأساسية، والعمل على تحويلها اعتماداً على منهج إعادة بناء يخول للمقتبس مجالاً أوسع لتوظيف موهبته الإبداعية، بهدف إعطاء عمل متميز عن الأول جزئياً أو كلياً، وهنا تكمن خصوصية الاقتباس التي تمنح للقائم بها حرية وفاعلية في إبداء وجهة نظره، ولكنها تبقى مهمة صعبة لأن لكلا النسقين خصوصيات ومعايير وقواعد مختلفة.
فعملية التحويل هي توصيف لمحاولة إعادة إنتاج معنى وشكل النص الروائي وفق نفس وسائل المحاكاة انطلاقاً من صور مادية، وعملياً فهي انتقال من صيغة مكتوبة أدبياً تعتمد على لغة دقيقة مقتصدة ومكثفة، إلى صيغة أخرى مرتبطة بالمجال السينمائي(1)،  هذا الانتقال يشترط فيه نصيب من التوافق بين شكل المادة الأدبية وشكل تمثيلها في عالم الصورة. وهنا سنحاول أن نشير إلى أهم المعالم والمعاني المشتركة وسنقف على بعض أوجه الاختلاف كما سنسعى إلى توضيح بعض آليات التحويل من الرواية إلى السينما، متخذين نموذج اشتغالنا من رواية "جارات أبي موسى" لأحمد التوفيق المقتبسة لإعداد فيلم بنفس العنوان للمخرج محمد عبد الرحمان التازي. 
تعتبر رواية "جارات أبي موسى" للمؤرخ والمحقق أحمد التوفيق، رواية تاريخية واقعية تصور مرحلة غير سعيدة من تاريخ المغرب إبان حكم بني مرين بمدينة سلا في القرن 14. يرسم الكاتب لوحة لتاريخ تلك المرحلة وأعرافها الاجتماعية والثقافية من خلال قصة " شامة " وهي الشخصية الرئيسية التي حولها تلتف خيوط الحكي من خلال حضورها في كل أحداث الرواية، فشامة الخادمة عند قاضي المدينة "ابن الحفيد" راعيها وكفيلها، ستتزوج قاضي السلطان "الجورائي" الذي يحضر في الرواية كرجل محب وصادق. سترحل شامة مع زوجها إلى مدينة فاس حيث كادت أن تتعرض للموت سماً بسبب مكيدة زوجة الجورائي الأولى لولا تدخل الطبيب اليهودي الذي أنقد حياتها. تتوالى محن شامة وهي تتقلب بين القصور حيث تعرضت لمضايقات جمة من طرف العامل (جرمون) هي وزوجها الثاني (علي سانشو)، ومع توالي الأحداث ستسوق الأقدار شامة وزوجها لمجاورة الرجل الصالح (أبي موسى) في فندق الزيت، وأمام إصرار العامل جرمون للتفريق بين الزوجين والتضييق علىهما، ستلجأ شامة إلى أبي موسى وتطلب منه اصطحاب زوجها معه في خرجاته. ولم تكن شامة هي الوحيدة التي جاورت أبى موسى بل سبقتها "خوليا" ووالدها "بيدرو"، ولزرع الفتنة وتعكير صفو العلاقة بين شامة وزوجها علي وجيران الفندق، دس العامل جرمون تودة المرأة الفاسقة التي ستنجح في جر "خوليا" إلى عالم الفساد، مما اضطر الجار بيدرو للرحيل تجنباً للفضيحة. وتتوالى أحداث عصيبة على شامة ونازلي الفندق وسكان مدينة سلا التي كانت تعيش فترة جفاف حاد، وعلى إثر ذلك ستطلب شامة من أبى موسى الخروج لصلاة الاستسقاء، وأمام إصرارها سيلبي طلبها مصطحباً جاراته إلى المصلى متضرعاً باكياً طلباً للمطر، ويحدث أن يستجيب الله لأبي موسى وجاراته، فتكون البشرى بنزول الغيث...
في خضم أحداث الرواية يستوقفنا توجه ظاهر تتبعه وتندرج في إطاره رواية "جارات أبي موسى"، فهي تستعرض تجربة صوفية تخييلية عرفانية ذات أبعاد مناقبية واجتماعية وسياسية واقتصادية إبان حكم بني مرين. وتتفاعل الرواية مع التراث مستهدفة تأصيل أساليب وطرائق تعبر عن هوية ثقافية ضاربة بجذورها في أعماق تاريخ تراثي صرف، حيث تضعنا الرواية منذ البداية أمام محطة صعبة في تاريخ المغرب، فقد توسل الكاتب كل ما هو تاريخي لخدمة الحدث الروائي، مستدعياً عالم الكرامات والولاية، بغرض بناء ضمير جمعي هو عالم بطل تنسج حوله حكايات التقديس وكرامات الأولياء ومناقبهم المتعالية والخارقة، وهي ما يميز الشخصية المحورية في الرواية "أبى موسى"، من خلال تفاصيل حياته الصوفية من أكل وتعبد، وكذا كراماته الممتدة عبر الزمان والمكان، هذا النزوح الصوفي كان له ما يبرره، وضع غير سعيد كانت تمر به الدولة المرينية، في وقت انتشر فيه الفساد بكل أنواعه وتعاظم الاستبداد وكثرت المحن، هذا الوضع سيبرز معه رجال التصوف والمجاذيب وخطاب الأولياء على هامش المجتمع، رافضين واقعهم لاجئين للعزلة والخلوة الصوفية باحثين عن واقع بعيد عن مجتمعهم المتردي ومواضعاته المختلة، وقد شكل هذا المعطى الصوفي الإطار الذي تحركت خلاله رواية أحمد التوفيق.
    تمتد أحداث الفيلم على مدار ساعتين، وهو من إنتاج شركة الفنون والتقنيات السمعية البصرية، كتب له السيناريو أمينة مولين بمشاركة المخرج، وتصوير فديريكو ريبيس ومونتاج كاهنة عطية وأعد له الموسيقى يونس ميكري ومن تشخيص كل من بشرى شرف وعمر شنبوط ومحمد مفتاح ونعيمة المشرقي وعبداللطيف هلال..... 
يستغرق فيلم جارات أبي موسى مائة وأربعة وسبعين مشهداً، تستهل برؤية عامة يصف فيها المشهد الأول وصول أبي سالم الجورائي في موكب بهي، وداخل إطار وصفي، مكاني تاريخي، تمثله شالة الأثرية الضاربة في القدم، تستقبله شخصيتان بارزتان في الفيلم هما ابن الحفيد والعامل جرمون، ويكشف لنا الفيلم منذ البداية أننا أمام صراع يمثل قطبيه هذان الأخيران، والواضح أن المخرج هنا استطاع منذ اللقطة الأولى أن يوهم المشاهد (القارئ للرواية) أنه سيساير أفق توقعه وسابق معرفته بأحداث الرواية، لكن الأمر سينحو نحواً مغايراً تعمده المخرج في محاولة للخروج من جلباب الروائي، حيث وضع نصب عينه ليس متابعة النص باعتباره شواهد واقع تاريخي موضوعي وإنما النظر إليه  كعالم متخيل كونته ضمائر شخصيات الرواية وأدركته وتخيلته، نائياً بنفسه على السير الأعمى وراء أحداث الرواية التي تتوقف كثيراً عند ما هو تاريخي مناقبي، معلناً منذ بداية الفيلم على نية واضحة تسمح لنفسها بفسحة من الحرية تطالع بها الرواية انطلاقاً من رؤية متفهمة لمعنى عملية التحويل والاقتباس.
     إن كاميرا محمد عبد الرحمان التازي قد حرصت ولا شك على تشييد قنطرة للالتقاء بين عالمين تعبيرين مختلفين، من خلال اقتباس الرواية بوساطة تعبيرية أيقونية هي تقنية السيناريو تحديداً، وهو قد استعان على كتابته باسم غير متداول سينمائياً (أمينة ملين) دافعه إلى هذا الاختيار كان قربها ودرايتها بأصول التصوف. وإذا تأملنا الفيلم في عمومه، نجده أنه عاش وسط الجو العام للحكاية المنقبية الأصل والتي احتفت بها الرواية مع اختلاف في طريقة المعالجة والتمثل، حيث يمكن اعتبار ما هو صوفي ومناقبي البؤرة السردية للرواية والفيلم معاً، وإن كان السيناريو تحايل على أحداث الرواية بأن قلص حياة أبى موسى على مستوى كتابة المشاهد الخاصة به، وغلب أحداثاً سياسية أخرى تتعلق بشخصية الجورائي والعامل جرمون والقاضي ابن الحفيد، في الوقت الذي تحبل الحكاية في الأصل بالتفاتة كبرى لشخصية أبى موسى الرجل الورع المقرب إلى الناس والنموذج للمشيخة والمثال للاستقامة والثقة، بل إن الفيلم قد تاه وسط الوقائع السوسيوتاريخية التي طبعت معالم المجتمع المغربي، وركز على الوضع الهابط والمدنس ووقف كثيراً على مظاهر الفساد والظلم والقهر والجفاف واستياء الناس من هذه الوضعية، بينما أغفل نسبياً الأجواء الروحانية التي صاحبت ظهور شخصية أبى موسى في الرواية، كشخصية مترفعة على الدنيا وزاهدة بعيدة عن انشغالات السلطة ومثال إنساني على قدر كبير من الرقي الروحي والصوفي، حيث اختار المخرج أن ينساق وراء شخصية شامة فأعطاها وضعاً اعتبارياً خاصاً جعلها تكون الشخصية المحورية في الفيلم، فقد ظهرت هذه الأخيرة في الفيلم أكثر من 60 مرة بينما لم يتعدى ظهور أبى موسى 30 مرة وسط كادرات هامشية ومعزولة ( المقبرة/المغارة/البحر...).
 ويبدو أن محمد عبد الرحمان التازي دخل التجربة وهو واقع تحت تأثير شغفه بالتراث، خصوصاً إذا علمنا أن جل أعماله لم تخرج عن محاكاة واقع التراث المغربي القديم، حيث كان ارتكاز مشاهد الفيلم على الواقع التراثي  كفتنة والتفاتة عاشقة من المخرج تميل إلى إعطاء دور للأشياء والإنسان وإلباسهما رداءً تمييزياً  يكشف عن الفجوات والعوائق المسكوت عنها في فترة معينة من خلال بعض اللحظات الإنسانية المنفلتة. ساعده في ذلك حيوية النص الروائي الذي جعله الكاتب ينبض تراثاً وتاريخاً، الشيء الذي دفع المخرج ليعمم أسلوب المحاكاة المباشرة في الارتكاز على الواقع وتغليبه على بنيات الفيلم الأخرى (الحوار/الشخصيات)، ما جعل الفيلم يتدفق عفوياً وخالياً من عناصر الجدب المبالغ فيها والمعتادة في أفلام الاقتباس. كما أن الفيلم وعلى طول مشاهده يكثف من عناصر الصراع و القمع والرحيل والهامش والصوفي والمناقبي المتواجدة أصلا في صلب الرواية، لذلك سيتعين علينا أن ننظر إلى الشريط كعمل سينمائي قائم على عمل أخر وأن نتعاطى معه كخطاب سينمائي ينطق بلغة سينمائية تسجل هويتها ضمن إطار سابق هو لغة الرواية. على أنه ومن خلال المعالجة التصويرية للفيلم يبدو أن المخرج لم يستطع أن يجاري الزخم الكبير للمحكي الروائي، فرغم الاجتهاد الواضح للقبض على مستويات من التناول ترمي إلى استثمار أكبر قدر من المشاهد، فالفيلم جاء بطيئا وعاديا في عمومه رغم تفوقه في التأثيث والديكور، كما أن الحوار والذي أنجزه الزجال والمسرحي الطيب لعلج خيب أفق انتظار المتلقي في توسله بمعجم لا يحيل إلى ماضي بقدر ما يفصلك عن متخيل الفيلم وأحداثه، والتي تعكس فترة قديمة من تاريخ المغرب، كما أنه كرس فراغات وانفلاتات مشهدية بسكوته عن أشياء من صميم الأحداث، وغفل عن تدعيم المشاهد بمعلومات كعامل مساعد للمتلقي على فهم بعض الحيثيات، خصوصاً وأن الصورة في الفيلم لم تقدم كل شيء. ويبقى الحوار دائماً مقيداً ضرورةً برؤى كاتب السيناريو وإن تكفل به شخص أخر كما هو حال نموذجنا، ويكون مختصراً ومختزلاً ومعبراً عن المواقف ودالاً على اللقطات ومعيناً لها على إيصال المعاني، وغير مبتدلاً ومبنياً على لغة قريبة من الإفهام وهي حال لغة الحوار في الفيلم حيث جاءت وسطاً بين الفصحى والعامية المغربية.  وهذا من بين أهم المشكلات التي تعترض نقل الأعمال الأدبية إلى الشاشة، فالرواية تكتب غالباً بالفصحى، واللغة السائدة في السينما غالباً هي العامية، وفيما عدا الأعمال التاريخية أو المترجمة عن أصول عالمية، فإننا لا بد أن نسلم بأن الإقناع بواقعية ما يقدمه العمل الفني لا يتم إذا تحدث الممثلون بلغة غير التي يستخدمونها في حياتهم العامة، وقد جرى هنا تجريب حل توفيقي يرمي إلى استخدام لغة وسط وهي أشبه باللغة التي يتداولها المثقفون في حياتهم العامة، وهذا يبقى حلاً وسطاً، لأن كثيراً من فئات المجتمع لا ترقى حتى إلى هذه اللغة الوسط ويرون فيها ترفاً لغوياً وتمييزاً ثقافياً، لذلك فإن الأدب المغربي يحتاج لدى تحويله سينمائياً إلى كتاب سيناريو متمكنين في مجال الحوار، الذي يحمل نبض الحياة اليومية، ويعبر عن مستوى الشخصيات الثقافي والاجتماعي. فالمراد من التعبير في الرواية يختلف عنه في الفيلم، فالكلمة المكتوبة وطبقاً لسيميائية اللغة منتهاها القاموس اللغوي ليحدد معناها، أما الصورة البصرية فمعناها مفتوح على أقصى ما يمكن استخراجه من رموز ودلالات. وعموماً ليست هذه قاعدة يجب الأخذ بها لأن درجة ثقافة ووعي الكاتب من ناحية، ومخرج العمل السينمائي من ناحية أخرى، يلعبان دوراً محورياً وأساسياً بخصوص ثراء وقوة التعبيرات الدرامية المتحولة من الكلمة إلى الصورة. وفي هذا السياق يجدر بنا أن نذكر أن الرواية جاءت ثرية بتعدد هواجسها وصورها الواقعية والمناقبية، وقد حاول الفيلم أن يقدم إضافة تعبيرية تنضاف إلى نجاح النص  الروائي، ولا غرو أن عملية تحويل الروايات إلى الشاشة، حتى تلك التي تبدو وفية للنص الأصلي تولد شعوراً جمالياً يختلف كل الاختلاف عن ذلك الشعور الذي تولده قراءة الروايات الأصلية.
ويظهر أن محمد عبد الرحمان التازي ارتبط كثيراً في تشكيل فضاء الفيلم بالوقائع المدركة في الرواية، وصنع بتصويره المعتمد على اللقطات الممتدة والطويلة واقعاً شكله حسب رؤيته الخاصة، كما اجتهد في مخادعة معرفتنا وثقافتنا كمشاهدين في محاولة لنزع اعتراف بواقع تخيلي أضاف شيئاً ما (مشهد دلالة النساء في الفندق مثلاً)، فالسينمائي لا يكتفي في الاقتباس بإعادة الكتابة وإنما يصنع وقائع جديدة (مشهد الحيوانات في الموكب/مشهد الفندق) وأشياء تلبي أفق انتظار المشاهد.
والأكيد أن الفيلم ارتقى بصوره إلى مراتب جمالية مريحة، تنبعث أساساً من صياغتها المباشرة وأبعادها الأيقونية المرتكزة على جوانب تتم صياغتها من خلال العناصر التقنية ( طرق التركيب- عمق الرؤية- نوعية الإطار- المسافة بين الكاميرا وموضوع الصورة، الإنارة ...)، ولامس واقع الرواية الأصلي كما يؤشر عليه الروائي. من هنا يجوز لنا أن نعد الرواية والفيلم في جوانب كثيرة مثل الوجه والقفا لنفس الخطاب الذي يبدي كل واحد منهما عوارضه ونتوءاته تحت مظاهر متناوبة قد تصلح عند هذا وتغيب عند الأخر.
ولا شك أن المخرج في مشاهد مختلفة من الفيلم لم يأبه بالثقل الأدبي للرواية واستطاع أن يتجاوز بالتغيير صوراً ووقائع جاءت مهمة برمزيتها في الرواية، كصورة شامة الشقراء في الرواية " ...ودخلت إلى القبة فتاتان تحملان الطست، خادمة سودانية شابة تحمل جفنة الغسيل، وشقراء فارهة تحمل البقراج الذي به الماء وعلى كتفها فوط بيضاء. لم يكن ابن الحفيد ينتظر ظهور خادمته الشقراء واسمها شامة " (الرواية ص8 )،  والمغايرة  تماماً للممثلة التي جسدت الدور "بشرى شرف" الفتاة الغير الشقراء تماما والمتوسطة الطول، كما يتزكى الاختلاف أيضاً في تجسيد شخصية أبى موسى، سيظهر مبكراً في الفيلم (المشهد الثالث) أما في الرواية فلا نقف عليه سوى في الأجزاء الأخيرة، زد على ذلك أن موت هذه الشخصية يعلنه الكاتب بشكل صريح في الرواية أما المخرج فيبقي عليه حي يرزق، وهذه تجاوزات فيها خيانة –غير جميلة- للنص، حيث يرى جان كلود كاريير :" أن السيناريست أو المخرج عندما يقوم بعملية اقتباس لعمل أدبي له وضعه الاعتباري الفني يعترضه سؤال يطرح نفسه ... صاغه بقوله "... إذا كتب بروست بأن دوقة كيرمونت كانت شقراء، ولها أنف أقني وتتحدث بطريقة خاصة، هل لنا الحق وبما أننا نستعمل اسمه أن نتصورها سمراء وتتكلم بطريقة أخرى" (2)، طبعاً هذا تساؤل أجاب عنه التازي إيجاباً معتبراً أن الممثلة بشرى شرف لم تسئ إلى شامة واستطاعت بحساسيتها وهدوءها وحسن أداءها أن تنتزع للمخرج هذا الحق في الخرق والتغيير. ويحضرني هنا ما قاله المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي حول اختلاف أحد شخوصه في فيلم " إيفان L’enfance D’ivan"  " كل ما يتعلق بالممثلة فاليا ماليافينا كان متعارضاً مع وصف الكاتب بوجومولوف للممرضة. في القصة هي فتاة سمينة، شقراء، ذات صدر ناهد وعينيين زرقاوتين. فاليا كانت نقيض تلك الصورة: فهي ذات شعر أسود، وعينين بلون البندق، وجذع صبياني. مع ذلك، كانت تمتلك شيئاً خاصاً، أصيلاً، غير متوقع، والذي لم يكن موجوداً في القصة. وهذا كان مهماً أكثر، مركبا أكثر، ويمكن أن يفسر الكثير بشأن الشخصية"(3)
لقد حاول المخرج محمد عبد الرحمان التازي من خلال تكثيفه للعناصر الايجابية المتعلقة بإدارة الممثل والديكور واجتهاده في تنسيق محتويات مشاهده أن يتوصل على نحوها إلى تسوية فنية، ويبدو أن اختلاف المرجعيات وتفاوت نقط الانطلاق الجمالية بين المخرج والكاتب جعل من الصعب الوصول إلى الحلول، لكن هذا لا ينفي حيزاً مهما من التوفيق جعل الفيلم يتخندق بحسب قيمته الفنية والإبداعية والفكرية ضمن التوجه المؤسس للأعمال المنحازة إلى معتمد الأدب، وهو ما زاد إلى حد ما من الرهانات التي حملتها أفلام التازي السابقة كابن السبيل وباديس ... ، من أجل بلورة توجه فيلمي في السينما المغربية يزاوج بين الطموح لخدمة القضايا الفكرية والجمالية المؤسسة لقيمة الفيلم المغربي عامة والفيلم المقتبس عن عمل أدبي، وبين الطموح لخدمة مسألة الانتشار الواسع لدى الجمهور المغربي، وسط مناخ عسير ومخنوق لا يتنفس فيه المخرج والروائي معاً إلا مصاعب ومشاكل، كل هذا في غيابٍ لجسور متينة تضمن سلامة العبور من الرواية إلى الشاشة، وتسيد ثقافة الاعتراف بين الكاتب والمخرج بدل ثقافة اللإلغاء الضاربة جذورا في مشهدنا السينمائي المغربي.

  هوامش:
(1)مجدي وهبة وكامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب. مكتبة لبنان 1979.
(2)حمادي كيروم، الاقتباس من المحكي الروائي إلى المحكي الفيلمي. 2005 مطبعة وزارة الثقافة الطبعة الأولى.
(3)أندريه تاركوفسكي، النحت في الزمن. ت.أمين صالح. الطبعة الأولى. الثقافة والتراث الوطني، ص.31.
  عبد الله صرداوي-المغرب (2013-12-27)
رجوع إلى الملف
   
   
مواضيع ذات صلة

-

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia